fbpx

واقع الاقتصاد السوري وسبل معالجته

0 1٬213

تراجعت قيمة الليرة السورية في الفترة الماضية حتى وصلت إلى حدود الـ 1200 ليرة مقابل الدولار الواحد، ما يؤدي إلى زيادة الضائقة المعيشية على النسبة الأكبر من المقيمين في سوريا، إذ أن غالبيتهم يتلقون رواتب – أو مساعدات – شحيحة نظير عملهم في القطاع الحكومي أو الخاص وبالعملة المحلية. حيث تفقد هذه العائدات قيمتها مع كل تراجع في قيمة الليرة، وبالتالي تنخفض القدرة الشرائية، ويزداد الخلل القائم أصلاً بين دخل الأسرة السورية وتكاليف المعيشة، كالسكن والغذاء والاستشفاء والتعليم. لنصبح أمام واقع مأسوي يتطلب نقاشه من زاويتين، تتناول الأولى الأسباب السياسية والاقتصادية الحقيقية الكامنة خلف هذا الانهيار، بينما تسلط الثانية الضوء على سبل حل هذه الأزمة الطاحنة، وتجاوزها نحو اقتصاد سوري متين وقوي وقادر على تلبية حاجات السوريين.
فمن حيث الأسباب لا خلاف على دور النهج الإجرامي والأمني والعسكري الذي اتبعه النظام تجاه الحركة الثورية السورية منذ 2011، واستقدامه قوى الخارج لمواجهتها وإبقائه على سدة الحكم حتى الآن، في تدمير البنية التحتية، وشرخ وتشظى المجتمع السوري، وتأجيج الصراعات بين مكوناته؛ ما أدى إلى تلاشي ثقة الشارع بالدولة ومؤسساتها، وبالطبقة السياسية والاقتصادية والأمنية المسيطرة؛ وهو ما يقوض قدرة النظام الحالي على لم شمل السوريين حول أي قضية كانت، بما فيها الأزمة الاقتصادية وسبل معالجتها!!. بينما يتجاهل بعضهم تأثير توجهات النظام الاقتصادية الكارثية قبل الثورة؛ المستمرة حتى اللحظة؛، والتي كانت من أهم أسباب اندلاع الثورة السورية لأنها ساهمت في تدمير قوى الإنتاج الوطني الزراعية والصناعية، عبر سياسات تحرير السوق ورفع الدعم عنها، وإعفاء الواردات التركية تحديداً من الضرائب والرسوم الجمركية، مما قوض الإنتاج السوري لصالح المنتجات التركية والأجنبية، وأدى إلى تراجع الصادرات السورية زراعية كانت أم صناعية، وهو ما أضر أو بالأصح قضى على غالبية الصناعات الصغيرة البسيطة والتقليدية بدلاً من تشجيعها على الاندماج والتوسع والتطور، كما دفع صغار المزارعين إلى هجرة أراضيهم وقراهم نحو المراكز المدنية بحثاً عن أي عمل حتى لو كان يومياً، كي يتمكنوا من سد الحد الأدنى من احتياجاتهم اليومية. ومن ثم وعلى الرغم من تصريحات النظام التي أعقبت اندلاع الثورة، والمعبرة عن عزمه تصحيح هذه الأوضاع الاقتصادية الكارثية، من خلال دعم المسار الانتاجي الوطني وتطويره، إلا أن الواقع قد سار على نقيض ذلك، باتجاه تدمير ما تبقى من قوى إنتاجية بجهود الآلة العسكرية المحسوبة على النظام، ومن خلال عمليات النهب والسلب للمصانع والمنازل، التي نفذها عناصر النظام وحلفاؤه من قوى ومليشيات رديفة، وصولاً إلى الاتفاقات والعقود الاقتصادية المجحفة المبرمة مع حلفاء النظام وخصوصاً الروس والإيرانيين، حتى نضبت مصادر تمويل خزينة الدولة العامة.
وعليه أصبحنا أمام واقع رديء معقد وخطير يهدد حاضر سورية ومستقبلها، ولا سبيل للخروج منه دون معالجة أسبابه السياسية والاقتصادية الكاملة بصورة جذرية وشاملة. فالاقتصاد مسألة وطنية تمثل وتعني جميع السوريين داخل الوطن وخارجه، مؤيدين ومعارضين وثوريين، لذا على جمهور الثورة ونخبه معالجة القضية استناداً إلى أهداف الثورة الوطنية في الحياة الحرة الكريمة والعادلة لجميع السوريين. وهو ما يتطلب رؤية ثورية وطنية اقتصادية وسياسية لا تمت بأي صلة للترهات التي تتفوه بها قوى المعارضة المأجورة؛ التي تعكس توجهاتها الحقيقية الممثلة لمصالح أطراف إقليمية ودولية لا تضع المصلحة السورية في أي من اعتباراتها؛ كالدعوة إلى مقاطعة العملة السورية واستبدالها بالعملة التركية أو الدولار مثلاً، كونها مواقف كيدية تخدم داعميهم ولا تقدم أي حل اقتصادي وطني، بل على العكس فهي تفاقم الأزمة وتزيد صعوبة معالجتها حتى لو تنحى النظام أو أبعد عن المشهد السياسي بصورة جذرية.
إذ يجب على أي طرح ثوري وعملي أن ينطلق من تقديم ضمانات محددة وواضحة لجميع التخوفات المشروعة لأي من مكونات الشعب السوري السياسية منها والانتمائية، مثل إقرار نهج تحرري يتصدى لجميع قوى الاحتلال وعلى رأسها “الإسرائيلي”. وينظم العلاقة بين الدين والدولة عبر تحييد الأول وتحديد دوره وسلطته، انطلاقاً من اعتباره انتماء وثقافة وعادات اجتماعية غير قسرية يحق لكل إنسان الاختيار منها أو تجاوزها؛ من خلال تبني دولة علمانية تفصل بين الدين والدولة وتكفل الحق في التدين دون التدخل في حقوق الآخرين. ويطرح حل المسألة القومية وفق رؤية إنسانية وحضارية لا تمت بأي صلة للتوجهات العصبوية والشوفينية والعنصرية، خصوصاً فيما يتعلق بعلاقة سورية مع محيطها العربي ومدى حاجتها لهم وحاجتهم لها سياسياً واقتصادياً وتنموياً؛ ومدى تأثير هذه العلاقة أو سواها على أي من مكونات المجتمع السوري كالمكون الكردي، وكذلك فيما يتعلق بحقوق المكون الكردي الثقافية والقومية، وصولاً إلى حقه في تقرير مصيره في مناخ من الاستقرار والأمان والاستقلال، وبما لا ينتقص من حق أي من مكونات المجتمع السوري الأخرى الثقافية منها أم الجغرافية. فضلاً طبعاً عن استقلالية السلطات والفصل بينها وخصوصاً القضائية، وتقويض دور الأجهزة الأمنية وحصرها في حماية الوطن من أي تهديدات خارجية؛ وإخضاع جميع السجون للرقابة القضائية والحقوقية والإعلامية، والحق في تداول السلطة وإبداء الرأي وتكوين الأحزاب والجمعيات والنقابات وحرية نشاطها بما لا يتناقض مع الأسس الدستورية المتفق عليها مسبقاً.
ثم وبعد الإجماع السوري على هذه المحددات “أو غيرها” نصبح أمام مجتمع متحد في أهدافه العامة الناظمة لمستقبله الوطني الجامع، والتي تمثل حجر الزاوية الأهم في تنفيذ أي رؤية اقتصادية، فدون وحدة المجتمع وثقته بدولته ودستوره وبمنظومة الحكم يستحيل تطبيق أي رؤية اقتصادية مهما كانت توجهاتها، إذ لا يكفي توقف الآلة العسكرية لبدء عملية الإنقاذ الوطنية، بل نحتاج إلى ثقة الشارع بدولته ومؤسساته كي نتمكن من استقطاب اليد العاملة الوطنية، التي تشكل المحرك الأساسي لأي خطة اقتصادية؛ وكذلك من أجل استقطاب رؤوس الأموال والاستثمارات الوطنية والخارجية التي تخدم الرؤية الاقتصادية المعتمدة. وخصوصاً إذا كانت رؤية تنموية وإنتاجية طموحة تسعى إلى استعادة الماكنة الإنتاجية السورية وتطويرها، ما يستوعب جيش العاطلين عن العمل ويرفد خزينة الدولة ويلبي حاجات المواطنين من السلع ومن الدخل الشهري الكافي لسد احتياجات السوريين. إذ اعتقد أن الأزمة السورية الحالية السياسية والاقتصادية تتطلب طرح رؤى سياسية شاملة، ونهج اقتصادي إنتاجي وتنموي، يفرض قيم العدالة والمساواة الاقتصادية والسياسية والاجتماعي بذات الوقت.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني