fbpx

خيرٌ شرير

0 182

استيقظ مبكّراً على غير عادته، نهض من فراشه متثاقلاً، شعر بلسعة البرد تجتاح أوصاله، اقترب من النافذة.. أزاح الستارة.. الثلج يتكدّس فوق الأرض، ويتسلق الأشجار فتنوء الأغصان به، ويتكسّر بعضها تحت ثقله، اتّجه إلى الموقد.. ألقمه بضع قطع من الحطب.. أشعلها.. وضع فروته المحببة المصنوعة من جلد الخراف الصغيرة على كتفيه.. جلس على كرسيه أمام الموقد.. داعبت ألسنة النار ناظريه، شوّقته إلى القراءة.. أمسك رواية “ذهب مع الريح” تصفّحها.. اقتربت قطته الشقراء تلوح بذيلها.. تحرّشت برجله اليمنى.. وتحرّشت بالرجل اليسرى.. ماءت تعلن “أنا هنا”، امتدت يده الحانية إليها، رفعها إلى حضنه.. أحسّت بالدفء.. تكوّرت على نفسها تستمتع بهسيس النار وأخذت تتمتم بترانيمها، وبينما هو يتصفح الرواية سمع طقة قاطع الكهرباء معلنا عن عودة التيار.

لديه ساعة.. وضع الرواية جانباً.. أمسك بالريموت.. ضغط.. أقلع التلفاز على آخر النشرة الإخبارية.. قال: هاتِ ما عندك عن الطقس.. أطلت المذيعة بمكياجها الصارخ باسمة تفرج عن صف أسنان منضدة.. الحمد… الخير يعمّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها.. الثلوج تغطي جبالنا، والهضاب، والمنحدرات، والسهول، وتتراكم فوق المنازل وفي الطرقات، أعضاء الحكومة مستنفرين يطمئنون المواطنين.

المواصلات: الجرافات، منذ الصباح الباكر، تعمل على فتح الطرقات.

التموين: الخبز سيصل إلى المعتمدين في مواعيده المعروفة.

النفط: ستوزّع الدفعة الثانية خلال الأسبوع…

الدفاع: جنودنا البواسل يرابطون بثبات وشجاعة في موقعهم، وهم على أهبة الاستعداد لصد أي عدوان آثم.

الاتصالات: باقات جديدة توفر الكثير.. فقط رسالة مجانية للرقم 0000.

الزراعة: ثلوج الخير تعدنا بمواسم مجزية بلا حرائق…

الهجرة: البلاد مقدمة على مواسم عطاء وفير. أبناءنا الأعزاء! عودوا لجني الخيرات وإعمار البلد.

صور الثلوج مازالت تتوالى على الشاشة، صورة خاطفة لخيام تتوزّع في العراء يغطيها بياض متكاثف.. المفوضية السامية لحقوق الإنسان والمنظمات الدولية الإنسانية: هناك مئات الآلاف في مخيمات اللجوء والنزوح.. الخيام تنوء بثقل حملها.. تتطامن وتنحني على سكانها.. عزرائيل يتجوّل بينها.. برد قارس وريح تعصف يهددان حياة القابعين تحت أغطية المساعدات، ويرحبان بعزرا.

تملّكته موجة حزن.. أغمض عينيه على آخر صورة.. سمع المذيعة تضحك مستبشرة: الحمد… ثلوج مترامية على طول البلاد وعرضها تبشّر بخير منتظر، ومن نافذتي أراها تتابع الهطول.. أحبائي! افرحوا.. اخرجوا.. عانقوا الثلج.. العبوا واصنعوا التماثيل الثلجية.. غنوا مع نعيمة: سقف بيتي حديد.. ركن بيتي حجر.. فاعصفي يا رياح.. وانتحب يا شجر.. واسبحي يا غيوم.. واهطلي بالمطر.. واقصفي يارعود.. لست أخشى الخطر.. قُطع التيار الكهربائي.

أطفأ الموقد.. أحسّ بأظافر قطته تخزه.. حضنها.. لفّ جسده بالفروة.. اقترب من النافذة، شاهد الثلج يتساقط ندفاً.. عصره إحساس مبهم.. شعر أنه ضئيل يضمحلّ ويتلاشى.. طاف منظر الخيام أمام ناظريه وهي تلتحف الثلج، وطافت صور ساكنيها.. أجساد ترتجف، وأسنان تصطك.. ضمّ قطته بقوة.. عصرها.. ماءت.. صرخ بأعلى صوته:…!!.

ردّد الصدى…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني