fbpx

غواية الغموض.. قول في ظاهرة القول الغامض

0 300

وقعت عيناي في موقع حكمة على مقال للباحثة آسيا بلمحنوف بعنوان “إرهاب الغموض” في فكر ميشيل فوكو. فاستهواني مصطلح “إرهاب الغموض” والذي كما أشارت الباحثة يعود إلى فوكو نفسه الذي وصف أسلوب جاك دريدا بهذا المصطلح، نقلاً عن سيرل. ويضيف فوكو على لسان سيرل: بأن الغموض يقي دريدا دائماً من النقد لأنه يستطيع أن يقول ببساطة “إنك لم تفهمني”.

والحق إنه عندما سئل دريدا أثناء زيارته إلى القاهرة، وكنت حاضراً، عن نقد هبرماس له أجاب: إن هبرماس قد أساء فهمي، وقد اعترف لي بذلك. وليس موضع نصي الآن هو الحديث عن دريدا المليئة نصوصه بالثرثرة، بل الوقوف عن ظاهرة الغموض والوضوح نفسها.

دعوني أفترض أولاً بأن الاختباء وراء الغموض عن سابق نية وإصرار، ليس سوى الهروب من الكتابة ذات المعنى والاختباء خلفه.

ونحن هنا لا نتحدّث عن غموض النص أمام قراء ليسوا أهلاً للقراءة بسبب خلوّهم من المعرفة المسبقة بالعلم الذي ينتمي إليه النص. فمن كان من غير أهل الفلسفة، ولا يعرف دلالة مفاهيمها، سيلقي باللائمة على النص وغموضه، وليس على عدم معرفته للفلسفة. ومن لا يدري شيئاً عن مفاهيم ومصطلحات النقد الأدبي فهيهات له أن يفهم نصاً في النقد وهكذا. نحن هنا لسنا أمام غموض، بل أمام عدم قدرة المتلقي على الفهم.

أما الغموض في الشعر فإن وصل حداً صار فيه النص مغلقاً على كل القراء دون استثناء، بمن فيهم نقاد الأدب والشعراء، فهذا نوع غير مستحب وغير محمود، فيما الغموض الشعري الذي يسمح للقارئ بالتأمل والتفكير والتأويل فهو المطلوب.

يميز الثعالبي في كتابه “فقه اللغة” بين القول والكلام، فالقول يمكن أن يكون قولاً ذا معنى أو قولاً بلا معنى. فيما الكلام قول يفيد المعنى فقط. إذن كل كلام لا يفيد المعنى يعود إلى نمط القول الذي لا معنى له، فهو ليس كلاماً.

فإذا أجهد الشخص نفسه، وكان من أهل العلم والمعرفة، للوصول إلى معنى النص ولم يفلح بسبب غموض المعنى، فإن النص قول بلا معنى وليس كلاماً، لأن الأصل في القراء هو التواصل مع المعنى. فإذا لم يسمح النص بأي نوع من التواصل فإنه لا يعود لا بالنفع العقلي ولا بالمتعة الجمالية.

ومن النادر أن يُكتب نص خالٍ من المعنى، وما أكثر النصوص التي يجهد القارئ للوصول إلى معناها، ويصل. لأن الغموض في النص لا يعني خلو النص من المعنى، بل يعني أن المعنى ثاوٍ وراء النص.

وهنا يجب أن نميز بين قدرة نص على توليد المعاني ونص يحملك على حزر الأحجيات. فلقد تأفف مرة فؤاد زكريا، وهو من كتاب النصوص الواضحة، شأنه شأن كل المصريين المشتغلين بالفكر والفلسفة من الرعيل الأول، تأفف ممن يكتبون نصوصاً غامضة، ضارباً مثلاً لنص فلسفي شامي لم يستطع، وهو الفيلسوف، أن يفهم منه شيئاً. فأن يُغلق نص على قدرة فؤاد زكريا على الفهم، وهو الخبير بالفلسفة والفلاسفة فالعلة حتماً كامنة في النص.

بل إن شخصاً اشتهر بكتابة المجلدات وإنك بالكاد تقبض على جملة مفيدة إذا ما قرأته. وآية ذلك أن الفكرة غير الواضحة في ذهن صاحبها لا يمكن أن تخلق نصاً واضحاً، وعلى العكس فإن الفكرة الواضحة في ذهن الكاتب تكتب بلغة شفافة واضحة.

قد يقول أحدهم: إن نصوص كانط وهيجل ثقيلة وعصية على الفهم. والجواب إنها عصية على من لا يعرف معاني المفاهيم التي ولدها هذان الفيلسوفان.

مرة أخرى أعود إلى جاك دريدا، فحين ألقى محاضرته في المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة لعرض تفكيكيته، سأله أحد أهم فلاسفة مصر آنذاك، صاحب كتاب “الموضوعية في العلوم الإنسانية” صلاح قانصوه:

هل لك أن تعرف لنا التفكيك؟ أجاب دريدا: التفكيك ليس منهجاً، التفكيك ليس تأويلاً، التفكيك ليس فلسفة، التفكيك ليس نقداً التفكيك هو استراتيجيا، وأضاف استراتيجيا قراءة.

هل هناك ما يسمى استراتيجيا قراءة؟ سأجيب عن هذا السؤال لاحقاً، ولكن يمكن لأي كاتب أن يطرح استراتيجيا الكتابة، استرتيجيا التأويل، استراتيجيا النقد وهكذا. ولا يكون لهذه الكلمة معنى أبداً إلا إذا سئل الكاتب عن طرقه وأهدافه من الكتابة والتأويل و… و…

فكلمة استراتيجيا تترك القارئ في حيص بيص، ويحتاج في كل مرة إلى دريدا شخصياً ليشرح له المقصود.

وما علم الكتابة إلا مجموعة تأويلات نقدية، تماماً كالتي نعثر عليها في كتاب “الأيديولوجيا الألمانية” لماركس وإنجلز، مع الفرق بأن ماركس وإنجلز إنما أردا أن يطرحا نظرة جديدة للتاريخ. بل يمكن القول بكل اطمئنان بأن تأويل المعتزلة للنصوص، وكشف مشكلاتها، فيما يتعلق بالكافر والفاسق والحسن والقبح العقليين وحرية الإرادة في عالم الجزئيات، لهي قراءة أهم من ذلك الغموض الذي يلف قراءة دريدا لروسو مثلاً، فروسو الكاتب الذي قدم لنا نصوصًا واضحة وجديدة يتحول في علم الكتابة الدريدي إلى كاتب مغلق.

لقد قمت برحلة في عالم إسبينوزا منذ كنت طالباً في قسم الفلسفة في جامعة دمشق، واستمرت الرحلة عبر اختياري موضوع رسالة الماجستير بعنوان “الجوهر بين ديكارت وإسبينوزا”، ونصوص إسبينوزا تعج بالمفاهيم الخاصة به: الجوهر، الصفات، الأحوال، الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة..، ومازال إسبينوزا منبعاً ثراً لقراءات متعددة. ولم نواجه أمام هذا الفيلسوف المجدد أيّ صعوبة في فهم نصوصه. لكن أن يشكو فوكو من غموض نص دريدا فهذا لعمري تزيد مصطنع في توخي الغموض.

قد تكون نصوص هيدجر أكثر صعوبة في فض مضامينها، ولكن غموض نصوصه لا يعود إلا إلى عدم الدراية بالمفاهيم التي يعج بها معجمه .يقول هيدجر في كتابه “الكينونة والزمان”، “ليس من شأن التأويل الأنطولوجي – الوجوداني أن يكون في مقابل التفسير الإنطيقي نحواً من التعميم الإنطيقي – النظري فحسب، ذلك قد يعني فقط: إن كل سلوكات الإنسان، هي على صعيد إنطيقي مشحونة بالهموم يوحدها وجه من التفاني في شيء ما . إن وجه التعميم هو أنطولوجي قبلي. فهو لا يقصد إلى خاصيات إنطيقية بارزة دوماً، بل هيئة كينونة ثاوية بعد في أساسها، في كل مرة. وهذه وحدها التي تجعل من الممكن على صعيد أنطولوجي أن نستطيع التكلم عن هذا الكائن على صعيد إنطيقي بوصفه عناية، وكذا ينبغي أن يتم تصور شرط الإمكان الوجوداني لهموم الحياة والتفاني في معنى أصلي، أي أنطولوجي، باعتباره عناية” (ص 375.)

لقد أشار الفيلسوف المصري الراحل زكريا إبراهيم في نص له بعنوان “الوجود والزمان لهيدجر”، إلى أن غموض نص هيدجر إنما يعود إلى صعوبة والموضوعات التي يتناولها. وينقل عن أحد الفلاسفة المعاصرين دون أن يذكر اسمه قوله: إن نصوص هيدجر تبدو واضحة أمام نصوص كانط وهيجل. فهناك فرق بين تقصد الغموض واصطناعه، والغموض الناتج عن تعقد الموضوع وصعوبة انكشافه بلغة عادية. ولكن هذا لم يمنع الفيلسوف الوضعي كارناب من أن يصف نصوص هيدجر باللغة الفارغة.

أما الغموض في الشعر فلقد قالت العرب بهذا الشأن، إذا اختلف في معنى قصيدة أو بيت من الشعر أن المعنى في قلب الشاعر. مع أن الشعر العربي عموماً حتى ظهور الشعر الحر ليس فيه من الغموض ما يذكر، بل إن شعر أبي تمام الذي اتهم بالغموض ليس غامضاً. ولقد ظهر الغموض مع الشعر الحديث.

ربما يكون المعري هو الذي ينفرد في تعدد المعاني الثاوية في نصه.

يعود غموض المعنى في الشعر العربي مع ظهور الشعر الحر، أو شعر التفعيلي، أو شعر النثر.

فليس في الشعر الكلاسيكي ما يحتاج إلى كبير عناء لفهم المعنى. ولهذا كان يطلب من التلاميذ أن يشرحوا القصيدة أو بيت الشعر. والشرح لم يكن أكثر من تحويل الشعر نفسه إلى نثر دون تأويل وكشف عمّا وراء الكلام الشعري، قلما كان الكلام الشعري يخفي وراءه معاني ما.

مع الشعر الحديث المتحرر من سذاجة كثير من الشعر التقليدي صار الشاعر أكثر عمقاً، ومتحرراً من المباشرة الفجة.

فالشاعر إما أنه يتقصد الغموض، أو يعتقد أن معنى الصورة الشعرية التي في ذهنه قابلة للوصول إلى المتلقي ويكون الأمر على غير هذا. وفي الحالتين يفقد المتلقي القدرة على التواصل مع الغامض ويفقد المتعة في آن واحد. ويترك الشاعر شعره للمشتغلين بالنقد الأدبي فقط. فمهما كانت الصورة الشعرية تحتاج إلى تأمل فإنها يجب أن تصل إلى المتلقي ولا تظل مغلقة على فهمه.

وليس مفهوم المباشرة نقيض مفهوم الغموض، نقيض الغموض درجة من الوضوح تجعل النص قابلاً لاختراق وجدان المتلقي. أما المباشرة فهي تجعل الشعر شبيهاً بالشعر.

تأمل معي مطلع قصيدة لشاعر تقليدي كالجواهري حين يقول:

حييت سفحك عن بعد فحييني

يا دجلة الخير يا أم البساتين

أو

شممت تربك لا زلفى ولا ملقىً

ورحت قصدك لا خباً ولا مذقا

أو مطلع قصيدته في مدح الملك حسين:

يا سيدي أسعف فمي ليقولا

في عيد موعدك الجميل جميلا

هذا كلام مباشر لا قيمة جمالية ولا معرفيه فيه، ولو حررته من موسيقاه لما اختلف عن الحكي العامي، وأغلب قصائده على هذا المنوال. وهذا في معايير البيان الشعري يخرجه من دائرة الشعراء.

إن أسوأ الشعر هو تحويل الكلام العادي العامي المتداول إلى بحور وقواف.

هل هذه المشكلة هي التي حملت بعض مفكري الغرب لطرح مسألة القراءة؟ أجل انشغال بعض فلاسفة الغرب بالسؤال عن القراءة أمر مفيد في تعريف النص، لكنه ليس مفيداً للقراءة بحد ذاتها. ففضح ما في النص من مستور لا قاعدة له. فمن حق القارئ أن يستبد بالنص، ويمارس عليه كل صور العنف ليحمله على الاعتراف، لكن ليس من حق أحد أن يمارس الاستبداد على القارئ الذي يمتلك كل الحرية في أساليب حمل النص على الاعتراف.

ليس السؤال سؤالاً ذا قيمة ذاك المتعلق بقراءة ماركس لهيجل، وإذا ما كانت صحيحة أم لا، فالقراءة لا تقع في حقل الصحيح والخاطئ، لكن القراءة المكتوبة تتحول إلى نص تُمارس عليه القراءة والاستبداد.

لقد خلص سيوران بعد قراءته لنيتشه بأنه شخص ساذج. يمكن لآخر أن يثبت بأن نيتشه داهية. هل هناك قاعدة للقراءة تقي نيتشه من أحكام نقدية كتلك التي صدرت عن سيوران؟ طبعاً لا.

ولكن ماذا عن قراءة نص ليس أهلاً للقراءة، وإن اطلعتَ عليه؟

كنت أقرأ كتاب أحد الذين قادتهم المصادفة بعد سن التقاعد إلى الكتابة، وأصاب شهرة لدى القراء وكتب مقدمة للطبعة الثانية. لقد أورد في المقدمة عددا كبيرا من القراء الذين امتدحوا النص، وأورد مقتطفات من أقوالهم المادحة. لكنه لم يأت على ذكر أي رأي سلبي بحق الكتاب. ربما اعتقد بأنهم أساؤوا فهم الكتاب، فيما المادحون وحدهم أحسنوا الفهم.

حين انتهيت من القراءة، تعرفت على كتاب خالٍ من فكرة غير مألوفة، كتاب ترديد، ولغة بسيطة خالية من الروح. بهذا المعنى فأنا لم أمارس فعل القراءة، لقد اطلعت على المكتوب دون أن يمنحني المكتوب فرصة للتأمل والتأويل وتوليد الأفكار والتعرف على الجديد. ويبدو لي بأن سعادة الجمهور بالكاتب البقال كبيرة، لأنه يجد لدية كل السلع التي يعرفها. ويقول مادحاً: كتب ما كنا نريد قوله، أو عبر بما يختلج في أفهامنا.

هذا النص الذي كتب ما أراده القارئ، النص الذي لم يفاجئ القارئ، ولم يستفز عقله، ولم يمنحك حالة من التفكير، ولا سلمه مفاتيح منهجية، هو نص ليس للقراءة.

إنه يشبه تماماً النص المغلق على القراء بسبب غياب الجملة المفيدة ذات المعاني. فأن تكون هناك قراءة يجب أن يكون هناك نص لا غرار له قادر على خلق رؤية ورؤيا سواء كانت متوافقة أو متناقضة مع المقروء.

الفكرة الواضحة مهما كانت جديدة، ومهما انطوت على مفهوم لم يألفه القراء، تكتب بلغة واضحة لمن هم أهل للقراءة. فالوضوح ليس مرادفاً للساذج والمألوف، بل هو الذي يولد ليس متعة القراءة، بل ومتعة التوليد السقراطية. إن الجدة والمفاهيم الجديدة والمشكلة المكتشفة، أو التي أعيد النظر بها، كل هذا لا بد وأن يبدو غامضاً، وغموضه مرده إلى عدم مألوفيته.

لا يمكن أبداً قراءة نص إسبينوزا دون أن تضع يديك على دلالة المفاهيم الإسبينوزية، ولا يمكن أن تفهم هذه المفاهيم إلا عبر القراءة، وكل الأحكام على نص إسبينوزا إنما تتكئ على هذا.

ويجب ألاّ ننسى بأن الشكوى من الغموض قد تتولد من خيال ضعيف وثقافة محدودة وجهل بحقل المكتوب في كثير من الأحيان.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني