دحروجي المبيض
دحروجي المبيّض لم أستطع لا قبلاً ولا الآن تذكر كنية أخرى له غير لقبه هذا، مثلما لا أستطيع أيضا تخمين عمره، فهؤلاء المتعبون المعذبون في حياتهم نفشل دائماً في تخمين أعمارهم التي توحي أكثر بكثير من حقيقتها!؟.
دحروجي في ذاكرتي مسن ضعيف البنية، قصير القامة، مقوّس الظهر يعشعش سواد النحاس في تجاعيد وتشققات يديه ورجليه وخصوصاً في كعبيه، لأنهما أهم أدوات مهنته، فقد كان يضع الآنية تحتهما ويمسك بكلتا يديه طرفي عصا مثبتة في الجدار ويبدأ بحركة نصف دائرية مسنداً كل وزن جسده على كعبيه العاريين إلا من قطعة من قنب أو ما شابه تحتهما مغطسة بمواد كيماوية تزيل عن الآنية النحاسية صفرتها، لتعيد تلميعها كأنها فضة خرجت حديثاً من يد صائغ!.
طالما كنت أجلس على درجة باب منزل محمد أمهان في الضفة المقابلة للشارع أراقب مفتوناً رقصة دحروجي التي كانت تتكرر بضع مرات يومياً، رقصة تطول أو تقصر حسب مساحة الآنية تحت كعبيه!.
دحروجي مات وأنا غض غرير، لكني كلما رأيت آنية نحاسية أتذكر دحروجي وأتذكر له رقصة واحدة فقط من رقصاته، تلك التي ترافقت آنذاك مع صوت مذيع يتحدث بزهو حتى يكاد جسده يخرج هو الآخر مع صوته من مذياع دكان والدي عن بشرى وبركات انضمام ليبيا إلى الوحدة مع مصر وسوريا في صد الكيان الغاصب.
كان كلما اشتدت قوة صوت المذيع اشتدت معها بتناغم دقيق سرعة دوران وسط دحروجي وسرعة حركة سرج شرواله يمنة ويسرة! وأيضا كلما شدّد المذيع على أهمية دور حافظ الأسد في الوحدة لدحر الكيان الغاصب مستخدما آلية الضغط على حروف اسمه، كان دحروجي هو الآخر يشد ويضغط أكثر على كعبيه ليصل إلى مبتغاه في تلميع آنيته.
وفي النهاية حين تعب الاثنان وتوقفا، أدركت أن المذيع رغم صراخه والضغط على بعض كلمات خطابه لم يكسب انتباه دحروجي الذي ركّز طاقته في كعبيه يمسح بهما سواد السنين عن الآنية النحاسية لتعود براقة كلمعان الفضة!!.