fbpx

التجسس الصيني على الاقتصاد الألماني

0 207

إلى جانب الحروب التقليدية المشتعلة في الكثير من أنحاء العالم، مثل سوريا وأوكرانيا، يوجد كذلك حروب غير مرئية ومعارك ضارية تدور رحاها على “الظفر” بالمعلومات التي تشكل اللبنة الأساسية في أية فكرة أو رسم مخطط أو مشروع. في هذه الحروب، والتي يُطلق عليها اسم “الحرب السيبرانية” تشارك كل دول العالم بشكلٍ أو بآخر.

من المعروف بأن المعلومة الصحيحة يمكنها ان تحميك من المفاجآت والمباغتات، وهي وسيلة لتفوقك على من ينافسك. كذلك وسائل الإعلام ليست بريئة من الحرب المعلوماتية، والتي اسمها يأتي من المعلومة، وهي تتنافس فيما بينها على المعلومة الجديدة والتي هي مهمة من أجل تحقيق ما يسمى بـ “السبق الصحفي”. أما وسائل التواصل الاجتماعي فهي جزء هام من هذه الحرب، ومهمتها تكمن في جمع المعلومات الشخصية والعامة حول كل من يقع في شِبَاكها، من أجل تسوّقها إلى شركات ومؤسسات خاصة أو حكومية، لأغراض اقتصادية أو سياسية أو عسكرية.

التجسس الاقتصادي يعتبر من أهم وأخطر أنواع التجسس ولهذا يوجد حرص شديد على عدم الإفشاء بالمعلومات الاقتصادية والتي من المحتمل أن يكون لها تبعات سياسية وربما عسكرية في بعض الأحيان.

ما لفت نظري في عام 1998 عندما زرت معهداً للدراسات الاقتصادية في انكلترا، كعضوٍ في وفد برلماني ألماني، طُلب من جميع أعضاء الوفد أن نُسلّم كاميرات التصوير التي كانت بحوزتنا قبل أن ندخل إلى هذا المعهد، خوفاً من أن نلتقط صورة ومن خلالها يتم الوصول إلى أسرار اقتصادية هامة. بسبب الحرص الشديد على عدم التصوير لم يُسمح لنا حتى أن نأخذ صورة تذكارية في داخل المعهد ولو بآلات تصويرهم.

الصين منذ زمن بعيد انتهجت ما يسمى بـ “استراتيجية النفس الطويل” في تغلغلها في اقتصاد الكثير من دول العالم، وها هي قد استطاعت أن تستخدم قوتها الاقتصادية للوصول إلى أهداف سياسية وأن تتغلغل في القارة الأفريقية مستخدمة “التعاون” الاقتصادي كحصان طروادة للنفوذ إلى القرارات السياسية، لأنها تعلم بأن السياسية في نهاية المطاف هي في خدمة الاقتصاد وأن للاقتصادي نفوذ كبير على القرارات السياسية. ومن المعلوم بأن الكثير من السياسيين قد دخلوا عالم السياسة عن طريق الاقتصاد، وأفضل مثال على ذلك هو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ورئيس وزراء إيطاليا الأسبق، سيلفيو برلوسكوني، ورئيس وزراء لبنان الحالي، نجيب ميقاتي. فلهذا تعتبر استراتيجية التحكم بالسياسة عن طريق الاقتصاد طريقة متعارف عليها، وتأثيرها يتجاوز القرارات السياسية ويصل إلى القرارات العسكرية والمصيرية للدولة.

وها هي الصين تحاول، وبنفس الطريقة، أن تتمكّن من اقتصاد وصناعة القارة الأوربية، حيث بدأت ومنذ زمن بعيد بالتجسس على الاقتصاد الأوروبي وعلى صناعاته وخاصة على الصناعات الألمانية. فهي ترسل الطلاب والخبراء والباحثين الصينيين كضيوف متدربين وباحثين إلى الجامعات والشركات الألمانية للتجسس عليها ولنقل كل المعلومات عن الاختراعات الجديدة والعلوم والتقنيات في ألمانيا، ولهذا أصبحت السلطات الألمانية تشعر بالقلق من زيادة التجسس العلمي والصناعي من قِبَلْ السلطات الصينية، إضافة إلى ذلك فقد اشترت الصين معلومات ومؤسسات اقتصادية ألمانية حساسة.

وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فايزر، تحدثت عن التجسس الصيني بأنه يشكل خطراً كبيراً على الأعمال والصناعة والعلوم الألمانية. وللسلطات الألمانية هاجس كبير من ذلك ومنذ فترة طويلة. ففي عام 2020 قام عالم صيني، بتوجيه من السلطات الصينية، بالتجسس على شركة تكنولوجيا طبية في شمال ألمانيا. بهكذا طرق يتم السطو على الاكتشافات والعلوم الألمانية الجديدة من قبل الخبراء والعلماء الصينيين الضيوف.

كما أن رئيس مكتب أمن الدولة (حماية الدستور)، توماس هالدينفانغ، حذر من زيادة محاولات التجسس الصينية في ألمانيا، حيث كان التركيز في السابق على القطاع الصناعي ومن خلاله يتم التأثير على القطاع الاقتصادي الذي بدوره له تبعات سياسية كبيرة.

في الوثيقة الإستراتيجية الجديدة باتجاه الصين والتي أعلنت عنها الحكومة الألمانية بتاريخ 13.07.2023، حثت الحكومة وبشكل واضح رجال الأعمال الألمان على البحث عن البدائل للسوق الصينية وتخفيف الاعتماد عليها، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى حوالي 300 مليار يورو سنوياً، وما تستورده ألمانيا من الصين يعادل ضعف ما تصدره إليها. الحكومة الألمانية لم تَعُدْ تمنح الضمانات للشركات الألمانية التي تعمل في الصين، تخوفاً من أن تحصل مفاجآت مع الصين كما حصل مع روسيا بعد غزوها لأوكرانيا ونسف كل ما تم التوصل إليه من تعاون اقتصادي بين ألمانيا وروسيا خلال الثلاثة قرون الماضية.

وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، أفصحت لوسائل الإعلام في عرضها للاستراتيجية الجديدة باتجاه الصين، والمؤلفة من 64 صفحة، بأن هذه الاستراتيجية ستكون بوصلة التعاون مع الصين في المستقبل. الحكومة الألمانية تتخوّف من اعتماد الاقتصاد الألماني على الاقتصاد الصيني بشكل كبير إلى أن يصل إلى حالة التبعية ومن ثم أن تتحول هذه التبعية إلى حالة لا يمكن التراجع أو الاستغناء عنها.

ما تقوم به الصين من محاولات التأثير على الاقتصاد الألماني وصولاً إلى القرار السياسي ينطبق كذلك على كل دول الاتحاد الأوربي وعلى الكثير من دول العالم، فعلى سبيل المثال هنالك تقارير تشير على أنه يوجد فقط في العاصمة البلجيكية، بروكسل، أكثر من 250 شخصاً يعملون لصالح المخابرات الصينية.

من الملاحظ بأن شراسة السياسة الصينية تزداد طردا مع ازدياد قوتها الاقتصادية والعسكرية، وما تقوم به من انتهاكات لحقوق الإنسان باتجاه مسلمي تركستان الشرقية، الإيغور، ومعتقلاتها وطرق تعذيبها وتهجيرها للمسلمين يذكرنا بما قامت به النازية الألمانية ضد اليهود والغجر والنقابيين واليساريين ورجال الدين. أما تمددها في مناطق كثيرة من العالم وتحرشها العسكري بجزيرة تايوان يزيد التوتر بينها وبين أمريكا والذي ربما يصل في مرحلة من المراحل إلى التصادم العسكري. إضافة إلى ذلك فقد أصبح العالم الغربي متوجسا من الموقف الصيني باتجاه غزو روسيا لأوكرانيا ودعمها لهذا الغزو بشكل أو بآخر.

ألمانيا وكل دول الإتحاد الأوربي تعمل على كسر الطوق الذي بنته الصين حول اقتصاداتها كما تبني العنكبوت شباكاً حول فريستها قبل أن تتغذى عليها، ولهذا فهي ستقلل من اعتمادها على البضائع الصينية من أجل الحفاظ على استقلاليتها والخلاص من الهيمنة الاقتصادية الصينية، وإن لم يُجدِ ذلك نفعاً، فإن الإتحاد الأوربي على استعداد أن يعلن حربه الاقتصادية على الصين ولن ينتظر اليوم الذي تصل فيه تبعيته الاقتصادية للصين إلى نقطة اللاعودة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني