fbpx

إشكالية العلاقة بين العمل الحقوقي الإنساني والنشاط السياسي

0 86

لقد غدت حقوق الإنسان ظاهرة عالمية، وحركة نشطة ومقاوِمَة لكلّ حيف أو عسف يلحق بالإنسان لرفع الظلم عنه حتى ظنّها كثيرون أنها “شكل جديد من أشكال الممارسة السياسية”[1]، فشبحُ السياسةِ يطاردنا باستمرار فلا ننفك منه، وأصبحت حقوق الإنسان موجة عاتية تُلزمنا بالمزيد من المطالبة والعمل على رفع الظلامة عن الإنسان المستضعف والمنتهكة حقوقه أينما وجد، بغض النظر عن جنسه، أو لونه، أو أصله الوطني والاجتماعي، أو دينه، أو قوميته…؛ لأنّ الإنسان هو القيمة المطلقة – في هذا الكون على اتساعه – التي لا يمكن إنكارها، أو تجاهلها، أو تهميشها، أو تحييدها.

لقد اتسع نشاط حقوق الإنسان بشكل كبير في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وازداد في القرن الواحد والعشرين، وأصبحت مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما تلاه في العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية، وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما تلاها من معاهدات واتفاقيات ومواثيق، ملزمة التضمين في دساتير الدول كافة؛ لأن الإعلان يُعدّ أهم وثيقة دولية اشتملت على الحريات والحقوق الأساسية للإنسان، وبه أكدت الأمم المتحدة أنه أسمى ما ترنو إليه البشرية لتحقيق السلم العالمي لما تتمتع به حقوق الإنسان دولياً بحماية القانون، وتنمية علاقات الود والصداقة بين الشعوب، وتساوي الرجال والنساء في الحقوق، وتحسين مستوى حياتهم في جوّ من الحرية، والعدالة والمساواة.

وما تزال سياسة الدول من خلال برامج أحزابها السياسية الحاكمة، ومصالحها السياسية والاقتصادية تنظر إلى الإنسان ورفاهيته وسيلة للوصول إلى السلطة، وهي غايتها الأولى لتحقيق رؤاها وبرامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تنعكس على حياة الإنسان إيجابياً، وقد تُصاب بالتراجع والفشل أحياناً، إذا ما تراجعت ممارسة الديموقراطية، وتفشّت البيروقراطية، وطلّ الفساد برأسه ليحرف خطها المرسوم في برامجها، فتُهضم حقوق الإنسان، وتتراجع مؤسسات المجتمع في غياب الهامش الديموقراطي، ومن المعلوم “أنه لن يكون هناك التزام حقيقي بكل ما يسمى” حقوق الإنسان” من الكثير من دول العالم التي تُحكم بالاستبداد، خاصة في بلدان الشرق الآسيوي والعالم الثالث في أفريقيا وأمريكا اللاتينية. والسبب بسيط، هو أن مبادئ حقوق الإنسان تتعارض بشكل جوهري مع كثير من نظم الحكم في تلك الدول”[2]؛ لأنّ الديموقراطية هي الركيزة والضمانة الأولى لعمل حقوق الإنسان ونشاطاتها الخيّرة لتحقيق مبدأ الحرية والحياة الكريمة للناس جميعاً.

وفي هذا المجال يلاحظ التفاعل بين العمل الحقوقي الإنساني والنشاط السياسي إذ يغتني كلّ منهما بفكر الآخر إذا ما توفر لهما حرية العمل في الواقع الاجتماعي “فحركة حقوق الإنسان (والنشاط المدني عموماً) لا يمكن أن تحلّ محل الفعاليات الحزبية، وفي الوقت ذاته يستحيل أن تحقّق وثبات كبيرة إلى الأمام في أيّ من مجالات الحقوق إلّا من خلال تنشيط هذه الفعاليات، وبالمقابل فإن الأحزاب السياسية لا تتفعّل وتغتني وتتطور إلّا بوجود مجتمع مدني فاعل ونشط”[3].

وكما أنّ نشاط الحراك السياسي متطور بفعل حركة المجتمع والتطور الحضاري، فإن حقوق الإنسان متطورة مع الزمن، وبما يفرضه تطور الحضارة البشرية، فهي نتاج البشرية كلّها، وليست مقصورة على شعب ما. واليوم، تنصبّ الجهود الفكرية لغرس مبادئ حقوق الإنسان ثقافة ومنهجاً عملياً، وذلك باتساع المناداة بها، وبممارسة الحياة الديموقراطية. فالعمل الحقوقي الإنساني والنشاط السياسي متكاملان، ومتلازمان، ومتداخلان؛ لأنّ النشاط السياسي يُعدُّ من صلب عمل حقوق الإنسان لتحقيق حياة كريمة، لكن شريطة تغليب العمل الحقوقي الإنساني على النشاط السياسي؛ لأنه لو حصل العكس سيفقد العمل الحقوقي الإنساني مصداقيته، ويبتعد عن أهدافه، ومرجعيته، وحياديته المطلقة في الممارسة، ولن تتحقق مهمته الإنسانية التي كرس عمله من أجلها.

يصف رئيس المنظمة الدبلوماسية العالمية الدكتور هيثم القرعان هذه العلاقة المتلازمة والدقيقة بين العملين: “يوجد خيط رفيع بين النشاط الحقوقي والنشاط السياسي، وفي الكثير من البلدان العربية ودول العالم الثالث يمكن أن تجد صعوبة في التفريق بينهما، ومن النادر اليوم أن تجد التزاماً صارماً بالعمل الحقوقي بمعزل عن العمل السياسي، على الأقل وفقاً لتجارب شهدناها في القرن الماضي؛ لأنّ الكثير من السياسيين من توجهات مختلفة حاولوا استغلال العمل الحقوقي لتنفيذ أغراض سياسية”[4]، ويشير الباحث الدكتور حمزة الحسن إلى أن الناشط السياسي “في بعض الأحيان يضطر لاعتماد مقاربة حقوقية لتحصيل تلك الحقوق السياسية، حتى لا يُنظر إليه كمعارض سياسي فيتم قمعه”[5] في كثير من الدول.

وتعود أهمية هذه القضية إلى أن السياسيين في بلدان العالم الثالث ومنها العربية، هم الذين ساعدوا على نشوء وتأسيس المنظمات الحقوقية في بلدانهم، وربما لم يراعوا كثيراً ضرورة الموازنة بين العملين “الحقوقي الإنساني والسياسي” مما عرض حركة حقوق الإنسان في هذه البلدان إلى محاولات تسييسها أو تهميشها إذ “تعتبر قضية العلاقة بين “السياسة” و”حقوق الإنسان” على الصعيد النظري وما يرتبط بها على الصعيد العملي من محاولات لتسييس حركات حقوق الإنسان أو عزلها على التدخل في الشأن السياسي، إحدى أكبر المشاكل التي تواجه هذه الحركات في المنطقة العربية، وتعود جذور هذه المشكلة إلى ظروف نشأة هذه الحركات التي اعتمدت أساساً على العاملين في الحقل السياسي العام”[6].

وهذا الأمر ترك آثاراً واضحة على حركة حقوق الإنسان، وجدلاً كبيراً بين النشطاء العاملين في الحقلين (الحقوقي والسياسي)، وعلى النشطاء السياسيين الذين يعملون في المجال الحقوقي أن يتنبّهوا إلى الفوارق بين العملين، وأن يحسبوا خطواتهم جيداً عندما ينشطون في حركة حقوق الإنسان.

لقد اشتد الجدل بين نشطاء العمل الحقوقي الإنساني والنشطاء السياسيين حول الفوارق بين العملين “الحقوقي الإنساني والسياسي”، وهل يمكن الفصل بينهما أم هما متكاملان ومتلازمان ومتداخلان؟ وللإجابة عن السؤال، لا بدّ من توضيح أنّ: “محاولة فصل حقوق الإنسان عن السياسة هي كمحاولة فصل الملح عن البحر، فعلاقتهما المتداخلة أمر واقع لا فكاك منه، وفصل أحدهما عن الآخر عملية معقدة كمحطة تقطير ماء البحر ينتج عنها الماء العذب. التداخل بينهما منطقي، فالسياسة تتعامل مع الإنسان كونه موضوعاً لهيكل بناء القوة في المجتمع، وحقوق الإنسان تتعامل مع الإنسان كونه قيمة مطلقة لا يمكن تحييدها، أو تهميشها في حلبة صراع القوة المدمر للإنسان”[7].

ولهذا فإن عملية الفصل بينهما عملية دقيقة جداً، وعلى الحقوقي أن يتنبّه إلى أن فقدانه للبوصلة الحقوقية يحرفه عن أهداف عمله الحقوقي الإنساني إلى ممارسة السياسة، وهذا خطر يتهدد من يعمل في المجالين كليهما معاً، بخاصة في الدول النامية لأنّ النشاط السياسي فيها سبق النشاط الحقوقي الذي ما زال يتلمّس طريقه الصعبة في تلك المساحة الضيقة والمتاحة لظروف العمل الحقوقي الإنساني؛ لذلك على الناشط الحقوقي: “أن تكون مواقفه محكومة بالمسطرة الحقوقية، وأيّ شطط عن ذلك يُخرج ذلك الناشط من المنظومة الحقوقية إلى المنظومة السياسية، وهو اختيار رسب فيه كثيرون فاتخذوا مواقف سياسية لا حقوقية…”[8]؛ لأنهم فقدوا مسطرتهم الحقوقية. وهذا الأمر له خطورته كما يشير الدكتور هيثم القرعان: “إن تخطي الخيط الرفيع الذي يفصل بين النشاط الحقوقي والنشاط السياسي أمر خطير، ومازال من الصعب أن تجد التزاماً صارماً بالفصل بينهما إلّا مما ندر، وإنْ كان كل منهما سيظل يؤثر في الآخر”[9]، وعلى العاملين في الحقلين الفصل بين العملين؛ لأن أدواتهما مختلفة، وآليات عملهما مختلفة، فما يجوز للناشط السياسي عمله لا يجوز للناشط الحقوقي القيام به. يؤكد الباحث الدكتور حمزة الحسن: “لهذا كان لا بدَّ من الفصل بين الحقلين (الحقوقي والسياسي) خشية تسييس العمل الحقوقي، فما هو جائز للسياسي، ليس بالضرورة جائزاً للحقوقي”، ويضيف إن “ارتباط العمل الحقوقي المباشر بالعمل السياسي المعارض، يمثل مفسدة له، أو على الأقل يضعفه من حيث قدرته على الإقناع، والحشد لأطياف متعددة الثقافات والبيئات الجغرافية والدينية والسياسية للدفاع عن قضية بعينها، من أجل أن ينجح لا بدَّ أن يتحرر الناشط الحقوقي من القيد السياسي الخاص به”[10].

فالناشط في المجالين (الحقوقي والسياسي) كليهما كلاعب السيرك الذي يرقص على حبل مشدود إذا لم يحسن تنقيل خطواته بمهارة ودقة سيسقط قبل الوصول إلى النهاية، ويُفقد تصفيق النظّارة. من هنا يُّرى لزامٌ على كلّ من النشطاء الحقوقيين والسياسيين أن ينتبهوا إلى ما بين عمليهما من اختلاف في الأهداف، والمرجعية، وطبيعة العمل، والحيادية:

أولاً: الأهداف

إنّ أهداف كلّ منهما تختلف عن الآخر، فلكل من النشاطين (الحقوقي والسياسي) مرجعيته، وأهدافه، وأدواته المختلفة “حتى لو اشتركا في ذات القضايا، ودافعا عن ذات الأهداف، فإن أدوات كل منهما مختلفة، ولكل منهما مرجعية قانونية وفكرية مختلفة، وحتى مفردات الخطاب وآليات العمل لكليهما مختلفة”[11] فالعمل الحقوقي واضح الأهداف في الدفاع عن حقوق الإنسان إذا ما اِنْتُهِكَتْ، واستعادتها إذا ما سُلِبَتْ، فالغاية واضحة لا يُختلفُ بشأنها، بينما النشاط السياسي مُختلِف عنها إذ هدفه الوصول إلى السلطة، وقد يستخدم لتحقيق غايته وسائل سلمية أو عنفية، ولهذا فإن: “العمل الحقوقي عمل محدد، وأهدافه مرسومة بدقة، ويهدف إمّا إلى الدفاع عن حقوق، أو استعادة حقوق، لذلك تعتبر معايير العمل الحقوقي واضحة، لا سيّما أنها تستند على ما نصت عليه المواثيق الدولية، أو الحقوق الطبيعية، وفي حال اختلاف الممارسة العملية على ما هو مُقر ومنصوص، يبرز دور العمل الحقوقي لتصحيح الوضع، وللدفاع عن الحقوق المغتصبة، لذلك لا يوجد أيّ مجال للمناورة في مجال المطالبة بالحقوق، أمّا أهداف العمل السياسي فمُختلَفٌ بشأنها، وعادة ما تكون الغاية منه الصول إلى السلطة، إمّا بوسائل سلمية أو بوسائل عنفية في الوقت الذي تكون فيه الوسائل في العمل الحقوقي واضحة، وغير مُختلَف بشأنها”[12].

وإذا كان هدف السياسي الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها، فإن الحقوقي الإنساني، على عكسه، لا يهدف إلى السلطة، ولا للمشاركة فيها، فحركة حقوق الإنسان “تضع نفسها خارج السلطة السياسية ولا تسعى إليها، بينما مبرر وجود “الحزب السياسي” هو امتلاكه لبرنامج سياسي يسعى لتطبيقه من خلال ممارسة “السلطة السياسية أو المشاركة فيها”[13] وهذا الأمر يؤكده، أيضاً، الناشط الحقوقي عبد الهادي خوجة بقوله: “أهم أهداف العمل الحزبي هو المشاركة في السلطة، بينما العمل في مجال حقوق الإنسان لا يسعى إلى المشاركة في السلطة بأيّ شكل من الأشكال، لكنّه في المقابل يدفع باتجاه الإصلاح السياسي”[14] للحفاظ على الحيادية، وهذا من واجبات الحركة الحقوقية الإنسانية ، ومن صلب عملها.

ثانياً: المرجعية

إنّ مرجعية العملين تختلف اختلافاً بيّناً، إذ إنّ: “مرجعية العمل الحقوقي تتركز في المواثيق الدولية، والقوانين الحامية للحقوق، بينما مرجعية العمل الحزبي (السياسي) تكمن في برنامج الحزب”[15]، وإذا كان بعض السياسيين يحاولون تسييس العمل الحقوقي الإنساني، ويتخذونه ذريعة في اللعبة السياسية فرداً كان أم جماعة لتحقيق غاية ما، فيقبلون على العمل في حركة حقوق الإنسان لتحقيق غايات في نفوسهم، بقصد السيطرة على عملها، فيتسللون في صفوفها لاستغلالها في معاركهم السياسية مع خصومهم إذ “جرت محاولات انتهازية من جانب شخصيات سياسية في تيارات مختلفة للتسلل لعضوية مجالس إدارات جمعيات ومنظمات حقوقية لإدارة دفتها وفقاً لتوجهات وأغراض تلك التيارات”[16]، وهذا ما نشاهده ونعيش تبعاته في السنوات الأخيرة من رفع شعار حقوق الإنسان ذريعة، وتجييرها لأغراض سياسية، ومصالح دولية غايتها السيطرة على مقدرات بعض الشعوب ونهبها دون وازعٍ أخلاقي: “إلّا أنّ العمل الحقوقي يختلف عن ذلك كلّه لأنه يعتمد وبشكل أساسي على قيم مطلقة تحكم إيقاع حركته، وتضبط أنشطته، فهو يتعاطى مع الممارسات وفق مرجعية قانونية محليّة إضافة إلى نصوص الاتفاقات الدولية التي وقعت عليها الدولة، وبالتالي أصبحت جزءاً من المنظومة القانونية لها، وبالتالي فإنه لا مجال لتسييس حقوق الإنسان واتخاذها فزّاعة سياسية تستخدم في الصراعات السياسية لأن القيم الحقوقية تتسامى عن ذلك كلّه”[17].

ثالثاً: طبيعة العمل

إنّ طبيعة العمل والممارسة في نشاطهما مختلفة، فإذا كانت حقوق الإنسان تتطلب من الأفراد جميعاً ثقافة ومعرفة، وهذه عملية طويلة ومستمرة، فإن العملية السياسية قصيرة الأمد، وقد لا تتطلب زمناً للتحوّل أو التغيير. يؤكد الناشط الحقوقي الدكتور هيثم القرعان: “من المهم التعامل مع حقوق الإنسان بوصفها عملية طويلة الأمد معنية بتكوين وتشكيل ثقافة، وليس بتحقيق مكاسب آنية على الأرض، كما هي العملية السياسية، كذلك فإن التحولات المؤسسية الدولية والمعرفية الخاصة بحقوق الإنسان تؤثر بشكل مباشر على النشاط الحقوقي والسياسي وتداخلهما في الدول…، إذ صار لزاماً على من يريد أن يكون حقوقياً فاعلاً استثمار الوقت والجهد والمال لكي يغدو متمكناً من التعامل المعرفي مع تلك التحولات”[18].

وكما على الحقوقي، أن يلتزم بالمبادئ الأخلاقية والإنسانية في عمله على عكس ذلك “فالعمل السياسي ليس بالضرورة أن يكون ملتزماً بالمبادئ الأخلاقية والإنسانية الصارمة، فهو ينزع في أحيان كثيرة إلى مصالح فردية مجردة، وتلك القاعدة ليست حكراً على الناشطين بل وتشمل الدول والأنظمة السياسية التي تحركها قواعد اللعبة السياسية واتجاه رياحها، لذا نجد التباين في المواقف السياسية في قضية متطابقة الأوصاف إلّا أنها محل تجاذب وتنافر بين القوى السياسية المتباينة”[19]. وهذا التباين لا نجده فعلياً بين الناشطين في الجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان، وعلى ذلك يجب الانتباه إلى أن عمل الحقوقي لا علاقة له بالسلطة السياسية وإن كان قد استغله كثيرون لتبرير سياسات غلّفوها بحقوق الإنسان فإنّ: “قضايا الدفاع عن حقوق الإنسان بوصفه (أي العمل الحقوقي) منجزاً إنسانياً ليس أمراً مرتبطاً بالسلطة، بل على العكس، فهو منفصل عنها، وأحياناً يشكل قيداً عليها، ومن هنا يجب التنبّه لمسألة الفرق بين حركة حقوقية منتشرة في العالم كلّه تكسب كل يوم أرضية جديدة وتضغط على الحكومات، وبين أنظمة دول غربية تستخدم أحياناً المصطلحات الحقوقية لتبرير سياسات تتنافى مع حقوق الإنسان”[20]؛ لتحقيق غايات ومصالح سياسية واقتصادية خاصة بها.

وعلى اعتبار الجمعيات العاملة في مجال حقوق الإنسان فاعلة في هذا الجانب، فعليها الدفاع عن حقوق السياسيين، وشعاراتهم التي ينشطون لتحقيقها شريطة ألّا تقع في ممارسة مواقف سياسية تبعدها عن حيادها تجاه جميع الأفرقاء، إذ لها “الحق في الدفاع عن الفرقاء السياسيين الذين يرفعون مثل هذه الشعارات، إذا ما اِنْتُهِكتْ حقوقهم السياسية في التعبير والتجمّع والتنظيم، لكنها باعتبارها فاعلاً حقوقياً، ليس المطلوب منها بلورة مواقف سياسية تفقد معها صفة الحياد التي يجب أن تتصف بها تجاه جميع الفرقاء السياسيين، بما فيهم النظام القائم باعتباره جزءاً من المشهد الوطني”[21].

وإذا كان السياسيون يلجؤون في أحيان كثيرة إلى تشكيل تحالفات سياسية غرضها وغايتها الوصول إلى السلطة بغية تحقيق أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وقد تستعمل السلمية أو العنف في الوصول لتحقيقها، وقد تستمر كثيراً أو قليلاً، فإن الحقوقي الإنساني يعمل على التعاون مع جهة ما، قد تكون سياسية أو إحدى منظمات المجتمع المدني أو الأهلي لتحقيق هدف معين يهدف يقصد حرية فرد أو جماعة، أو رفاهية عيش لمجموعة ما بطرق سلمية بعيدة عن استعمال أي كل من أشكال العنف.

رابعاً: الحيادية

إنّ الحيادية صفة ملازمة للعمل الحقوقي الإنساني، وهي تؤكّد أنّ صفة حياد حقوق الإنسان عن الانحياز لأحد الأفرقاء السياسيين صفة لازمة لها في عملها وإلّا انحرف مسارها، ومن “المفترض أن النشاط الحقوقي يدفع بالمجتمع بشكل غير مباشر لأن يتطور سياسياً واقتصادياً من دون أن يتورط في ممارسة العمل السياسي”[22] مباشرة، وكما يفترض بحركة حقوق الإنسان أن “تناضل من أجل مبادئ عليا، بغض النظر عن الجهة التي تتصدى لها سواء كانت الحكومة أو المعارضة أو أفراد في المجتمع، تتصدى للعنف بكل أشكاله.. تتصدى للتمييز والعنصرية. فهنا يفترض أن تكون حركة حقوق الإنسان مجردة لا صلة لها بالحراك السياسي لا سلباً ولا إيجاباً”[23]، إلّا إذا كان أحد الأطراف يقوم بحماية هذه الحقوق، وهذا ما لا يستطيعه الناشط السياسي، ويوضح ذلك ما جاء في تقرير جمعية المراقب الليبية لحقوق الإنسان: “لا يمكن لحقوق الإنسان أن تكون محايدة في حالة انتهاك هذه الحقوق من أي طرف كان، ومن واجبها دعم أي طرف يسعى لحماية هذه الحقوق، وموقف حقوق الإنسان لا يمكن أن نعتبره موقفاً سياسياً لأنها (أي جمعيات حقوق الإنسان) تسير مع حقوق الإنسان، فمن الطبيعي أن تدعم طرفاً في حالة حمايته لحقوق الإنسان، وتنتقده في حالة انتهاكه لهذه الحقوق، وهذا لا يمكن أن يقوم به السياسي الذي يتبنّى حزبه انتهاك حقوق الإنسان” أحياناً، خاصة إذا ما صار في السلطة. وإذا كان الناشط السياسي يسعى إلى السلطة، فالناشط الحقوقي على عكسه يسعى لخدمة الآخرين، وهو محايد دوماً، ومجرّد من أيّ انتماء سياسي لكنه يدافع عن حقوق السياسيين، يقول أحد نشطاء منظمة العفو الدولية: “العمل السياسي يخدم مصالح شخصية، بينما العمل الحقوقي يخدم الآخرين دوماً ” ويضيف إن “الناشط الحقوقي لا بد أن يكون مجرداً من أيّ انتماء سياسي، إلّا أنه في المقابل لا بدَّ أن يدافع عن الحقوق السياسية. ويتابع: “الناشط الحقوقي لا بدَّ أن يكون محايداً، وليس معارضاً أو مؤيداً للحكومة، إلّا أن الأنظمة عادة ما تُضيّق الخناق على العاملين في مجال حقوق الإنسان لأنها تخشى فضح ممارساتها الخاطئة”. وعلينا ألّا ننسى أنّ: “العمل من أجل الحصول على الحقوق السياسية من صلب عمل حقوق الإنسان”[24]، ومن مهامها الأساسية، وأن نتذكر أنّ: “دور الحقوقي يكمن في التحرك لتعزيز عمل القانون”[25]، وأنّ الناشط الحقوقي الإنساني: “لا يعنيه تغيير نظام حاكم، بل تغيير سلوك ذلك النظام”[26] لما يخدم الشعب في تعزيز القانون، وإيجاد مساحة من الحرية ليحقق الإنسان طموحاته بحياة كريمة.

ومن هنا يتضح لنا: أنّ تحقيق امتلاكنا للإرادة في اختيار النشاط الذي نريد، وكذلك الرأي الذي نريد نابع عن إرادة حرّة شرط أساسي، وعلينا ألّا نسقط آراءنا السياسية، أو نفرضها على الآخرين، انطلاقاً من حقهم في التعبير عن آرائهم بحرية، لكن دون اسقاطها على العمل الحقوقي بقصد حرفه عن مساره الطبيعي. تؤكد الناشطة الحقوقية لطيفة مطيع: “من حقك الكامل أن تكون لك آراؤك السياسية تجاه أيّ قضية لكن لا يمكن لك أن تسقطها على عملك الحقوقي، أو توظّفها إذا ما قررتَ يوماً أن تلج فضاءات العمل الحقوقي”[27]؛ حتى لا تقع في محظور التحول إلى منظومة النشاط السياسي.

أخيراً:

إنّ العمل الحقوقي الإنساني يتطلّب منّا، قبل كل شيء، أن ننزع من أذهاننا طبيعة وأشكال النشاط السياسي الساعي للتغيير بوسائله المتاحة له، وإنّ النشطاء العاملين، في المجالين كليهما معاً، يسيرون على حدّ السيف أو في حقل ألغام، عليهم أن يتبيّنوا خطواتهم، ويحسنوا التفريق بين ما هو حقوقي إنساني لا حدود له، ومحايد، وعام وشامل، ولا هدف له في سلطة ما، وبين النشاط السياسي الآني الهادف إلى الوصول للسلطة أو المشاركة فيها.

ولمّا كانت حقوق الإنسان نتاج ثقافات وحضارات شتّى شاركت فيها شعوب الأرض قاطبة؛ فهي ملك للبشرية كلّها على اختلاف أجناسها وألوانها، وأصولها، وقومياتها، وأديانها… وهي تعبير عن توق الإنسان إلى تحقيق كرامته، وإنسانيته في حياة مستقرة، وتوقه إلى ممارسة الحرية، والديموقراطية في مجتمع آمن يحقق لأفراده تكافؤ الفرص، والعدالة والمساواة بين الجميع، وفي النهاية توقه لتحقيق السلام العالمي، ونبذ الحروب والصراعات المختلفة بين شعوب الأرض كافة.

إنّ كلّ ذلك يدعونا أنْ نتفاءل بالوصول لما تصبو إليه حقوق الإنسان من تعاون بين الشعوب كلّها لإقامة مجتمع إنساني ينتفي فيه التضييق على الحريات، وتتحقق للإنسان فيه إنسانيته كاملة، وتُصان كرامته، لا فرق فيه بين رجل وامرأة على اختلاف أجناسهم، وأصولهم،… وأنّ حقوق الإنسان باعتمادها على نشر مبادئها، وثقافتها تحقق ذلك على أمد طويل، وإن كنا نرى السياسات والمصالح الدولية تتكالب على انتهاكها أحياناً كثيرة، أو تتخذها وسيلة لتحقيق غاياتها للسيطرة على مقدرات الآخرين، فإنها مهما حاولت التستر لا يمكنها تبرير سياساتها التي تتنافى وحقوق الإنسان، وأهدافها، وتوجهاتها، وأن المستقبل يحمل لنا في طياته كثيراً من التفاؤل لتحقيق ما نصبو إليه في إقامة مجتمع إنساني خالٍ من الظلامات.

الهوامش:


[1]– د. حازم نهار، “حقوق الإنسان والسياسة، الحوار المتمدن 2003/3/22.

[2]– د. هيثم القرعان، “الفرق بين الناشط الحقوقي والناشط السياسي”، المنظمة الدبلوماسية العالمية لحقوق الإنسان والسلام الدولي 13/3/2017.

[3]– د. حازم نهار، “حقوق الإنسان والسياسة، الحوار المتمدن 2003/3/22.

[4]– د. هيثم القرعان، “الفرق بين الناشط الحقوقي والناشط السياسي”، المنظمة الدبلوماسية العالمية لحقوق الإنسان والسلام الدولي 13/3/2017.

[5]– د. حمزة الحسن، “العمل الحقوقي سياسي في جوهره”، عن جريدة مرآة الجزيرة الإلكترونية، سبتمبر 2019.

[6]– د. حازم نهار، “حقوق الإنسان والسياسة، الحوار المتمدن 2003/3/22.

[7]– = د. غانم نجار، “هل ذابت الفوارق بين الناشط الحقوقي والناشط السياسي في دول الخليج؟”، الشرق الأوسط 16/12/2013.

[8]– المصدر السابق.

[9]– د. هيثم القرعان، “الفرق بين الناشط الحقوقي والناشط السياسي”، المنظمة الدبلوماسية العالمية لحقوق الإنسان والسلام الدولي 13/3/2017.

[10]– د. حمزة الحسن، “العمل الحقوقي سياسي في جوهره”، عن جريدة مرآة الجزيرة الإلكترونية، سبتمبر 2019.

[11]– المصدر السابق.

[12]– عزيز أبل، “ما الفرق بين العمل السياسي والحقوقي؟”، صحيفة الوسط البحرينية، 3/6/2004، موقع الوسط، المحرر الحقوقي.

[13]– د. حازم نهار، “حقوق الإنسان والسياسة، الحوار المتمدن 2003/3/22.

[14]– عبد الهادي خوجة، الوسط، المحرر الحقوقي.

[15]– المصدر السابق.

[16]– د. هيثم القرعان، “الفرق بين الناشط الحقوقي والناشط السياسي”، المنظمة الدبلوماسية العالمية لحقوق الإنسان والسلام الدولي 13/3/2017.

[17]– لطيفة مطيع، موقع آسفي زوم.

[18]– د. هيثم القرعان، “الفرق بين الناشط الحقوقي والناشط السياسي”، المنظمة الدبلوماسية العالمية لحقوق الإنسان والسلام الدولي 13/3/2017.

[19]– لطيفة مطيع، موقع آسفي زوم.

[20]– موقع عربي 21.

[21]– صلاح مفيد، موقع هبة برس.

[22]– د. هيثم القرعان، “الفرق بين الناشط الحقوقي والناشط السياسي”، المنظمة الدبلوماسية العالمية لحقوق الإنسان والسلام الدولي 13/3/2017.

[23]– المصدر السابق.

[24]– عبد الهادي خوجة، الوسط، المحرر الحقوقي.

[25]– عزيز أبل، “ما الفرق بين العمل السياسي والحقوقي؟”، صحيفة الوسط البحرينية، 3/6/2004، موقع الوسط، المحرر الحقوقي.

[26]– = د. غانم نجار، “هل ذابت الفوارق بين الناشط الحقوقي والناشط السياسي في دول الخليج؟”، الشرق الأوسط 16/12/2013.

[27]– لطيفة مطيع، موقع آسفي زوم.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني