fbpx

مولوية في جامع سيدي محي الدين

0 42

قادماً من سوق الجمعة في نهاية الصالحية ترك عدنان النوري عربته التي يبيع فيها الذرة والترمس أمام الباب المزخرف للمسجد العتيق، وقف، رفع بصره، ردد عبارة الحمدلله عاقدا على أصابعه، قرأ فاتحة الكتاب، تنهد، استند قليلاً إلى الجدار المبني فوق حجارة تلتف مفضية إلى زقاق طويل، جال ببصره في المكان، كان بعض المريدين يسارعون بلملمة ما تبقى من آثار الوجبة الأسبوعية التي يطهونها ويوزعونها على الناس؛ الحنطة المهروسة مع لحم الضأن المعد خصيصاً لهذا اليوم، ورغم أن الكمية تقل في كل مرة لكنهم لم يوقفوا هذه السنة المتبعة منذ ما يقارب ثلاثمئة عام.

على جانبي الزقاق وعلى أطراف الساحة المقابلة لباب المسجد حيث تجلس النسوة اللواتي يوزعن الصدقات. عندما يطل بعربته يرفعن صوتهن متوسلات:

– يا شيخ عبدالله لا تنسنا من الدعاء اليوم

يراقبنه حتى يغيب داخل المسجد ويعدن لبيع الخبز والملح وبعض المأكولات الخفيفة، يتحلق حولهن أناس يدفعون لهن المال ويقدمون لهن أشياء متنوعة بين ملابس وأطعمة، وأشياء أخرى، وهن يقمن بتوزيعها على عائلات مستورة في الحي أو خارجه.

أرخى عدنان النوري ركبتيه ثم مال بجسده الضخم وكتفيه العريضين، وجهه الأبيض يشع بالرضا والطيبة، لقد اعتاد أن يمكث في المسجد في هذه الساعة المباركة التي تسبق صلاة العصر، وتلي انفضاض المصلين من بعد صلاة الجمعة، بعد أن يفرغ من الصلاة يخرج ليبيع رزقه من الذرة والترمس المسلوق، ثم يعود مجدداً للمسجد، يتوضأ بهدوء وخشوع، يجلس في زاويته التي يؤثر الاعتكاف فيها يسبح ويذكر ولا يقوم إلا للصلاة وبعدها لحضور درس الشيخ عثمان.

أكثر ما يحبه في المسجد هو هذه الساعة، وهذه الزاوية، ووجه الشيخ عثمان الذي يشرق بالتقى ونور الإيمان، وصوته الرخيم حين ينشد أشعار الشيخ محي الدين ويردد قصائده وترجمان أشواقه. يستمع له بكل جوارحه، وتحمله الحال لعوالم لا يحدها سقف المسجد المزين بالنقوش، والحروف البديعة.

أما أكثر ما يحب في زاويته تلك فأنها جزء من المكتبة وامتداد لها، يصلها بمحراب المسجد ركن صغير كأنه وضع خصيصا له، فكان يتناول ما يريد من الكتب ثم يطوي الساعات وهو يقرأ، ويطوف في حادي الأرواح وبلاد الأفراح، ورياض الصالحين، وزاد المعاد.. وذلك العالم العلوي الذي لا يبارحه إلا إلى خضم السوق حيث يجهد نفسه في العمل ليعيل أسرته التي لا معيل لها سواه، خلفته كانت ثلاثا من البنات، قدر لهن أن يبقين عنده فقد فاتهن القطار، أو كاد، وآلى على نفسه ألا يحرمهن من أي خير أو حاجة مما تشتهي أنفسهن، ولكن ما أصاب الناس من ضيق الأحوال منعه من استمرار تدليله للبنات وأمهن، فأخذ يتحايل على الوقت فيطيل المكوث في زاويته بالمسجد يتعبد ويتفكر ويدعو الله أن يكون الفرج قريباً.

أنهى وضوءه وخرج من الموضأ، شعر بيد تلمس ذراعه، نظر فإذا برجل نحيل وضيء الوجه يبتسم وهو يقول:

– حباك الله الدرر ويسر لك ما تعسر.

هز رأسه بامتنان وهمس:

– وإياكم سيدي

سارا معاً حتى دخلا محراب المسجد ثم اتخذ مجلسه في زاويته المعتادة يستغفر ويذكر الله وإلى جانبه، جلس الرجل النحيل بعمامته الغريبة الشكل وابتسامته نفسها لا تغادر شفتيه وكأنها مرسومة رسماً بل لكأنه هو نفسه لوحة من جلال وبهاء.

قبل أن ينهي عدنان النوري ذكره صدح صوت صاحب الابتسامة مترنماً:

انض الركاب إلى رب السموات وانبذ عن القلب أطوار الكرامات

وغب عن الكون بالأسماء يا سندي حتى تغيب عن الأسماء بالذات

كان صوته شجياً، حنوناً كأنه صوت ملاك من السماء، أخذ عدنان يهتز طرباً إلى الأمام والوراء كأنه في حضرة، والرجل يمد صوته بقصيد الشيخ ابن عربي، يختار منه ما طاب له، حتى أصاب عدنان من حال الذكر ما حمله لينهض، فنهض وارتدى حلة بيضاء كانت إلى جانب الشيخ المترنم، تقدم عدنان عدة خطوات حتى صار وسط المحراب، ثم أخذ يدور ويدور منتشياً بالصوت والحضور.

كرر صاحب الابتسامة الأصوات التي انتقاها من ترجمان أشواق الشيخ ابن عربي وتابع إنشاده، وعندما وصل لمقطوعة:

النار تضرم في قلبي وفي كبدي شوقاً إلى ذات الواحد الصمد

فجد علي بنور الذات منفرداً حتى أغيب عن التوحيد بالأحد

صار عدنان النوري يحلق رافعاً يديه في فضاء المسجد ويكاد يلامس نقوش زهرات القرنفل الموزعة على السقف والجدران، يسرع الشيخ الصوت فيسرع عدنان الدوران، والحلقة البيضاء تتسع وتغمره أنوار لا يدري كيف شقت ثنايا المكان.

أمسك الشيخ الغريب عن الإنشاد وأفاق عدنان النوري من حاله، بحث عن صاحب الصوت الفريد والابتسامة العفية فوجد مكانه فارغاً إلا من كتاب مفتوح على الأشعار التي صدح بها، قلب غلاف الكتاب فقرأ عنوانه “العقد اللؤلؤية في طريق السادة المولوية” لمؤلفه عبد الغني النابلسي.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني