fbpx

احتجاج الصمت..؟

0 333

توقّف قليلاً.. اجلس.. دعنا نتحاور بعقول منفتحة على الآخر وتتقبل المختلف.

“أمة الانفعالات العابرة”، عنونة شارقة لمقالة الدكتور المتألق (حسين علي) أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس. تناول فيها بنظرة العالم بخفايا النفس الإنسانية انفجارَ الغضب العربي، وزمجرةَ الأسود العربية في فضاءِ العروبة الواسع، وهدوءَها ثم تلاشيها بعد حين كدوائر تحدثها رمية حصاة في بركة ماء.

اغتالت آلة الاحتلال الغادرة الإعلامية الفلسطينية (شيرين أبو عاقلة) – حاملة الهم الوطني الفلسطيني والعروبي – التي جعلت حياتها وقفاً لفضح الاحتلال الصهيوني وجرائمه، فسقطت ضحية من ضحايا المقاومة، وتفوّقت بالكلمة والصورة على آلاف البنادق العربية المشرعة في وجه الاحتلال الغاشم للأراضي الفلسطينية.

نعم، غضب العرب لاغتيال شيرين، وهذه الغضبة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة أيضاً. لقد سبقتها غضبتهم لحرق المسجد الأقصى (أولى القبلتين). تلك الليلة لم تنم (غولدا مائير) رئيسة وزراء كيان العدو، ولم يغمض لها جفن متسائلة: كيف سيكون الرد العربي كاسحاً، ربما سيكون بداية النهاية لكيانها المصطنع.

أشرقت الشمس، صراخ الغضبة العربية يتعالى في الإذاعات العربية ووسائل الإعلام شجباً واستنكاراً.. هدأ روعها.. شربت قهوتها.. اتجهت إلى الفراش ونامت بعد سهاد ليلتها قريرة العين مطمئنة؛ فما خافت منه ليس إلّا طلقات خلبية في الفضاء ثم الصمت، والاسترخاء، والغط في نوم هانئ عميق…

وضعضع أطفال الحجارة قوة الاحتلال وهزها هزاً عنيفاً. علا الصوت العربي يشجعهم، ولم يمدّ يد العون لهم، وسقط الطفل البريء (محمد الدرة) ضحية أمام أنظار العالم، وارتفعت أصوات التنديد بالجريمة المنكرة أياماً.. ثم ران الصمت…

قُتِلَت (شيرين أبو عاقلة). علا صوت العروبة تنديداً واستنكاراً للجريمة.. وارتفعت أصوات متناسية نضالها الوطني والإنساني.. أفرغته العقول المجمّدة منذ عشرات القرون في ثلاجة التخلف “هل هي شهيدة أم غير شهيدة؟ “؛ فحولت نضال شيرين الوطني إلى قضية ثانوية، وسقطت شيرين (رحمها الله) بفعلتهم ضحية مرتين، فقهقه المغتصبون ورفعوا كأس المغفلين الذين تناسوا تضحيات شيرين وانشغلوا بمصيرها يوم قيام الساعة جاعلين أنفسهم حراساً على باب الجنة، وقضاة عند رب العالمين.

يذكرنا الدكتور (حسين علي) في مقالته “أمة الانفعالات العابرة” – المنشورة في التجمع العربي للتنوير – بتوالي ردات الفعل العربي الهادرة ثم صمتها، وتكرار ظاهرة الانفعالات الحارة، والصمت بعدها مرات ومرات، ويردها في أحد أسبابها إلى تعلّق الأمة العربية بماضيها، وتناسي حاضرها قائلاً: “قد يكون أحد أسباب هذه الظاهرة العربية الغريبة والعجيبة هو أننا أمة تغفل عن الحاضر وتنكفئ على الماضي تجتره اجتراراً، أمة تتقدم إلى الوراء، ترى مستقبلها في ماضيها وتسعى بلهفة وشغف لبلوغ ذلك الماضي”. أمّة تقدّس الماضي، نسيت حاضرها ولم تحفل به، عاشت في ماضيها.. تعلّقت به.. تستلهمه وكأنه هو المنقذ لمآسيها التي تعيشها. لم تجابه حاضرها أو تسعى لتغييره وتجاوزه كما فعل غيرها من الدول النامية (ماليزيا…) أو المتقدمة (اليابان أو ألمانيا) بعد انهيارهما إثر الحرب الكونية الثانية.

الأمة العربيّة لم تستفد من هذه التجارب، ولم تأخذ منها عبرة، ولم تستثمر طاقاتها البشرية والطبيعية لمواجهة ما يتهددها من مخاطر فادحة، ولم تأخذ بأسباب العلوم لتستثمر تلك الطاقات كما فعل عدوها اللدود؛ إنما مازال “يحدث هذا في منطقتنا العربيّة في الوقت الذي تستثمر فيه إسرائيل حاضرها، وتخطط لمستقبلها استناداً إلى رؤية علمية سليمة”.

فتح الدكتور (حسين علي) العيون على سبب مهم من أسباب هذه الظاهرة التي تميّزت بها الأمة العربيّة؛ لكن هناك أسباباً أخرى مؤثرة لهذه الظاهرة، فقد قُيِّض لهذه الأمة أن تجد نفسها تعيش على أرض ذات موقع جغرافي يشكل صلة وصل بين أطراف عالمنا على امتداده شرقاً وغرباً، وفيها من خيرات – دفينة وغير دفينة – كثيرة ومتنوعة الغنى يسيل لها لعاب الشركات الكبرى العابرة للقارات، ويشجعها على التسابق لاستغلالها، وأنظمة هشة لا تمثل إرادة شعوبها، ولا تؤمن بطاقاتها، والتخطيط لمستقبلها، والعمل على النهوض من كبوتها؛ لتبقى هذه الأمة في فوضى، وعاجزة عن الأخذ بأسباب التقدم، والسير في ركب الحضارة، وإيصال رسالتها الحضارية والإنسانية كغيرها من الأمم. ولم تستطع أن تحوّل قضيتها الأساسية (فلسطين) التي جعلت منها شماعة تعلق عليها مشاكلها دونما حلول، أو تسعى جاهدة بكامل قوتها سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً، وإعلامياً لجعلها قضية إنسانية تقف شعوب العالم جميعها معها، ولم تضغط على الأمم المتحدة التي تسيطر عليها الدول الكبرى ومجلس الأمن، فكم من مرة استُخدِم حق الفيتو لصالح الاحتلال الصهيوني، وكم سكتت وتخاذلت الأمم المتحدة عن تنفيذ القرارات الدولية لصالح حقوق الشعب الفلسطيني. ولو فكر العرب والفلسطينيون خاصة لاتخذوا من جنوب أفريقيا قدوة للوصول إلى حلّ لمشكلتهم، وسيرون أن من جاء محتلاً يبيع عفش بيته ويرحل عائداً إلى “من حيث جاء”.

وفي ظل الواقع المتردي للأمة العربية لا ينقذها إلّا السعي لتغيير واقعها، والعمل إلى الوصول لإقامة دول مدنيّة ديموقراطية حديثة، تأخذ بأسباب العلم. دول تحترم القوانين، وتحفظ كرامة الإنسان، وتصون حقوقه، وتحقق العدالة والمساواة بين جميع المواطنين دونما تمييز بينهم لأي سبب كان.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني