الوطنية السورية بين ما هو كائن وما يجب أن يكون
هناك أكثر من تباين يصل في بعض جوانبه إلى درجة التناقض بين العاملين في الحقول المعرفية والسياسية حول مفهوم الوطنية السورية وماهيتها والبعض يتساءل هل هناك وجود للوطنية السورية وما هي طبيعتها،
وما بين الإقرار والنفي لهذه المسألة تدور نقاشات وحوارات عديدة وأساليب متعددة وعلى مختلف أشكال التواصل الاجتماعي ويتم تناول هذا المفهوم من مختلف الزوايا ومسيرة تطوره وتبيان الأسس الحديثة والمفاهيم المتجادلة معه في الإطارين التقابل والتكامل، حيث لا يرى العديد من المتحاورين توفر الحد الأدنى من الأسس الحديثة التي تشكل ركائز لبناء وطنية سورية مستشهدا بما هو قائم على ساحة الوطن،
بينما يرى آخرون أن الوطنية السورية موجودة وقائمة مستشهدا بالثورات السورية ضد الاستعمار الفرنسي وأبرزها الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش،
كما يستشهد بالنهضة الأولى التي جرت على الساحة المصرية، وشارك فيها العديد من المفكرين والكتاب أمثال الأفغاني والطنطاوي ومحمد عبدو وبعض المفكرين العرب أمثال شيلي الشميل وشكيب أرسلان وغيرهم،
وهناك من يرى أن الانقلابات العسكرية التي دشنتها الثورة المصرية في أوائل خمسينيات القرن الماضي إضافة إلى ما تلاها على الساحات السورية والعراقية واليمنية والسودان وليبيا والتي قامت تحت اسم قوى حركة التحرر الوطني والقومي العربية وأطلقوا عليها اسم النهضة الثانية، وبعضهم يعتبر النظام رمز الوطنية السورية، وآخرون يعتبرون القوى المناهضة للنظام هي الوطنية، ومن هنا نرى كيف يفهم هذا المفهوم وكيف يتم استغلاله والتعامل معه.
بعض تعريفات الوطنية
هناك تعريف يقول إن الوطنية عملية أخلاقية وواجب أخلاقي يقوم به الإنسان دفاعاً عن الدولة، وآخر يقول بأنها دفاع عن العرض والأرض، وآخر أيضاً يصفها بأنها التفاخر بالانتماء إلى أمة ما، وعلى هذه الشاكلة.
بينما نرى أن الوطنية الحقة هي التي تقوم على بنى معرفية وسياسية واقتصادية، وتربية، وأخلاقية، ومدنية، وعلمانية… الخ. وعلى أرضية التجادل والتكامل ويكون الإنسان منتجها ومنتج فيها ووسيلة تحققها على أرض الواقع كما هو غايتها، وهي جزء من بنية عالمية تتشارك معها في الأهداف ذات الطابع الإنساني، وتقوم على نفس الأسس، المشار إليها أعلاه.
إن ما جرى على الساحة السورية منذ بدء العمل السياسي أي في بداية القرن الماضي وحتى الآن من أعمال وطنية مفيدة فهي ليست أكثر من ارهاصات لتشكيل الوطنية السورية.
كما هناك مسألة لابد من الإشارة إليها وهي مثل هذه البنى تولد صغيرة ثم تنمو وتكبر في ساحة العمل الوطني ويصبح لها وجود فاعل على أرض الواقع، بينما نحن حتى الآن ومنذ تشكيل الأحزاب السياسية لم نرى فعلاً حقيقياً إلا فعل العسكر إما بشكل مباشر أو ضمن بنية حزبية لأن غاية كل القوى الوصول إلى سدة القرار السياسي، باستثناء أربع سنوات قبل الوحدة السورية – المصرية.
إننا وفي حقيقة الأمر وكما نراه على أرض الواقع لم نجن من هذه الانقلابات المسمات ثورات زوراً، إلا الخيبة والتراجع، كما لم نر من الأحزاب والقوى السياسية إلا التبعية والانقياد للعسكريين والتنافر والتخوين والتكفير، وكل منها يدعي امتلاك الحقيقة واحتكاره للوطنية وغيره خائن أو كافر على طريقة الفرقة الناجية.
إن هذه الأحزاب ليست أكثر من تكتلات تجميعية تربطها عصبية سياسية ترفع شعارات براقة، وتتصارع للوصول إلى السلطة، وزاد الطين بلة حين ارتكزت في بنيتها على الجماهير الكادحة حسب رأيها وبذلك ريّفت الفكر المعرفي والسياسي بأن ريفت بناها البشرية واتخذت موقفتً عدائياً من الطبقة البرجوازية آخذة بمقولة الصراع الطبقي.
واعتمدت النقل بدلاً من العقل سوى كان من الماضي أو من الخارج، وحتى لا نطيل كثيرا أمامنا لوحة عملية لقوى (ثورة الحرية والكرامة) وفاعليتها على الأرض وما تعانيه من صراعات بينية وتخوين لبعضها كالمعتاد وتسمي نفسها قوى وطنية ديمقراطية، وتبعيتها لهذا وذاك وبهذا التوزيع أصبحت جزءاً من الأجندات المتقاتلة على أرض الوطن.
بعد هذا العرض الموجز جداً للعمل الوطني في بلدنا سوريا نتساءل لماذا لم ننتج وطنية سورية؟
هناك شروط للإنتاج غير متوفرة لأن هذه المفاهيم كالوطنية، والحرية، والديمقراطية، والمجتمع المدني وغيرها والتي أطلقت عليها المفاهيم الإيجابية، مثلها مثل أي غرس، تحتاج إلى أرض ومناخ، بالإضافة إلى وعي لقيمتها وخبرة في طريقة غرس وكيفية إنتاجها، لأنها لا تنبت أو تنمو في أرض لا تناسبها أو مناخ لا يتوافق مع مناخها، وهي بذات الوقت جزء من بنية مفاهيمية لا نعيش بدونها لأنها تشكل معها لوحة مفاهيمية متكاملة، وليس هناك من وطنية حقيقية قابلة للحياة والتطور والارتقاء خارج إطار هذه اللوحة وبدون أرض صالحة ومناخ موات وبشر يدركون قيمتها وضرورة وجودها.
كما أن هذه المفاهيم لا تتجزأ (كما يجري الآن في لوحات مكونات القائمة تطرح المواطنة ضمن عقل طوائفي ديني عشائري كما طرحنا الاشتراكية ما قبل دولة وطنية)
هناك مسارات لابد من معرفتها وفهمها واستيعابها كما هناك طرق للانتقال والتطور وفق المنطق الجدلي الديالكتيكي الناظم لهذه العمليات.
كما أن هذه المفاهيم بمجموعها أجزاء مكونة لذات إنسانية جديدة تغذي بعضها بعضاً، وبذلك ترتبط بوعي الإنسان لذاته لنفسه كما طرحه سقراط قبل قرون بقوله للإنسان اعرف نفسك، من هنا البداية.
هذا بالإضافة إلى أن التطور والتقدم، عملية تراكمية ثم انتقال وتحول وكل ما قيل خارج هذا المسار ثبت فشله، بدءاً من مقولة لينين اقطع السلسلة من أضعف حلقاتها واختصار المرحلة البورجوازية إلى بضعة شهور من شباط إلى تشرين من عام 1917.
وها نحن نعيش النتائج!.
ما هي الطرق لإنتاج وطنية سورية قابلة للحياة والتطور؟
هذا هو السؤال الذي يجب أن يناقش باستفاضة من قبل كل العاملين بالحقل العام، بآلية معرفية وذهنية جديدة تتناسب طرداً مع ما نطرحه وما نصبو إليه، وأن نعيد تقييم أنفسنا قبل تناول الآخرين وأن نتعلم طرق النقد والحوار وأصولهما حتى نتمكن من الاستفادة منهما لتحقيق الغرض المراد هذا إذا أردنا أن نكون جزءاً من بنى التغيير والانتقال إلى مرحلة جديدة لا تشبه الماضي، مرحلة تعمل بالعقل وفي العقل تستفيد من تجارب الآخرين عبر دراسة عقلانية حيادية بعيدة عن الأحقاد والتحزب وبعيدة عن العصبية بكل أشكالها الدينية والقومية والمذهبية وغيرها، وأن نعود إلى بعدنا الإنساني الذي جافيناه خلال معظم مراحل التاريخ بذلك ننتج لا نقلد.
لا يوجد في الماضي أو الحاضر تجمع إنساني أو شعب قرر وامتلك الإرادة لا يستطيع بناء ذاته وتحقيق غاياته وأهدافه، إن حياة البشر صيرورة ومسارات ونزوع إنساني حر وابتكارات وابداعات وكل هذه الأمور صناعة إنسانية، وما علينا إلا أن ننظف لنفرش ونقلع لنغرس ونتخير الأفضل دائماً بما يحقق بعدنا الإنساني، ونعتمد العقل والعلم للوصول لما نريد.