fbpx

الأمم المتحدة والحلم المنتظر..  بمناسبة ذكراها 78

0 91

بعد حربين عالميتين – أنهكتا البشرية بما سببتا من ويلات وكوارث وآلام – وقعت خمسون دولة ميثاق الأمم المتحدة في 26 حزيران/يونيه 1945 في سان فرانسيسكو مشكلة منظمة الأمم المتحدة، وراسمة الحلم المنتظر للشعوب جميعاً، ذلك الحلم بعالم خالٍ من الحروب، يسوده التفاهم وعلاقات الصداقة والتسامح، ويسعى لرفاهية البشر. عالم يحفظ حقوق الإنسان، ويصون كرامته الإنسانية، وينتفي فيه الاعتداء على الآخرين. وقد أكدت شعوب تلك الدول في ديباجة الميثاق على أن تنقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب التي أنهكت عالمنا مرتين في النصف الأول من القرن العشرين، وأن تؤكد الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان رجالاً ونساءً، وللأمم كبيرها وصغيرها بحقوق متساوية، وأن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وبترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية لكافة الشعوب، وآخذة على نفسها بالتسامح والعيش بسلام وحسن جوار، وبعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول لتحقيق الأمن والسلام العالمي، وبعدم استخدام القوة المسلحة، وتوحيد الجهود لتحقيق هذه الأهداف. ومؤكدة ـ في المادة الأولى من الميثاق ـ مقاصدها في حفظ السلم والأمن الدوليين، وإنماء علاقات الود بين الأمم والشعوب، وتحقيق التعاون الدولي لحل المسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وحق الإنسان في الحياة، وفي الحرية، وتكوين الأسرة، وفي العمل، وحرية التعبير، وتشكيل النقابات والمنتديات التي تسهم في تطوير حياته، وتحقيق رفاهيته التي حلم بها بعد كل ما عاناه من ويلات النزاعات المسلحة والحروب خلال مسيرة الحضارة البشرية.

وأنشأت منظمات تابعة للأمم المتحدة تهدف إلى تحقيق تلك الأهداف والمقاصد في نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والتعليمية في الدول الفقيرة التي تحتاج المساعدة لتنمو وتتقدم كغيرها. ووضعت شروطاً على دول الانتداب والوصاية التي تشرف على تلك الدول، وعززت مفوضية حقوق الإنسان، والشرعة الدولية بإصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية، وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبالاتفاقيات التابعة لها كاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية حقوق المهاجرين، واتفاقية الحد من العنف والاختفاء القسري…، بعد أن لاحظت استمرار النزاعات وانتشار العنف في مناطق عديدة من العالم.

إن الأهداف والمقاصد السامية التي رسمتها دول الأمم المتحدة لو كانت الدول الكبرى جادة في تحقيقها لكان العالم اليوم يعيش في سلام وأمن ووئام، ويسعى لتحقيق الرفاهية لجميع الشعوب؛ لكن هيهات أن تتحقق بعد أن أثبتت الوقائع أن الحيف بدأ من الدول الكبرى التي انتصرت في الحرب، وساهمت بفعالية لإنشاء منظمة الأمم المتحدة، واحتفظت لنفسها بخاصيتي حق العضوية الدائمة، وحق الاعتراض/الفيتو في مجلس الأمن. إن هاتين الخاصتين جعلتا من الميثاق والشرعة الدولية التي أقرت صكوكها وشعوب العالم الصغيرة والفقيرة المغلوب على أمرها تتسوّل العطف من أي دولة كبرى ألا تعترض وتوقف أي مشروع أممي أجمعت عليه الدول كافة، ولم يرضِ مزاجها ومصلحتها الخاصة بكلمة واحدة: «فيتو»؛ لتضيع تلك الأهداف والمقاصد السامية التي كفلها الميثاق في دهاليز وأدراج مجلس الأمن. فكم من مرة استُخدِام حق الاعتراض/الفيتو ليفشل قرارات تهم حياة الشعوب وكرامتها، وكم من مرة بقيت الدول الكبرى تثير النزاعات والحروب في مناطق شتّى من العالم، وكم من مرة تدخّلت في بعضها أو جيّشت لذلك دون موافقة الأمم المتحدة، وتدخّلت في شؤون الدول الصغرى مستخدمة القوة المسلحة بحجج واهية لتحقيق مصالحها الذاتية، ومخلّفة المآسي والآلام لشعوب تلك الدول.

ما زال في الذاكرة ـ أيام الحرب الباردة وبعدها ـ ما حدث من نزاعات وحروب في فيتنام، وكوريا، وكمبوديا، والعدوان الثلاثي على مصر، والأزمة الكوبية، وحرب بريطانية والأرجنتين، والحملة الأمريكية على الإرهاب بعد 11 أيلول/سبتمبر والتدخل في أفغانستان والعراق وتحويلهما لدول فاشلة، والنزاعات في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، والحرب المدمرة للإنسان والبيئة في شرق أوربا بعيد تفكيك الاتحاد السوفيتي، وحرب روسيا وجورجيا 2008، والحروب المتكررة في فلسطين منذ 1948 وحتى اليوم، وحروب الشرق الأوسط، والربيع العربي، والاحتلال الروسي لجزيرة القرم، ثم الاجتياح الحالي لأوكرانيا، والنزاعات المسلحة في سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، والإبادة الجماعية لسكان غزة، ومناصرة الكبار للكيان الصهيوني على الاستمرار في قصف المشافي ودور العبادة المحرمة دولياً وإنسانياً، وتماديه في صلفه غير المبرر في تحدي المجتمع الدولي قد يوصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباها.  وكم سقط ضحايا أبرياء في هذه النزاعات، وكم سُفكت دماء هدراً، وشّرّدت عائلات، وتشتّت ملايين الفقراء والأيتام والأرامل، وخُنقت أحلامهم في صدورهم.

وبعد كل هذه النزاعات والحروب ألا يحق للمرء أن يتساءل: أين الأمم المتحدة منها؟ وأين ما أقرته في ميثاقها بعد تلك المآسي وملايين المشردين واللاجئين؟ وهل تستطيع أن تفي بما يتطلب من مساعدة لإبقاء هؤلاء الناس على قيد الحياة؟ ألا يمكن بحسبة بسيطة إقرار أن ما يُصرف على الحروب وإزهاق الأرواح من أموال كفيل برفاهية البشرية وقبر الفقر والجوع على سطح كوكبنا؟ وهل حققت الاتفاقيات الدولية بغيتها في إيقاف إنتاج ونزع الأسلحة النووية، والكيميائية، والبيولوجية التي تدمر كوكبنا، وتهدد العالم بالفناء؟ وهل يفكر قادة الدول الكبرى أن يلتزموا بما وقعت عليه دولهم من اتفاقيات ومواثيق تحد من إنتاج الأسلحة، ومساعدة الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية في تحقيق أهدافها المرسومة للدفع بالرقي الاجتماعي، والرفاه الاقتصادي إلى منتهاه؟ وهل يقنع أولئك المشاغبون عن إثارة الحروب لتصريف منتوجاتهم الجهنمية التي تحصد الأرواح؟ وهل بمقدور منظمة الأمم المتحدة كبح جماحهم؟

والآن بعد ثمانية وسبعين عاماً من عمر الأمم المتحدة آن الأوان أن يُعاد النظر في ميثاقها، وتعديل عضوية مجلس الأمن، وإلغاء حق الاعتراض/الفيتو، وحق العضوية الدائمة لتتساوى الدول جميعها، والأمم كبيرها وصغيرها في التمثيل انسجاماً مع ما جاء في ديباجة الميثاق ومقاصد الأمم المتحدة في المادة الأولى من الميثاق نفسه.

مع الشكر لجهود الأمم المتحدة التي تقدمها في المجالات الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي دعم المنظمات الدولية العاملة في تلك المجالات بقدر ما تستطيع لتحقيق أهدافها المرسومة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني