fbpx

قصة قصيرة
طار الحمام

0 317

لم أكن قد تجاوزت السابعة من عمري حينها وأذكر أن الصيف كان حارقاً وجافاً كعادة صيف الحسكة.. على عجل أيقظتني أمي وهي تناولني ثياباً نظيفة يلا ياعيني يلا بالعجل يزوود كانت سيارة التاكسي تنتظرنا خارج البيت والتي قامت بتسليمنا للبوسطة التي لم نعرفها الا باسم (توزوطو) سيارة أمريكية على ما أذكر منتفخة كبيرة الحجم غالباً تعمل على نظام ستة سلندر وثمانية لقلة فئتها يقوم السوري بعد أن يُدخل عليها تعديلات في كراجات الأرمن بسلخها من طبقتها البورجوزاية بعد إضافة مقاعد جديدة وشرشحتها بالكثير من الشناشيل وصور سيف علي ذو الرأسين والمرايا، الكثير من المرايا.

سيارة سوداء كبيرة الحجم عادة ما تُسمعك حين تمشي أصوات على سبيل بررررج ترق بم بخ فتفهم أنها (توزوطو) التي تختلف عن كل السيارات.

انطلقت تأكل الطريق الضيق صوب دير الزور الذي تعرف كل شبر فيه وتعرف عجلاتها متى تخفف سرعتها ومتى تُطلق لنفسها العنان.

الحر والأنفاس وروائح الأفواه والعرق كما لو أن كل ذلك لم يكف فزاد الطين بلة سجائر الركاب حتى وصلنا الحاجز الأمني فعرفنا أن دير الزور على الأبواب بتكاسل يقترب منا العسكري وقد أنهكته شمس دير الزور وبارودة الكلاشينكوف المعلقة على كتفه:

منين؟ ااا أي.. وين؟ ااااأي اممم الهويات!

لم نكن نعرف حينها لهجة الساحل التي لم تكن منتشرة آنذاك لا نفهم إلا لهجة الدير والجزيرة لا حلبي ولا حمصي ولا حموي فكل اللهجات الأخرى بالنسبة لنا كانت شامية.

وصلنا دير الزور ولم تكد (التوزطو) تتوقف أمام باب معدني في زقاق مهجور حتى سارعت أمي بالنزول وهي تصرخ (يا وييييييييلي يابو فاررررروق يا ويلي) فجاء رد جوقة من النواحات خلف الباب يا وييييييليييييي يا ويلي..

شعرت بالخوف، حاولت أن أتشبث بعباءة أمي السوداء بكلتا يدي لم تكترث أمي حاولت ثانية بكل أصابعي ولكنها لم تلتفت ومضت مسرعة إلى باحة البيت الترابية لتأخذ مكانها في حلقة النسوة وتشاركهن النواح وقد تربعن الأرض ليشكلن دائرة سوداء كما لو أنه طقس وثني.. بأكفهن يضربن التراب ويرفعنه لرؤوسهن العارية تارة بعد أن كشفت شعورهن المشعثة ويضربن صدورهن تارة..

لا عاش عمري يا قلبي.. يا ويلي عليك ياأبو فارووووووق.. ومنهن من أخذهن الحماس أكثر فمزقن بعض ثيابهن لينلن استحسان بقية النسوة.

حاولت الهروب من حصار الخوف فصرت أتفتل في أرجاء البيت محاولاً اكتشاف أسرار هذا الوكر الماسوني خاصة وأن أحداً لم يكترث لأمري.

على الطريق أمام البيت كانت هناك خيمة سوداء كبيرة جداً مصنوعة على الأغلب من شعر الماعز مُقلمة بخطوط بيضاء منحتها شيئاً من القداسة والهيبة، بداخلها رجال كُثر وكلهم يدخنون السجائر ويتبادلون الأحاديث بلا مبالاة وهناك من يوزع عليهم فناجين القهوة المرة ولم يكن أحد منهم – مثل النساء – يبكي، كانوا يتحدثون مع بعضهم بهدوء حتى أني رأيت أحدهم يضحك، نعم كان يضحك ولكنها لم تكن تلك الضحكة الفاجرة التي تعودت سماعها من الكبار هاااااااااع هع هع كح كح قهقهقهقه ويصفق كفاً بكف.

كانت ضحكة خفيفة وقورة لم يصدر عنها سوى صوت خفيف هااع هع هع هه ومالبث صاحبها أن زّم فمه.

لم أكن أعرف ما الذي سأفعله وحدي خاصة وأنني بدأت أشعر بالجوع ولم تسألني أمي إن كنت جائعاً، كل ما قالته لي قبيل وصولنا أن كل من ستراه في دير الزور هم أهلك وعشيرتك.

في تلك الأثناء شممت رائحة كباب، اقتفيت أثار الرائحة حتى قادتني إلى غرفة متوسطة الحجم وكان هناك امرأة بعيون لئيمة ورجلان معها وهناك من يُدخل أكياس الرز والطحين وعلب السمنة والسكر وأحد الرجلين كان يكتب على ورقة تلك الأسماء الملصوقة على كل كيس أو علبة ومن ثم لم تصدق عيناي ما رأيته أوعية كبيرة نسميها المغرف مليئة بالكباب..! كباب، كباب حقيقي يشبه الكباب الذي كان البدو القادمون من قراهم يأكلونه بوحشية على أبواب المطاعم في الحسكة.. هؤلاء البدو الذين لم يكونوا يستخدمون أسنانهم لمضغ الكباب فما إن يضع واحدهم قطعة الكباب في فمه حتى تختفي ليُصدر أصواتاً غريبة بعدها مثل عاااع حااااح ححححح غير مكترث بردود فعل المارة.

مع تلك الروائح المثيرة بدأت أشعر بجوع حقيقي وتلك الحقيرة بعينيها الصغيرتين وشكلها اللئيم رمقتني بنظرة عدائية وأدارت وجهها.

تمتمت بقهر حينها (انعن أبوكي على أبو قرايبي على أبو ها اليوم النحس يا كلبة يا حمارة)

سيدة حقودة حيوانة لم تفكر أن تعطيني حتى لو قطعة من هذا الكباب الكثير المستلقي باستسلام في المغرف بانتظار مُغتصبيه.

كنز حقيقي من الكباب يكفي لإطعام كل أطفال دير الزور ولسوف يقضون عليه هؤلاء السفلة من أقربائي بحجة الله يرحمك يا أبو فاروووق.

بانكسار لم يكن أمامي الا ترك المكان، جائع جائع وهكذا منظر لا يعني سوى العذاب قررت أن أصعد درج البيت علني أنسى أكوام الكباب الحقيرة ولا أسمع تلك الأصوات المرعبة للنساء

على السطح سأشاهد دير الزور ومن يدري ربما سأرى الفرات.

مجموعة من صناديق التفاح الخشبية الفارغة رُصفت بانتظام فوق السطح على قفاها، اقتربت من أحد تلك الصناديق فسمعت صوت همهمات غريبة دفعني فضولي لأن أقلب الصندوق من مكانه فطار على الفور زوج حمام.

فهمت أن أحدهم قد سجن الحمام بتلك الصناديق فقلبتها صندوقاً تلو الآخر ومن كل صندوق يطير زوج حمام.

نزلت وأنا أرتجف من الخوف حين سمعت بعض الوشوشات بين الرجال والنسوة حتى قال أحدهم بصوت غاضب: (يول منو طير حمام المرحوم؟).

يول الحمام.. طار الحمام منو هالقواد العمل هالعملة ؟ يول والله لأشلخو بالنص..

لم أنبس ببنت شفة كنت فقط أرتعد وأنا أبحث عن أمي

عرفتها من بين النسوة جلست قربها محاولاً استعادة أنفاسي حينها شعرت بالسكينة والرضا

نظرت إلى السماء تلاشت أصوات الرجل الغاضب.. تلاشى نواح السيدات

صمت جليل وابتسامتي وأنا أشاهد الحمام يطير بفرح كما لو أن روح المرحوم تطير مع الحمام

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني