fbpx

جنون الخلود لأنطون سعادة.. رؤية نقدية

0 451

مدخل أولي:

ينشر (الشاعر) القروي محاضرة كان قد ألقاها بعنوان «المسيحية والإسلام» وغرضها تفضيل الإسلام على المسيحية.

يقرأ (أنطون) سعادة المحاضرة ويكشف عن أن صاحبها: أبعد ما يكون عن التفكير والبحث والدراسة والاستقصاء، كما أن المحاضرة ذاتها أبعد ما تكون عن تحقيق مطلب المحاضرة كما يجب أن تكون بعامة. ذلك أن المحاضرة كجنس من الكتابة هدفها الوصول إلى الحقيقة، والوصول إلى الحقيقة كما يرى «هانيبعل» لا يتم إلا نتيجة استقراء وتحليل وتعليل في جو من العلم والفلسفة هادئ. بعيد عن النعرات، منـزه عن التعصب، إنها درس هادئ لا التجاء فيه إلى استفزاز الشعور والضرب على الوتر الحساس من حزبية أو عصبية عند الجمهور أو ميول جامعة.

ولما كانت محاضرة (رشيد سليم) الخوري لا تحقق هذه المطالب الميتودولوجية لاسيما وإنها تتناول المفاضلة بين الأديان، فإنها قد حادت عن جادة الصواب.

بناء على ذلك فإن سعادة يأخذ على عاتقه مهمة درس الإسلام والمسيحية بما يحقق مطلب العلم ذاته. أي يدخل سعادة هذا الحقل– الديني– باحثاً محللاً ومعللاً مبتعداً عن التعصب الأيديولوجي الأعمى.

إن الحقيقة هنا – والتي يسعى إليها – ذات وظيفة أيديولوجية، بمعنى أن لها أهدافاً تبرزها الحقيقة ذاتها، وبالتالي فإن المستويين المعرفي والأيديولوجي يتضافران. فالنص إذاً يتوافر على وظيفتين معرفية وأيديولوجية.

فإذا كانت المعرفة لا هدف لها سوى الوصول إلى الحقيقة، فإن الحقيقة هنا هدفاً تخدم هدفاً آخر أسمى ألا وهو وحدة الحياة الروحية للأمة، ونزع التعصب الفئوي – الديني والذي يشكل مثلباً لابد من تجاوزه لتحقيق الأمة بالفعل.

النص الذي ينشره سعادة تباعاً في مجلة «الزوبعة» نص فيه جدل– محاجة تظهر جهل الخصم – الخوري، وينطوي على قراءة للتاريخ وللنص الديني لتقديم المعرفة، ويهدف إلى تحقيق تجانس فكري – أيديولوجي للأمة السورية.

تمتزج هذه المستويات في نص سعادة والقراءة وحدها القادرة على تمييز كل مستوى من مستوياته – أي – مستويات نص سعادة.

فلإظهار جهل الخصم وهشاشة تفكيره وابتعاده عن العلم والفلسفة وإظهار انتهازيته، وهوسه وتحريضه، لابد من سلك طريقين:

طريق إظهار جهل صاحب المحاضرة بالإسلام وبالمسيحية تاريخاً ونصاً.

وطريق القول الحق بالتاريخ والنص، وما أن يظهر الحق بالتاريخ والنص حتى يتحول إلى سلاح مادي في الكفاح السوري لنقل الأمة من الإمكانية إلى الواقع.

في إطار الجدل المحض مع الخوري، يبرز سعادة تناقض الخوري مع النص دون الدخول في تحليل النص وفهمه، أي أن النص كما هو يدحض دعاوى المتأسلم – الخوري.

الخوري يفضل الإسلام على غيره من الأديان، يفضل الإسلام على المسيحية فيما النص القرآني يساوي بين الأديان وتفضيل دين على دين كفر بالإسلام. الخوري يجهل الدين إذ يحرره من مسائل الآخرة والجنة والنار، فيما هذه المسائل من صلب الدين، بمعنى أنها مثبتة في النص القرآني.

صاحب المحاضرة يفضل الإسلام على المسيحية، استناداً إلى ماورد في الحديث النبوي عن العقل، فجعل القرآن تالياً للحديث والحديث حداً للآيات، وهذا ما يذكره النص القرآني.

وقدم الخوري العقل على الشريعة وفي هذا انتقاص من الشرعية التي يقدمها النص.

كما أن الشاعر القروي يقابل الإنجيل بالحديث، وهذا خطأ صارخ فالمقابلة يجب أن تتم بين نصين إلهيين– القرآن والإنجيل، إذ لا يجوز منطقياً مقابلة النص الإلهي بنص بشري.

يفضل الخوري الإسلام بماديته وهذا أمر مناقض لروحية الإسلام ناهيك عن أن الخوري لا يعرف المسيحية ولم يفهم جوهرها.

نقول هذا نوع من الجدل هدفه إظهار تناقض الخصم مع ما اعتقد أنه آمن به، أي أن ما يقوله النص الإسلامي القرآني أمر يدحض ما يقول به القروي، دون إصدار حكم على ذات النص.

الإسلام في شرطه التاريخي:

في المستوى المعرفي في خطاب سعادة حول المسيحية والإسلام – وهو الأهم – نرتفع من مستوى الجدل إلى مستوى النظر العقلي التحليلي: إلى مستوى الفهم والتفسير للإسلام وللمسيحية ولليهودية، والمقارنة أصلاً لا تتم إلا عبر الفهم والتفسير.

قبل أن أدخل هذا الحقل الأساسي في تفكير سعادة، أشير إلى أن فيه نوعاً من التكرار – تكرار الأفكار والنتائج. وسبب ذلك أن نص سعادة جاء أساساً على حلقات متتابعة، فكان لابد من التذكير دائماً بما سبق، فضلاً عن ضرورة تأكيد أفكار كان يراها قمينة بالنظر اللاحق، منهجياً، يتأسس نص سعادة على أولوية الواقع الاجتماعي بالعلاقة مع الأفكار، وهذا ما كان مؤلف نشوء الأمم قد عرضه بما يكفي من الوضوح.

وكنا قد أتينا على ذكره في دراستنا سعادة والتفسير المادي للتاريخ، ويعود سعادة إلى هذا المنطلق المنهجي في جنون الخلود.

يقول مؤلف جنون الخلود: «نشأت المسيحية في سوريا بعد أن كان مضى عهد طويل على ارتقاء السوريين عن مرتبة البربرية التي بقي عليها العرب بعامل بيئتهم الطبيعية غير القابلة العمران والتمدن، وبعد أن كان مضى زمن طويل على إنشاء السوريين أعظم مدينة عرفها العالم في التاريخ القديم وهي المدينة التي قامت على قواعدها المدنية العصرية.. ويتابع قائلاً: أما الإسلام فقد نشأ في العربة التي لا عمران فيها ولا تمدن، والعرب لم يرتقوا عن مرتبة البربرية ولم يعرفوا العلم، وفنونهم مقصورة على الغزو والسلب والاحتيال ونظم الشعر، فحدثهم محمد بما يحتاجون إليه. ولذلك كان حديثه في محله وفيما يحتاج إليه».

بمعزل عن عدم تطابق هذا الوصف على وضع سورية إبان الدعوة المسيحية أو على وضع الحجاز أبان الدعوة الإسلامية، كما سأبين لاحقاً، فإنا أمام منهج تاريخي مادي في تفسير نشوء الأفكار والأديان.

يترتب على ذلك أن المسيحية والإسلام كما اليهودية ظواهر، أنتجتها مجتمعات مختلفة في درجة ارتقائها وتقدمها، وبناء على مدخل كهذا، نحن هنا أمام رفض للتفسير الديني للدين من حيث علاقة الدين بمصدر إلهي، بل إن مفهوم الله هو الآخر مرتبط بحالة المجتمع الذي ينتجه.

إذ يقول سعادة في الصفحة 229 من جنون الخلود: «إن الله حسب العقيدة الدينية لا يهتم بالأشكال، بل بالأساس، هذا إذا حسبنا الله واحداً بجميع الأديان».

والحق إن اختلاف فكرة الله بين جماعة وأخرى يعود إلى مستوى تطور المجتمع والحاجة إلى نوع من الله مطابق للوظيفة التي يقوم بها الله للبشر.

وللتدليل على صدق ما أقول وقبل أن يقع هذا القول موقع الفاجعة لدى البعض لنستمع إلى سعادة وهو يقول: «ولما لم يكن اليهود أهل تمدن من قبل لم يكن من السهل أخذهم بالنظام المدني والعمل به، فكان لابد من إخضاعهم للشريعة إخضاعاً، وهذا الإخضاع لايمكن أن يكون بواسطة شرطة وقضاء وسلطة، لأنهم كانوا قبائل لا تعرف نظاماً مدنياً وكل ما تعرفه عادات بسيطة.. فبأية واسطة إذاً، يمكن إخضاعهم؟ بواسطة سلطة خفية رهيبة غير منظورة: الله، يهوه الذي ينتقم من المخالفين للشرائع والأحكام».

وبهذا المعنى ليس الله هو الذي أوحى لليهودي شرائعه، بل إن اليهودي قد اخترع الله لكي يجعل من شرائعه قوة آمرة، ولهذا رأى سعادة إن إيجاد شريعة دينية نكوصية عن الشريعة الدنيوية الكنعانية، الشريعة الكنعانية شريعة البشر، صارت لدى اليهودية شريعة الله الكلي القدرة.

وحسبي لأؤكد ما أذهب إليه أنا في فهمي لسعادة، أن أورد الجملة التالية: «إن الدين من الوجهة التاريخية – الاجتماعية مسبب لا سبب، لكنه يصير سبباً من الوجهة الوضعية بعد رسوخ العقيدة».

فالدين معلول للواقع محدد تاريخياً، ولكي نفهم الاختلاف بين ترسيمات هذا الدين أو ذاك، لابد من العودة إلى العلة – الواقع، ولهذا يقول سعادة: «ولو أن المسيح ومحمد يتبادلا الرسالة فظهر المسيح في العربة وظهر محمد في سورية لما كانت رسالة المسيح ابتدأت على الدرجة العالية التي ابتدأت بها في سورية، ولما كانت رسالة محمد ابتدأت بالدرجة الأولية التي ابتدأت بها في العربة».

والآن كيف يفهم سعادة الإسلام تاريخاً ونصاً، وعندما أقول تاريخاً ونصاً فإني لا أعزل العلاقة بينهما وهذا ما أظهره سعادة في معرض بحثه الإسلام.

الإسلام دين ظهر في منطقة يطلق عليها سعادة اسم العربة.

والعربة هي بلاد العرب أو الحجاز، والعربة لا عمران فيها ولا تمدن، والعرب لم يرتقوا عن مرتبة البربرية ولم يعرفوا العلم، وفنونهم مقصورة على الغزو والسلب والاحتيال ونظم الشعر، فحدثهم محمد بما يحتاجون إليه، ولذلك كان حديثه في محله وفي ما يحتاج إليه، فحثهم على طلب العلم، لأنه لم يكن لهم، وهو الذي كان يضيق ذرعاً بهم فنزلت الآيتان: « الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم».

ثم يرى سعادة أن رسالة الرسول العربي الملقب بالأمي اختصت بالعرب بعناية الله الذي أرسله هادياً لقومه، وهو في معرض تفسيره آية من سورة فاطر.

نحن أمام ثلاث تسميات العربة الأعراب والعرب، والعرب مكان جغرافي يسكنه قوم هم العرب والأعراب بمعنى واحد عند سعادة.

لكن لو قبلنا هذه التسمية، فإن العربة لم تكن مكاناً واحداً متجانساً ففيها مكة والمدينة والطائف ومدن أخرى تقع جنوب سوريا.

ومكة التي أظهر فيها محمد دعوته هي مدينة – دولة، مدينة تجارية ومحمد نفسه اشتغل بالتجارة كما أشار سعادة، وهذه المدينة فضلاً عن عمرانها كانت مركزاً روحياً مهماً قبل الإسلام، وقد عرفت مكة إلهاً اسمه الله وكان هو الرزاق.

وعرفت مكة نظاماً سياسياً متقدماً، لحل الخلافات الداخلية والخارجية وتحديد مهمات زعماء بطون قريش المدينية. ودار الندوة هي التعبير العملي ناهيك عن أن قريشاً كانت على علاقة وطيدة – عبر التجارة – بمدنية جنوب سوريا.

أما العرب هؤلاء الذين دعاهم النبي إلى الإسلام فهم عرب مكة قبل كل شيء ثم العرب بعامة ثم تطورت الدعوة إلى الناس أجمعين.

والحق أن العرب قد أقاموا عدداً من الحضارات المتقدمة في جنوب اليمن كسبأ التي ورد ذكرها في القرآن: « لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلذة طيبة ورب غفور» وعرب سبأ اشتغلوا بتجارة الذهب والعطور ووصلوا إلى شمال الصحراء في بلاد الشام أيام الآشوريين. ودولة حضرموت ودولة معين 1300_30 ق.م. ودولة حمير، وأهم هذه الحضارات حضارة مملكة النبط. إذ نشأت هذه المملكة شمال غرب الجزيرة العربية وكانت ممراً تجارياً بين عرب الجنوب وبلاد الشام ولغة الأنباط عربية وكتابتهم آرامية والخط النبطي هو خط لغة عرب الشمال «أي لغة القرآن».

وامتدت هذه المملكة شمالاً إلى دمشق في عصر المسيح والى سهل البقاع، وأن حاكم دمشق الذي أراد القبض على بولس الرسول هو عامل لحارثه الرابع.

ويقول جواد علي: «وعندي أن النبط عرب، بل هم أقرب الناس إلى قريش من العرب الجنوبيين، فهم يشاركون قريشاً في أكثر أسماء الأشخاص ويشاركونهم في عبادة أكثر الأصنام، ذي الشرى واللات والعزى، وخط النبط قريب جداً من خط كتبة الوحي».

ناهيك عن مملكة كندة ومملكة الحيرة ومملكة الغساسنة، إن هذا الجسم الكبير الممتد من جنوب الجزيرة العربية حتى حدود سورية الشمالية والجنوبية مروراً بأرض الحجاز كان ينطوي على تعدد هائل من الجماعات العربية ذات العلاقات فيما بينها. ولست أحتاج للتدليل على ذلك، هذا في الوقت ذاته كانت هناك قبائل عربية بدوية – غير مستقرة.

لكن الإسلام ظهر في محيط عربي مستقر ونما فيه أصلاً، أقصد مكة والمدينة.

أما استشهاد سعادة (بالآية 97) من سورة التوبة التي يتحدث فيها عن الأعراب، فالأعراب هنا ليسوا عرب مكة والمدينة الذين دعاهم محمد إلى الإسلام أولاً، بل هم البدو الرحل.

يعلق ابن كثير على هذه الآية قائلاً: «ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولاً، إنما كانت البعثة من أهلا لقرى»، وجاء في القرآن «وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى». والقرى هي المدن.

فالأعراب هنا ليسوا العرب بعامة، ومن الصعب الموافقة مع سعادة أن الذي حدد وضع الدين الإسلامي على النحو الذي هو عليه من تعاليم أخلاقية وسياسية هو وضع الأعراب، فعرب القرى عرفوا المدنية والعمران والفنون السياسية والتجارة والسفر، وأهل مكة لم يكونوا أهل غزوا وسلب ونظم الشعر، بل إننا لا نجد شاعراً جاهلياً قرشياً.

وعليه من الصعب أيضاً الموافقة مع سعادة أن وضع عرب مكة والمدينة شبيه بوضع العبرانيين الرحل أيام موسى.

وسعادة ينطلق لتفسير التشابه بين اليهودية والإسلام إلى تشابه الوضع الاجتماعي – التاريخي من حيث أن العرب واليهود لم يكونوا على درجة من التقدم، وكانوا قبائل متناحرة، فكان لابد من شريعة توحد هذه القبائل.

يقول سعادة: «فاليهود لم يكونوا قبل مجيئهم إلى سورية يعرفون نظاماً اجتماعياً، لأنهم كانوا في حالة بداوة بربرية ولكم يكونوا تمدنوا لا في مصر ولا في مكان آخر.

فهم والحالة هذه، كانوا يشبهون العرب من كل وجه فيما يختص بحريتهم الاجتماعية وحاجاتها».

وبناء على هذا التشابه يفسر سعادة التشابه في التشريعات والتشابه في وظيفتها.

لا شك أن القبيلة كانت هي الوحدة الأساسية في الجزيرة العربية، ولكن من الضرورة التمييز بين القبائل المتحضرة كقريش والأوس والخزرج، والتي كانت تعيش حالة من المدنية، وبين قبائل الأعراب التي يصدق عليها وصف سعادة.

والإسلام وحد أول ما وحد قبائل المدن، والتي ستقوم بدور مهم في تنظيم الدولة الوليدة والفتوحات اللاحقة، وسيادة ارستقراطية قريش على الدولة تعبير عن مستوى تقدمها السياسي والفكري والاقتصادي، فالخليفة قرشي وقادة الفتوح الإسلامية أغلبهم من قريش. ومادة الفتوح أي الجيش جلها من قبائل مدينية قرشية، ولم يقم البدو الأعراب بدور معهم في هذه الفتوحات.

والتطور اللاحق لبناء الدولة ونظامها السياسي والاقتصادي يدلل على أن هناك عقلية متقدمة جداً، صحيح أنها تأثرت – أي هذه العقلية – بمستوى تقدم الحضارات السائدة كالفارسية والرومانية، لكنها ما كانت تتأثر لولا قابليتها المتكونة تاريخياً.

ولكن قد يطرح سؤال مهم: إذا كان العرب سكان القرى، في مرحلة من التقدم تفوق وضع اليهود أيام موسى، فكيف نفسر التشابه بين الشريعتين؟

كما أن هناك سؤال آخر أكثر أهمية، لماذا وافق القرآن التعليم المسيحي المناقبي، أي لماذا يوافق الكلام الإلهي في القرآن كل الموافقة تعليم المسيح المناقبي؟ إذ يقول سعادة: «ومن مقابلة آيات القرآن المثبتة في الحلقة السابقة وهذه الحلقة، على هذه الآيات الإنجيلية يتضح أن المطابقة بين التعليمين المسيحي والإسلامي هي كلية، وفي بعض الآيات المطابقة ليست أساسية فقط بل شكلية أيضاً». ويقصد الحض على بذل الأموال والجهاد في سبيل نشر الدعوة، بل وجد سعادة قول المسيح التالي: «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخل له رداءك أيضاً ومن سخرك ميلاً فامش معه اثنين ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنه، أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا لأجل من يفتئتكم ويضطهدكم » مشابهاً لما جاء في القرآن: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأن ولي حميم » ثم «كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة»، « وإن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً».

بل يمكن اختصار السؤال بسؤال واحد: لماذا وافق الإسلام تشريع موسى ومناقبية المسيح.

جواب سعادة على التشابه بين تشريع محمد وموسى واضح، فمرده إلى تشابه البيئتين ولكن هناك اختلاف بين بيئة المسيح الرومانية وبيئة محمد فلماذا التشابه الأخلاقي.

في اعتقادي أن التشريع الإسلامي والذي تم في المرحلة المدينية قد تأثر بالتشريع اليهودي، لأن اليهود كانوا الأكثر حضوراً في شبه الجزيرة العربية وأن من العرب من تهود، وسكنوا يثرب، وكان تجار منهم يقيمون في مكة، ويذكر جواد علي نقلاً عن اليعقوبي: «أن اليهودية كانت في حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة وغسان، وتهود بعض من الأوس والخزرج، وقد عرف العرب من اليهود بعض أحكام دينهم مثل: الرجم والابتعاد عن النساء في المحيض، واستعمال الصور لدعوة المؤمنين إلى الصلاة».

فضلاً عن أن اليهود وخاصة في يثرب وما حولها، وكانوا أهل زراعة وتجارة وحرفة، ولما كان النبي ينظر إلى اليهود كأهل كتاب فإن من الطبيعي أن يتأثر بجزء من شريعتهم، وهو بصدد بناء الدولة، وبناء الدولة بدأ في يثرب وليس في مكة– وقد وادع الرسول اليهود بعد الهجرة إلى المدينة.

وعندي أن ضرورة بناء الدولة أدت إلى ضرورة التشريع كما يرى سعادة لكن طبيعة التشريع الإسلامي وتأثره بالتشريع اليهودي لا يعود إلى تشابهه الأساسين الاجتماعيين، بل إلى أن الحاضر آنذاك في الجزيرة هو التشريع اليهودي، ولو كان في المسيحية تشريع لربما تأثر به محمد، في حين أن التفوق المناقبي المسيحي قام بدور مهم في بنية الإسلام الروحية الأخلاقية، وفي وقت ينظر فيه محمد إلى المسيحية هي الأخرى كدين إلهي، ناهيك – وهنا بيت القصيد – أن هناك تشابهاً بين مجتمع مكة الذي ظهر فيها محمد ومجتمع سوريا الذي ظهر فيها المسيح.

فمكة مدينة تجارة ففيها الأغنياء والفقراء. ومكة مجتمع عبودي، ومجتمع العبيد مكون من عرب أرقاء وأجناس حبشية وفارسية ففي مجتمع عبودي يتحكم فيه الأغنياء– الأسياد بالآخرين، تظهر الدعوة الأخلاقية دفاعاً عن الفقراء وضرورة تحرير الإنسان من العبودية – وهذا هو أساس الخير العام.

والمسيح هو الآخر ظهر في مجتمع عبودي، مع الاختلاف في درجة الحياة السياسية والفكرية ولا شك.

ولهذا فإن رفع قيمة الإنسان بمعزل عن انتمائه القبلي، الطبقي، العرقي، واحد في المسيحية والإسلام. وهذا هو مضمون الخير.

وفكرة الثواب والعقاب الإلهية في الآخرة مرتبطة بفكرة فعل الخير ذاته، وضرورة اجتناب الشر.

لكن المسيح قضى مبكراً وحمل وصاياه جمهور من الأتباع، لم يشهد المسيح ولادة الدولة المسيحية. ولهذا حافظت دعوته على طبيعتها الرسولية – الأخلاقية.

في حين أن محمد الذي بدأ دعوته أخلاقية، شهد بعد الهجرة ولادة الدولة. فنمى لديه هاجس توسيعها.

ولقد أشار سعادة إلى أن محمد بعد أن أخفق في جمع الأتباع في مكة، ولم تفلح دعوته السلمية، دعا إلى الجهاد – أي إلى تحقيق الدعوة بالقوة.

والحق أن شخصية المسيح وشخصية محمد، شخصيتان مختلفتان جد الاختلاف.

وما زلنا حتى هذه اللحظة لا نعرف بالضبط حياة المسيح كشخص تاريخي ولكن حياة محمد معروفة وواقعية.

فالنبي محمد ينتمي إلى أسياد قريش، القبيلة الدولة. ويعلن دعوته داخل مكة، ويخوض صراعاً مادياً حقيقياً ضد خصومه. مستنداً لا إلى أتباعه فحسب، بل إلى موقعه داخل القبيلة، إنه يقود بنفسه المعارك، ويهاجر، وينظم، ويشرع، ويدعو إلى قيم جديدة.. إلخ.

ومن الطبيعي أن تجتمع في شخصية كهذه عناصر القوة المادية والروحية، لكن الأخبار لا تحدثنا عن المسيح إلا من خلال تجواله للوعظ، وأنه صلب في النهاية.

وفي هذا الصدد يصف سعادة المسيح قائلاً: «فظهر المسيح بمظهر الموعود به من الله ليكون به الخلاص وعلى هذا الاعتقاد الديني استند المسيح ليؤدي رسالته المناقبية التي أهم ما فيها، بصرف النظر عن أهمية تعاليمها، أنها أعادت النظرة السورية إلى الحياة القائلة بتسليط العقل على مجرى التاريخ وإن ميزة الإنسان هي الفكر، وإنها كانت انتصار النفسية السورية الفاصل على النفسية اليهودية القائلة بتحديد الحياة الإنسانية وفاقاً للشرع الموسوي»، يساعدنا نهج سعادة– التاريخي – الاجتماعي على فهم التمايز بين شخصيتين: إحداهما شخصية الواعظ– الفيلسوف، والأخرى شخصية الرسول المشرع والمستند إلى قوة مادية حقيقية.

إن ما أقصد إليه أن الشخصيتين في اختلافهما من حيث النشأة والانتماء والثقافة والشروط الموضوعية قد حددا أيضاً وجه الاختلاف بين المسيحية والإسلام.

فض النص القرآني:

في الحلقة الرابعة والعشرين من جنون الخلود يكتب سعادة قائلاً: «ولا بد من الإشارة – في هذا الصدد – إلى أن درس القرآن ليس بالشيء الهين، وكثير من المقبلين على قراءته يضلون فيه لسبب عدم وجود أي تنظيم موضوعي أو حادثي في ترتيب سوره وآياته.. فالذين جمعوا القرآن رتبوا السور المدينة أولاً نظراً لأهميتها التشريعية»، على أن ذلك ليس كاملاً في الصحة، أي إذا كانت العناية وجهت إلى أحكام الشرع، قبل كل شي، فإننا لا نجد أية محافظة على هذه القاعدة فالسور التشريعية لا تأتي متعاقبة. وهذا والسور عينها لا محافظة في كل منها على موضوع واحد، بل تأتي في السورة الواحدة عدة مواضيع منها الذكر ومنها القصص ومنها التشريع المقتضب.. وينقطع التشريع في الموضوع الواحد أو يتم في إحدى السور فيظن القارئ أن الموضوع قد كمل. وأن الغاية قد تمت فإذا في سورة أخرى عودة إلى معالجة الموضوع عينه وإذا هنالك تعديل أو زيادة كما ورد من قبل».

ويضيف سعادة: «من أراد أن يدرس القرآن درساً علمياً يحتاج إلى درس التواريخ وكتب السيرة ويضطر لترتيب القرآن ترتيباً جديداً على النسق الحادثي أو التعاقبي. فيعرف كيف نزل القرآن والحالات التي نزلت فيها كل سورة، فيتبع تطور الرسالة بتطور حالاتها ويفهم علاقة استنزال الآيات بالحالات والحوادث الجارية وينتهي إلى حقيقة المقصود من آيات إذا جردت عن الحالات والحوادث ظهرت متضاربة».

من كل ما سبق وقاله سعادة نصل إلى منهج دراسة النص القرآني أي المنهج التاريخي من حيث علاقة النص بالواقع الذي استجاب إليه. وهذا ما عرف بالإسلام بأسباب النـزول، منهج كهذا، يتطلب أولاً:

إعادة ترتيب السور والآيات في تسلسلها الديني وربطها بالأحداث التاريخية، أي الكشف عن مبررها وهذا ما يساعد على فهم معناها بالضرورة.

تأسيساً عن طريقه كهذه للنص: يرى سعادة أن النصوص القرآنية على نوعين ويجب أن تدرس من وجهتي الدين والدولة. وبهذه الطريقة يمكن فهم الإسلام فهماً صحيحاً من الوجهة التاريخية. وفهم النص بوصفه على نوعين نص دين، ونص دولة.

يبدأ بدرس القرآن حسب تعاقب السور كما أعلنها النبي. ألا نبدأ بالفاتحة ثم بالبقرة وهكذا كما ورد بالترتيب والذي يسميه سعادة ترتيباً استبدالياً بل البدء بسورة العلق فبالقلم فبالمزمل فالمدثر وهكذا.

للنص القرآني بما هو دين ثلاثة أغراض أساسية:

1– إحلال الاعتقاد بالله الواحد محل عبادة الأصنام.

2– فرض عمل الخير وتجنب الشر.

3– تقرير خلود النفس والثواب والعقاب (الحشر).

وبداءة الرسالة الإسلامية لم ترمِ إلا إلى غير هذه الأغراض.

فما هي الفكرة الأولى التي تتعين فيما بعد في السور والآيات؟ يدرس سعادة أول سورة نزلت على محمد وهي العلق: فيكشف أولاً عن فكرتها فيراها في ذكر الله ونعوت له، القول بالمعاد والحشر، وتذكر المكذب الناهي عن الصلاة بسوء العاقبة.

ثم يتناول طريقة القول: والتي هدفها التأثير على السامع، وشعوره أكثر من مخاطبة عقله أي لا يبتغي إعطاء تعليل فلسفي وخاصة وهي تتحدث عن الخلق «خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم».

فالسجع هنا والتصوير الشعري، يهدفان إلى إحداث هزة في الوجدان، ثم يتابع سعادة عرضه لبعض السور، حتى يصل إلى القول إنه مع سورة ق تأخذ الرسالة شكلاً من الدعوة الواضحة، أي أن السور الثلاث والثلاثين سور ترتيلية تسبيحية تدعو إلى الإقرار بالله وتنذر المكذبين.

مع سورة ق تبدأ الرسالة تتخذ شكلاً من الدعوة الواضحة كما يقول سعادة، دعوة موجهة إلى جماعة الرسول التي لا تؤمن بالبعث، وضرورة العودة إلى الكتب المقدسة الأخرى التوراة والإنجيل لتأييد صحة القرآن ودعوته إلى الله الحي وترك عبادة الأصنام والإيمان بالبعث.

في المرحلة المكية أسس القرآن مفهوم الخير والشر بالعلاقة مع الله، فالإيمان بالله يفضي إلى فعل الخير، إن لم يكن هو الخير، والكفر بالله هو الشر. ويرى سعادة إن هذا إلا وصف مجرد، وقد استند إلى ما في التوراة والإنجيل، وفي نهاية المرحلة المكية يبدأ تعين مفهوم الخير والشر ولكن في آيات قليلة – كما جاء في سورة العنكبوت «ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً»، وكما في سورة المطففين «ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون».

يقول سعادة إن هذه المرحلة لم تكون فكرة فلسفية «تشمل الحياة الإنسانية، بمناقبها ومثالبها وروحيتها وماديتها واجتماعياتها واقتصادياتها ومثلها العليا».

وكان أمام الرسول أحد سبيلين: إما إن يعلن أن هذه الفكرة الفلسفية قائمة في الإنجيل والتوراة وتكون دعوته بمثابة دعوة إلى هذين الكتابين، أو أن يوجد الفكرة أو النظرة التي يمكن أن تكون للعرب قضيتهم الروحية – الاجتماعية وباختيار محمد الطريقة الثانية – لأنه لم يجد في العرب استعداداً لقبول النظرة المسيحية، وكره تذبب اليهود – بدأ الطور المديني. والذي هو انتقال من الدعوة المجردة إلى الشرع وإقامة المعاملات والعقود التي ترفع مستوى الحياة العربية وتضبطها. ولما كان العرب كلهم إلا بعضهم أميين بعيدين عن الثقافة والعلم، كان لابد من إقامة الدولة لإخضاعهم للشرع وضبط تصرفاتهم.

يبدأ الطور الثاني بالهجرة إلى المدينة، ونصياً بسورة البقرة، ويعرض سعادة لسورة البقرة ثم يقول إن العهد المدني كان خطوة لإخراج الرسالة المحمدية من المأزق الذي وقعت فيه.

ويعود سعادة لتأكيد أن البحث في الآيات المدنية في الرسالة المحمدية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحوادث الجارية، ويبرز سعادة الدعوة إلى الجهاد– ويؤكد أنه جهاد دفاعي ضد الكافرين وصار الاهتمام بشؤون الحرب والسلم وتوزيع الغنائم ..إلخ.

أود أن أشير إلى جملة ملاحظات على ما سبق عرضنا لتحليل سعادة للنص القرآني وعلاقته بالمرحلتين المكية والمدنية.

لا شك أن التمييز بين إسلام مكة والمدينة وما يتبع ذلك من تمييز في نصوص القرآن المكية والمدنية، هو بالصورة العامة تمييز تاريخي يلامس ما يراه سعادة من علاقة النص بالواقع.

ويمكن القول إن المرحلة المدنية وإن حوت سور التشريع لكنها لم تعدم سوراً وآيات تسبيحية ترتيلية وبعضها ذات تأثير أكثر من السور المكية كسورة الرحمن وهي مدنية وآياتها ثمان وسبعون آية. وسورة الزلزلة وآياتها ثمان، وسورة التغابن وآياتها ثماني عشرة، وسورة الدعوة وعدد آياتها ثلاث وأربعون آية، ناهيك أن ما من سورة خلت من إعادة التذكير بالجنة وجهنم وقدرة الله ..إلخ.

ولا نعتقد أن الانتقال من النص المكي إلى النص المدني هو ثمرة أزمة. أو أن محمد كان أمام خيارين لا ثالث بينهما إما اعتماد محمد على الإنجيل والتوراة في فلسفته الاجتماعية أو شق طريق خاص به، فاختار الثاني.

فالهجرة، هجرة النبي إلى يثرب وضعت محمد أمام دافع جديد كل الجدة، لمدينة – دولة المسلمين من أنصار ومهاجرين والى جانبهم يقوم اليهود. كان أول ما فعله محمد هو وضع دستور المدينة، لتأسيس علاقة تحالف بين المهاجرين والأنصار، في المرحلة بالذات واجهت الدعوة قضايا تستدعي حلاً عملياً، الزواج، الإرث، القيادة السياسية، مواجهة الخصوم.

ومن هنا نفهم أن أكثر سور المدينة وآياتها ذات أسباب نزول وإذ تحولت المدينة إلى دولة ومركز نشر الدعوة بدأت الأنظار تتجه إلى الخارج وخاصة مكة، التي يجب إخضاعها بالقوة، من هنا نشأت فكرة الجهاد أي القتال دفاعاً وهجوماً، لقد بذل صاحب الدعوة الجديدة جهداً كبيراً لفهم أصحاب الكتاب من اليهود والنصارى، ولكنه لم يجد إطلاقاً منهم أذناً صاغية وخاصة من قبل اليهود الذي وادعهم محمد منذ نزوله المدينة. وإلى هذا أشار سعادة في معرض بحث العلاقة بين محمد وأهل الكتاب، وإذ اعترف القرآن بإلوهية الدينين وأن النبي العربي استمرار للدعوتين، ومع رفض أتباع الدعوتين للاعتراف به، استمراراً لمنا سبق، كان لا بد وأن يرى فيهم أعداء لدينهم أيضاً. ولهذا راح يدل على تناقضهم مع التوراة ومع الإنجيل من حيث أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويذكرهم بأنهم وقفوا ضد أنبيائهم، أو أنهم ينقلون كذباً عن رسلهم.

ولما كانت القوة الأساسية لليهود في المدينة، فإنه خاض معركة مادية وأيديولوجية معهم، فيما كانت المعركة أيديولوجية مع النصارى – مركزها شخصية المسيح.

ما الدرس الذي نستخلصه من نص سعادة، إنه درس راهن جداً، فهذا المفكر والسياسي يدخل عالم الدين وقد خلع كل رداء متعصب فهو رغم علمانيته وعلميته وتحرره من أية أوهام دينية يتناول الإسلام والمسيحية بأدب جم واحترام شديد. انظر ما يقوله في المسيح ومحمد.

المسيحية كما يرى سعادة عقيدة وليست تشريعاً، لماذا أنشأت المسيحية؟.

تظهر المسيحية في مجتمع سوري عرف التشريع المدني من جهة أولى وتشريع اليهود الجامد الإلهي من جهة ثانية.

وبجمود الشرع الموسوي الديني، جمدت الفلسفة المناقبية وبطل مبدأ الفيلسوف السوري الكبير زينون القائل بأن الفكر أو العقل هو جوهر الحياة الإنسانية.

هنا ظهر التصادم العنيف بين النفسية السورية والشرع الموسوي والذي أخذ يقوي على قوة العقل بفضل فكرة الله، وبشيوع فكرة الله صار كل تأثير على المجتمع لا بد وأن يكون عن طريق هذه الفكرة، لأن فكرة الله أضعفت منزلة الحكمة البشرية وقوة العقل، ومن هنا نشأت المسيحية متخذة من فكرة الله أساساً لها.

فظهر المسيح بوصفه موعوداً به من الله ليكون به الخلاص وعن طريق فكرة الله أعاد المسيح إلى الفكر قوته ومنزلته، ويقول سعادة: بمعزل عن أهمية تعاليمها– أي المسيحية فإنها أعادت النظرة السورية إلى الحياة القائلة بتسليط العقل على مجرى التاريخ وإن ميزة الإنسان الأساسية هي الفكر، وإنها كانت انتصار النفسية السورية الفاصل على النفسية اليهودية القائلة بتحديد الحياة الإنسانية وفاقاً للشريعة الموسوي».

ولهذا فإن المسيح بدأ بمهاجمة الوقوف عند حدود الشرع والاكتفاء بالفرائض. ويكشف سعادة أن أساس العقيدة المناقبية للمسيحية هو فكرة البطولة الاجتماعية، أي التضحية الفردية في سبيل خير المجتمع، وهي البطولة التي يكتشفها الدارس الخبير في صميم النفسية السورية منذ بدء التاريخ وهي موجودة في تضحيات الكنعانيين ثم عادت وظهرت في تعاليم المسيح بمظهره الإنساني الراقي الخالص، ناهيك عن أن تعاليم المسيح هي من أجل سيطرة الوعي النفسي على الأفعال الحيوانية، وتحويل مقدار غير يسير من حيوية الإنسان – التي كانت تنفق في المتع الجسدية – إلى الأعمال المفيدة.

بكلمة واحدة المسيح ليس يهودياً ولم يكن له آباء اليهود بل كان سورياً يتكلم ويخاطب الجماهير بالسريانية.

المسيح هو انتصار العقل السوري على الشرع البدوي اليهودي. المسيح جاء حاملاً رسالة مناقبية فهو كان مجاهداً وأتباعه يجب أن يكونوا مجاهدين بأنفسهم وأموالهم، وجاء الإسلام موافقاً لما جاء به المسيح من هذه الزاوية.

وسعادة يعرض لنا شخصية محمد مدافعاً عنها في وجه خصوم الإسلام من المتعصبين المسيحيين، ولا فرق بين تعصب مسيحي وتعصب إسلامي. وفي رده على من يقول من المسيحيين أنه لا يمكن أن يصير اتحاد قومي أو إصلاح ديني إلا إذا زال القرآن يقول سعادة عرضاً قصة الكاهن واللاوي والسامري الذين مروا برجل جريح والسامري هو الذي أنقذ هذا الجريح، وكان عند يسوع أفضل من اللاوي والكاهن أفلا يكون محمد الذي أنقذ خلقاً كثيراً من حالة التوحش والهمجية وهداهم إلى دين الحق ولم يجحد الإنجيل بالصدقه وأيده أفضل عند المسلمين الذين هداهم إلى الحق من كل كاهن وكل بطريرك وكل بابا لم يبلغهم منه شيء من الرحمة؟ وإذا كان المسيح قد خلص المسيحية، فإن النبي محمد قد خلص المسلمين. فكيف تريدون أيها المجحدين أن ينكر المسلمون محمداً وألا يعدوه رسولاً من الله إليهم وهو الذي هداهم إلى الله؟.

لماذا يجب أن تكون اليهودية والمسيحية أقرب إلى المسلمين من محمد قريبهم وحبيبهم وقريب كل منصف غير متعنت وغير متكبر، وحين ينال بعض المسيحيين المتعنتين من محمد لأنه تزوج زينب يرد سعادة لماذا لا تلعنون داوود الذي سلب أوريا الحثي زوجته بحيلة، في حين أن محمد لم يسلب زيداً زوجته بل تزوجها بعد أن طلقها زيد وأصبحت حلالاً له.

ويدحض سعادة زعم البعض الذي يقول بأن محمد ليس هادياً إلى الله لأنه لم يفعل العجائب قائلاً: هذه حجة باطلة لأنه لا لزوم للعجائب بعدما تبينت كلمة الهداية، وسعادة يرى في محمد بعيداً عن تهمة محبة نفسه التي قال بها عبد المسيح الكندي إذ أن دعوته إلى الله قد جلبت عليه الألقاب والأوصاب وتعرض للخطر إلخ.. أما أنه أقام دولة فهو صواب وإقامة الدولة ليست فرية ولا إثما.

وأمام القول بعجائب العبرانيين التي كما يقول سعادة لم يثبتها تاريخ وإن يكن صدقها القرآن والتي تبرر حروب العبرانيين يقول سعادة: «فإذا كان موسى نبيا ويشوع بن نون نبياً وقد جاءا يهاجمان شعباً آمناً عاكفاً على التعمير والتمدن ويقتلان حتى الأطفال والبهائم. فمحمد نبي أعظم منهما ومن جميع أنبياء اليهود لأنه جاء إلى جماعة وحشية لا تعمر ولا تمدن من شأنها الغزو والسلب والسبي والتقتيل فخاطبها بلغتها وحاربها بلسانها وأخضعها للحق والشرع والنظام وهذا شيء أعظم من شق البحر بإذن الله و إقامة الكسيح بإذن الله (ساخراً)».

والحق: أن دفاع سعادة عن المسيح ومحمد لم يصدر عن اعتقاد بمرجعهما الإلهي، أو إيمان بنشر سماتهما الدينية، بل هو دفاع عن قضيتين: الأولى الدفاع عن القيمة الأخلاقية المناقبية للدين من حيث هو دعوة إلى الخير والتضحية في سبيل المجتمع.

الثانية: الدفاع عن وحدة الأمة السورية، إذ أن تعاليم المسيح وتعاليم محمد المناقبية واحدة وبالتالي فليس هناك مبرر عملي أو ديني لوجود تصادم بينهما.

يقول سعادة: «إلى جميع الناس غير رجال الدين نوجه الدعوة: لنترك رجال الدين يتناظرون ما شاؤوا المناظرة في أي الأديان أصحها، بشرط أن لا يتعدوا أحد المناظرة إلى تهييج الغوغاء والسذج وغرس الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد باسم الدين».

إنه درس للعلمانيين الجدد ضيقي الأفق الذين لا هدف كبيراً لديهم، ومع أن سعادة يوجه بحثه إلى الخاصة والعامة من العلمانيين، لكن علمانية سعادة علمانية رجل ذي مشروع، علمانية غير منفصلة عن وحدة الأمة ودولة الأمة. والدرس الأهم في هذا التناول هو الدعوة إلى دولة قومية، إن سعادة يرى في الدولة الدينية حادثاً تاريخياً، له ما يبرره في واقع محدد، أما وأن التاريخ قد تجاوز الدولة الدينية، فإن إعادة التاريخ القهقري تفكير رجعي ناهيك على إنه لا طائل من فاعلية دينية إسلامية أو مسيحية في أمة تسعى نحو تأكيد ذاتها عن طريق الدولة المدنية.

وقد يتساءل البعض، ولكن سعادة إنما يسعى إلى وحدة أمة سورية ودولة سورية ولهذا فإنه لا يناقش وضع الإسلام والمسحية إلا من هذه الزاوية، فهل تتطابق أطاريحه مع الداعية إلى أمة عربية.

وفي ظني إنه بالرغم من أن سعادة ينظر إلى دعاة العروبة نظرة سلبية، ووصفهم باللاواقعية وأنهم صورة زائفة من الداعين إلى دولة دينية، فإني لا أعتقد أن أطاريح سعادة بشأن علاقة الدين بالدولة لا تختلف كثيراً عن أطاريح القوميين العرب، فالقومية السورية العلمانية لا تختلف عن القومية العربية العلمانية إلا في حدود الدولة القومية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني