fbpx

الموت

0 559

وطل الموت صوتاً بهياً زاهياً ضاحكاً ساخراً

 ممن اعتلى منصات الخطابة

مادحاً راثياً مشتهي الحضور

متوعداً واعداً كاذباً أو صادقاً

طل الموت

واعتلى قبة السماء مخاطباً أهل الأرض فقال:

يا أهل الأرض:

تخافون مني وكأن أجسادكم لم تكن يوماً سكني

وتقلقون وكأنكم لا تدرون بأني مصيركم الأبدي

أحقاً إنكم لا تدرون يا أهل الأرض من أنا

أنا لست إله الموت الذي كتبتموه في أساطيركم

ولا أنا الذي رسمتموه على اللوحات

وعلقتموه على جدران معابدكم

ولست عزرائيل الذي يتسلل إليكم

في الليل أو النهار ليقبض أرواحكم

فما أنتم أرواحاً تسكن أجساداً لأستلها

أنتم الجسد الذي يحيا ويفنى

أنا الذي في داخلكم يحب الحياة

ويخاف من ذاته

أتدرون من أنتم؟

أنتم أنا وأنا أنتم

أنا الطفل الذي راح يلهو

أنا المراهق الذي عاش انفجار الجسد

أنا النبي الذي بلغ الأربعين

أنا الحكيم الذي ضحك منكم وعليكم

أنا صانع الماضي

كل آثاركم هي حضوري

بل، أنا مستقبلكم الذي لا مستقبل له.

تفرحون راقصين بالمولود احتفالاً بالحياة

ما من أحد منكم بكى حزنا على المولود

الذي ولد معه الموت

وكبر معه الموت

وشاخ الموت

ومات الموت.

فتندبون وتلبسون السواد

وتذرفون الدمع

 وترثون صادقين وكاذبين

احتجاجاً عل موت الموت.

ولست غريباً يعيش في داخلكم

فمن نطفة واحدة ولدنا معاً

وأنتم الموت نفسه الذي ينتظر

العودة إلى التراب الذي جلبتم منه

أنتم يا من صنعتم السيوف

من أجلي

واكتشفتم النار لتحرقوني

وأعليتم السجون كتماً لأنفاسي

وصنعتم العروش من جماجمي

وأشعلتم بالحروب من عظامي

ونسيتم بأن الدود في انتظاركم،

أنا أنتم يا أهل الأرض

فحين تخافون مني تخافون منكم

أنا قلوبكم التي كفت عن الخفقان

أنا جماجمكم التي خلت من ادمغتكم

أنا أفواهكم الشرهة التي ما عادت تقوى على الالتهام

أنا أيديكم التي سرقت وقتلت

ونصبت حبل المشنقة ثم تعظمت

انا قضيبكم الذي اغتصب وأحب وترهل

تكرهوني كرهكم لذاتكم

وخوفاً مني على بقائكم

وتحبوني كرهاً بأعدائكم.

أنا أنتم

وأنا أنتم

يامن تظنون بأنكم نجوتم مني

فيا أيها الغارقون في المستنقعات الآسنة

لا تقربوا من ينابيع الحياة النقية

ابقوا حيث أنتم وانتظروا الجفاف

فالشمس لا تطيق دناسة الأرص

الكائن المتكون من خلطة اشباه

موت لا يتذكره الأموات

أنا الموت النبيل أحياناً

تمردت على ذاتي

وقررت أن أبقى معالمَ على هذه الأرض

صرت رسمة على جدار كهف

وتمثالاً في ساحات معبد

ولوحة معلقة على جدار كنسية

ورُقماً يكتب سيرتي

وكتاباً يسكن أرشيف المكتبة

ثم صرت معزوفة لا تبلى

تختزنها ذاكرة من معادن الأرض

وفلماً

وقصيدة

كنت موتاً يحيا ويشعر،

وصرت موتاً من عظام

يا أهل الأرض

أنا أنتم

انا قبوركم التي سخر منها أبو العلاء

أعمى البصر وعبقري البصيرة

بيوت عظامكم

لا تسكنها حياة تنتظر

والأوصاف التي خلعتموها على الموتى

لا تسمعها عظامهم

ألطموا كيف شئتم ومتى شئتم

وموتوا من أجل ما قدستم

واحلموا بالمنكوح والمأكول والمشروب بعد الموت

كما يحلو لكم

العدم الذي عاش في قلوبكم

مل صحبتكم

وكسلطان شرقي أشر

انفرد بالجسد

وطار به إلى الفناء المطلق

الجسد الذي ضج بالوجود

غاب الغيبة الأخيرة

بكل ما يحمل من أسفار الفؤاد

وأسرار العقل

وأغوار النفس

وحب الحياة

الموت ليس ضيفاً ثقيل الظل

الحي هو الضيف الذي ينسى آداب الضيافة

ينسى بأنه الضيف الثقيل على الموت

ولا يتذكر إلا موت الآخر

يودع الآخر الذي غادر صحبة الموت

وصار موتاً محضاً

الأموات يودعون الأموات

والوداع هو الوداع

 أكان الوداع إلى قبر زخرفته النقود

أو إلى قبر في الفلاة

سيان إن شيعك الميتون

على أنغام النشيد

أو شيعوك صامتين

سيان إن كان نعيك

ملصقاً مزدانًا بأبدع الرايات

أو مروساً بآيات وآيات

أو صليب

الموت في مهج الإنسان صور شتى

موت يظل جرحاً عميقا يصدّع الأكباد

وموت يٌرقّص الحاقدَ تشفياً بالفناء

الموت هو الموت

ولكن لا تقلْ لي: العيشُ هو العيشُ

والأحلامُ هي الأحلامُ

والنفوس هي النفوس

فالروح على هذه الأرض تجري

وما كان الجسد إلا الروح

لا قسمة إلا في الوهم

الكائن واحد

واحد في الهم والعشق

في الحزن والفرح

في الحقد والقتل

الموت المشهد الأخير في الملهاة

أيها الأحياء أنا العدم

وإليكم وصيتي:

لا تستعجلوا حضوري

فلا تَقتلوا

ولا تُقتلوا

طمعاً وهبشاً وفجعاً وحقداً

الطاغية الذي خفتموه وعبدتموه

ومتم من أجله مات

ولن يعود

الاسم الذي قدستموه

ثم ألهتموه

قتل وقاتل

مات ولن يرجع

الأكاليل التي تزينون فيها قبور الأحبة

تسخر من موتها فوق الموت

المال الذي كدستموه لم يعد لكم

البيوت التي شيدتموها

تسكنها أجساد غير أجسادكم

لباس الأموات التي تتزينون بها

تجعلكم أضحوكة على مسرح التاريخ

يا أهل الأرض:

أنا أنتم وأنتم أنا

فأين المفر

على هذه الأرض ولدنا معاً

وعلى هذه الأرض نفنى معاً

يا أحبتي الراحلين

ولدنا معاً

نحن نحن والعدم

في لحظة انفجار الحياة

يكون العدم مختبئاً

في زغاريد الفرح بكاءً

فلم التأفف والحزن من المهزلة

من الوجود ولد العدم

فاتحدا

سرمدياً اتحدا فينا

وجود مضمر هو العدم

وقالها فيلسوف الغابة السوداء

“العدم موجود”

فلا تسل عن زمان البدء

ولا عن أوان النهايات.

في وئام وشجار وجدا

يتأمل الفيلسوف اللاحكمة

 يكتنه الأشياء وما لا يُرى

ويخاف أن يعلن بأن العدم هو الشر المطلق

ويكتب الشاعر آلامه وأوهامه المشتهاة

وينادي:

“فاغنم من الحاضر لذاته”

ويتساءل حزين:

إذا كان موت الظالم رحمةً

فلماذا يرحل النبيل!

أمل يمنحنا حب البقاء وينعدم!

ونهر الفناء يجري ويجري

أجسادنا يا أرحام العدم

من سواكِ؟

أيها العدم يا مصب أرواحنا الأخير

 ما الذي حببك بأجسادنا

ألتعلن على هذه الأرض حكمة الرماد

أيتها الأرض

يا وليدة النار

لمَ لم تمنحي بنيك روح النار الأبدية؟

لماذا انطفأ جمرك الوقاد

يا آلهة السخريات!

ما الذي أغراك بالحياة يا أم المقابر!

أأنت واحة أم بيت عزاء؟

عمياء أنت

لا تسألين ولا تُسألين

تدوسين على الأرواح متى شئتِ.

يا صاحبيّ سوس الفناء لا يُرى

يَحتجب خلف السعادة بالمولود

وبكاء المولود

ومتعة الأم

وزغاريد النساء

ما الذي يبكيك يا أعين الحزانى

والثكالى

والأرامل واليتامى

والصحبة والعاشقين؟

أهو الموت قبل الأوان

أم الموت بعد الأون

أم الموت عند الأوان

وماذا يعني الأوان

ما أقساك أيتها الحياة

أحياة ونبع فجائع!

ما أظلمك أيتها الأرض

رحم أنت وكهف فناء

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني