fbpx

قراءة في مسرحية “وِزْر” للكاتبة والممثلة د. لجين حمزة والمخرج الأستاذ معن دويعر

0 162

تتوالى الأيام والسنوات، وتتبدل العصور، ويبقى المسرح سيد الفنون، يعانق الواقع ويضارعه، وينطلق منه ليعالج مشكلات المجتمع بأسلوبه الساخر حيناً أو التراجيدي أو غيره أحياناً أخرى. فمهمة المسرح الأولى التأثير في مفاهيم الناس، وعقولهم، وسلوكياتهم من خلال ما يقدمه من دلالات وعبر ورموز في خطابه للجمهور. خشبة المسرح أمتار قليلة، ليست للترفيه والمتعة بقدر ما تختصر عالماً فسيحاً، وحياة مجتمع كامل مختزلة ما فيه، ومعبرة عن همومه وطموحاته، ومشاعر الناس وأحاسيسهم وأفكارهم.

مسرحية “َوِزْر” مسرحية هادفة، وبإمكانيات مالية متواضعة، قدمت فكراً تنويريّاً يعالج ظاهرة العنف المجتمعي بعامة، والعنف ضد المرأة خاصة، وظلم الموروث الاجتماعي الذي تتناقله الأجيال ذكوراً وإناثاً على السواء، والطموح إلى التحرر منه، ذلك الموروث الذي ترسّخ في ذهن المرأة حتى أنها شاركت أخاها الرجل في التعنيف ضد نفسها، وربما تبدو بعضهن أكثر قسوة وشدة وكأنها تنتقم لذاتها عندما تنتقم من أختها المرأة؛ لتنفّس وتفرّغ شحنة النقص التي تكمن في داخلها.

قراءة متواضعة، وتصور انطباعي تكوّن بعد مشاهدة المسرحية، حيث أنطلقُ من العنونة “وِزْر” متسائلاً عنها، وزر مَنْ الذي تتحدث عنه؟ هل هو وزر/خطيئة البطلة “عنود”، أم الشيخ والدها، أم العمة “الجليلة”، أم “مبارك”، أم “شهاب”، أم خطيئتهم جميعاً، أم هو وزر الموروث الاجتماعي الذي عاشوه؟ وما مدى استمرار هذا الوزر المتوارث عبر الأجيال منذ القديم حتى يومنا؟ وإلى متى يمكن أن يستمر؟

تدور أحداث المسرحية في مكان وزمان افتراضيين، وحقب زمنية مختلفة مثلت أجيالاً متعاقبة، وربطت بين الزمنين القديم والحديث، مع استمرار فعل الموروث والنظرة الدونية للضعيف في المجتمع، والمرأة هي الأضعف فيه دوماً، وبروز فكرة التحدي والطموح للحرية. فكرجديد رافض هذا الموروث، وساعٍ للانعتاق منه، ومتطلع إلى حياة مستنيرة يتسامى فيها الإنسان، وتسمق قيمه الإنسانية من خلال صراع مرير بين الفكر التقليدي المتوقع على ذاته والجامد، وبين الفكر الجديد الخلاق الطامح للتحرر من القيود التي تكبل الإنسان في قوقعة موروث يتحكم بالعقول والأفئدة؛ لتبقى سطوته قادرة على الاستمرار، وتبقى قصور الطغاة عامرة على حساب حياة الناس الضعفاء.

تحدثت المسرحية عن شابة “عنود” ابنة الشيخ، صاحب النفوذ والقوة والجاه، والسلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية، رافضة لمبادئ الفكر التقليدي الموروث، وعمتها “الجليلة” التي ساهمت مع أخيها الشيخ في إخفاء جرائمه، و”مبارك” الشاب التابع لتلك السلطة الظالمة، والراغب بتنفيذ ثأره الخاص، و”شهاب” الرجل المبدئي التوّاق للحرية، والمقموع بقوة من أتباع السلطة. وقد استمدت رموزاً لتوضيح فكرة الصراع كـ(الفرس ولجامها، وطفلة البطلة الافتراضية، ومتجر الورد، والمسدس).

لقد تحدثت المسرحية عن صراع الإنسان الأزلي عبر التاريخ بين السلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعقدية المتمسكة بالموروث لتثبيت سلطتها واستمرارها وبين التواقين والطامحين إلى التحرر، والرافضين لهيمنة السلطة والموروث على مسيرة حياتهم، وحرمانهم من ممارسة دورهم الإنساني في تطوير مجتمعهم، ورفع مستوى عيشهم في جوّ من الحرية أفسح.

الشخصيات:

عنود: بطلة العمل المسرحي، تمثل الجيل الشاب الطامح للتجديد، والمصر على هدم أركان السلطة وأشكالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية المسيطرة، والمتمثلة بوالدها الشيخ وأتباعه العمة ومبارك.

الشيخ: الشخصية التي تمثل النظام الأبوي/البطريركي، والسلطة المتحكمة برقاب الناس في المجتمع، والقابضة بقوة على مقدرات الجميع، المعتمدة أسلوب العنف الجائر في مواجهة ما يمكن أن يهدد قدره وهيبة سلطانه، وسمعته الاجتماعية.

الجليلة: أخت الشيخ والتابعة العمياء له، المتسترة على جرائمه، والمنفذة لمخططاته، والضاربة بقبضة السلطة وعصاها وسلاحها، والمدافعة عن الموروث حتى لو كان يؤذيها، والمحاربة لكل فكر متجدد يسعى للتغيير إلى الأفضل حتى من أجلها هي، فقد شاركت الشيخ في إخفاء مقتل أم مبارك التي اغتصبها، وزوجه أم عنود.

مبارك: شاب ممتلئ قوة، وشخصية تابعة مأجورة ينفّذ أوامر السلطة/الشيخ، ويختزن في رأسه كرهاً للمرأة، ويعتبرها سلعة لتنفيذ مآربه، وفي داخله طعنة نقص إذ يعلم أن أمّه ضحية الشيخ وتآمره مع الجليلة لإخفاء جريمته، وليقتلها أهلها بدافع الشرف لكرامة مهدورة، والساعي للانتقام لها.

شهاب: ذلك الرجل الشهم المستنير، والمحرض على الثورة والتحرر، والرافض للاستسلام، يرى أن استمراره، واستمرار فكره في البطلة عنود، والذي قُمِع بطريقة وحشية على يد مبارك بأمر من سلطة الاستبداد.

ومن خلال العرض وضّحت الثياب التي ارتداها الممثلون تطور الزمن بين القديم وبين الحديث من فستان عنود وثياب الشيخ والجليلة ومبارك في بدء العرض، وتغيّرها في النهاية إلى ثياب تناسب الحاضر المعاش.

كما ساعدت الدلالات الرمزية في توضيح الصراع الداخلي في المسرحية، فالفرس الافتراضية الجامحة التي تمثل الحرية المكبوتة، والتي تُقتَل بمجرد كسرها القيد، وفرارها من محبسها. ولجام الفرس الذي رمته البطلة أخيراً كرمز لرفض السلطة الذكورية والتقاليد والأعراف التي تستبد بوساطتها السلطة بالأفراد وبالمجتمع. وطفلة البطلة الافتراضية أيضاً التي حاولوا إجهاضها، وأصرت البطلة على إنجابها كرمز للفكر الجديد والثورة على الموروث، وعلى العنف، ومحاولة التغيير للوصول إلى مجتمع حرّ، المرأة فيه سيدة مساوية للرجل في كل شيء. والمسدس سلاح العصر الحديث الذي أشهرته الجليلة مهددة عنود، ما هو إلّا سلاح الفكر التقليدي الموروث وأعرافه في وجه الفكر التنويري الباحث عن التحرر، ورميه دلالة على انتصار أفكار التنوير والكلمة الحرة على الظلم والقهر، واستخدام الجليلة له دلالة على تجذر الموروث في ذهنية المرأة وتبعيتها العمياء للرجل. ومتجر الورود الذي يدور بعكس عقارب الساعة للدلالة على التمسك بالزمن الماضي، والعيش ضمن مفاهيمه وأعرافه، ويخفي ظاهره الجميل سوء باطنه إذ حاولوا فيه إجهاض طفلة عنود الافتراضية.

ولا ننسى الديكورات التي خدمت الفكرة وأبرزتها زمانياً بشكل جليّ، فالجدار الحجري عمق الماضي وسجن الحاضر، والنفق المظلم الذي تخرج منه البطلة ما هو إلا عصور الظلم والقهر والاستبداد الممارس على المرأة والمجتمع معاً، فخروجها منه يمثل محاولة صراعها مع الظلم اللاحق بها عبر العصور حتى اليوم، ومتجر الورد الخشبي هو الحاضر الهش للسوء المقيم، والمسافة الفاصلة ما بين الجدار الحجري وبين المتجر هي استمرار وامتداد الزمن من الماضي إلى الحاضر، والقنطرة التي عُلِّق بها شهاب وقت تعذيبه هي أقبية سجون السلطة الاستبدادية، ومكان ممارستها الوحشية للتعذيب وقمع الحريات. أمّا الإضاءة والموسيقا فكانتا تبرزان المواقف والمشاهد، وتمنحانها بعدها الرمزي والدلالي، بالانسجام مع الديكور.

ولابد من كلمة شكر وامتنان للمخرج الأستاذ معن دويعر على الجهود المبذولة، فإخراج المسرحية بالصورة التي تنمّ عن فهم عميق للفكرة وإبرازها بالشكل المميّز على خشبة المسرح، وللكاتبة والممثلة اللامعة الدكتورة لجين حمزة والأداء الرائع هي والسيدة فادية أبو ترابي، والسادة أكرم العماطوري، وسلمان رضوان، وأيمن غزال على الإبداع في تمثل/تقمّص الشخصيات التي قدموها على الخشبة بإتقان جميل ومقنع لجمهور الحضور.

أخيراً أتت مسرحية “وِزْر” نكزة في خاصرة عقول الجمهور ليعيدوا النظر في كثير من المسلمات التراثية التي توارثوها عن الأجداد، ورفض سلطة الاستبداد بدءاً من الأسرة إلى المجتمع الواسع، وكبح جماح العنف المتفشي ضد المرأة زهرة ربيعنا النضر، وواهبة الحياة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني