fbpx

من الذاكرة..

0 113

في العام الدراسي الأول لي في ابتدائية إبراهيم هنانو انتقلنا من بيتنا في الحي الشمالي بجانب دكاكين نادر إلى حيّ الناعورة الذي بدأت عملية تدمير بساتينه بقلع أشجار التين والزيتون واللوز والجوز والفستق والكرز من تربته الحمراء القانية، ودكّ بدلاً عنها طرق سوداء ومكعبات إسمنتية غاية في البشاعة والعدوانية، “تبشّر” بميلاد حيّ جديد سيكون أول حيّ في مدينة إدلب، مختلطاً بين سكان المدينة والذين يَهجُرونَ قراهم وبساتينهم سعياً لتذوّق “نعيم” الوظيفة الحكومية!، وسيكون فيما بعد أول حزام فقر حول المدينة!.

في فجر ذلك اليوم الصيفي الدافئ، اصطحبني والدي معه على دراجته الهوائية إلى دكانه الذي كان لا يزال على سطوح البير. على طول الطريق كان يُصبّح على هذا ويمازح ذاك بخفّة للأمانة لم أكن أحبّها منه، مع أني ورثتها عنه!.

 كان لفتح الدكان طقوس خاصة عند والدي، فبعد أن يضع الدراجة مقابل دكانه على الزاوية المتشكلة من التقاء دكان آل اللبان، الذين هجروه إلى مدينة حلب، ومنزل الحاج محمد امهان، والمعنونة بلافتة مكتوبة بدهان يرشح غضباً، توحي ريشتها بنزق كاتبها: “لا تبول هنا يا ابن الكلب”، وبينما يهمّ بفتح القفل كان يستعطف الله بسيل من الأدعية وبعض من آيات القرآن الكريم، يسأله الستر والرزق الحلال. وما إن فتح الغلق حتى بادر، كعادته، إلى صندوق الراديو الخشبي الكبير وفرك أنفه فانطلق الراديو يدندن: ترم ترم رم رم رم… ترمرم. مقطوعة البزق الشهيرة لأمير البزق “محمد عبد الكريم”.

وبعدما انتهى والدي من طقوس الدقائق الأولى لفتح باب رزقه دخل إلى “قبوسة” دكانه، وهي خلوة في آخره يستعملها في بعض شؤونه الخاصة، وحَضَّرَ كأس شاي في دلّة صغيرة بالكاد تتّسع لكأسي شاي أو فنجاني قهوة، فقد كان لا يحب أن يجتمع الناس على دكانه إلا في غرض البيع والشراء، كي لا يتأذّى الجيران والمارّة ويتحمّل إثم ذلك.

صبّ كأس الشاي، بينما الراديو يصدح بتلاوة القرآن الكريم، وأشعل سيجارته، ومع الرشفة الأولى اقترب رجل يبدو عليه شيء من عجز كبر السن، ورفع يده بإشارة بالسلام، ثم غيّر حركة يده المنبسطة وأشار إلى أبي بأصبعيه السبّابة والوسطى، وقد وضعهما على فمه متقاطعتين مع شفاهه كالصليب. رحّب والدي به ترحيباً طيباً، وناوله سيكارة وأشعلها له. عاد الرجل ورفع يده مرة أخرى بسلام المُغادِر ومشى ولم يتفوّه بكلمة واحدة، من حينها لم أرَه ثانيةً.

بعدما رحل، استرسل والدي يحدّثني عنه، قائلاً:

يا بني، هذا الآغا فلان أبو فلان، وهو من الظُلاّم وآخرته كما ترى سخام. كان يربط الرجل بدل الدابة إلى محراث الفلاحة. يا بني هذا الرجل كان يقطع الطريق، فلا يمرّ إلى الحي ولا يخرج منه مسكين إلا ويدفع له شيئاً ممّا عنده، مالاً أو سواه. يا بني هذا الرجل اشترى بستان أحد المساكين من نفسه. يا بني هذا الرجل، والعياذ بالله، جمع البنت وأمّها في فراش واحد. يا بني، الظلم آخرته وخيمة، والزاني يُزنى به ولو بجداره، فاتّقِ الله في رزقك ورزق أهلك، فالزنا يُذهِب الرزق.

لم أفهم جلّ كلامه آنذاك، ولم يكلّف هو نفسه، كما جرت عادته، عناء الشرح لي، بينما راح يتدفق من المذياع بشجنٍ صوتُ المقرئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يتلو “سورة النبأ”، أتذكر منها كلمة تتردد: وجعلنا… وجعلنا… وجعلنا… وجعلنا…

كان عمري آنذاك سبع سنوات وما بلغت الثمانية، لكن والدي حفر كلماته عن فلان على تلافيف دماغي. ما فهمتها لكني ما نسيتها. نعم مرّ أكثر من عشر سنين حين فهمت معنى أن يجمع الرجل بين أمّ وابنتها في فراش واحد، وأن يُشترى عقارُ من نفسه لا من صاحبه، فالرجل من سطوته وقف ببستان فيه بضع شُجيرات زيتون وخاطبه:

اشتريتك من نفسك. ورمى فضّيات نقدية متداولة آنذاك تحت شجرة الزيتون ثم عاد وجمعها ودسّها في كيسه، وطرد صاحبه المسكين منه.

كان عمري نحو خمس وعشرين سنة قبل أن أغادر إدلب للإمارات، حينما دار لغط بين بعض أهل المدينة عن ابنة لهذا الرجل ضُبطت في حمّامات إحدى الدوائر الحكومية مع شاب من عائلة بسيطة يمارسان الفاحشة.

عندما وقف قلمي عن كتابة هذا النص ألحّ عليَّ سؤال حيَرني وأخزاني: ألسنا كلنا شياطين خُرساً حتى نسكت عن الظلم؟! ومع إطراقي أبحث عن جواب، كان قلبي يردّد بصوت المقرئ الشيخ عبد الباسط المقطع التالي من سورة النبأ: “إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا* لِلطَّاغِينَ مَآباً”، ومعه تداعت صور خلق كثير من خلقه…

هذه القصة للعبرة، فإن تشابهت مع بعض من هم في ذاكرتكم فذلك مقصود! لكن لا تذكروا أسماءهم على صفحتي، فلقد نهى الرسول الأكرم عن ذكر الأموات بما يزعج الأحياء، وذلك بقوله: “يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسبّوا أباه، فإن سبّ الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت”!.


* في مسرحية “لكل شيخ طريقته” للكاتب الإيطالي لويجي برينديللو يقول: “هل يُصرح للكاتب استخراج موضوع من الحياة لعمل فني؟ الجواب: طبعاً بشرط ألا ندوس على الأموات ولا نفتري على الأحياء”.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني