fbpx

نظام “الولي الفقيه” وأبرز تجليات أزمته البنيويّة، السياسيّة والأخلاقيّة!

0 72

في ظروف استثنائية[1]، أرسى الخُميني – روح الله، وأكثر آياته العظمى شهرة، وتأثيراً على مصائر شعوب المنطقة طوال قرون – قواعد نظام الثورة الإسلامية[2]، ورسم خطوط دفاعاته، أيديولوجياً ودستورياً وعسكرياً، بما يكرس سلطة شخصية مطلقة، ويؤسس لبناء مؤسسات دولة استبداد دينية، قل نظيرها حتى في عصور الخلافة المجيدة![3].

في حيثيات الأحداث الأخيرة[4]، يمكن ملاحظة إصرار السلطة على نفس النهج، بأي ثمن، إذ تُدرك تلك السلطة الشمولية جيداً رفض قرابة 70% من النساء الإيرانيات لقوانين فرض الحجاب القسري (وقد توصلت مركز دراسات استراتيجية، تابعة للرئاسة الإيرانية، عام 2018، أن 80% من الإيرانيين، من رجال ونساء، ضد إلزامية الحجاب)، فقد تعمدت تفجير المعركة الحالية ضد النخبة المتميزة، في سياق حرب نظام ولاية الفقيه المستمرة ضد حرية ورفاه وتقدم الشعب الإيراني، وفي خطوة استباقية، تستهدف قطع الطريق على حركة المعارضة الاحتجاجية الشعبية، التي تتسع يومياً، في ظل أزمات سياسية بنيوية متعاقبة[5]، وتهدد استقرار سلطة ولي الفقيه الاستبدادية، أولاً، كما تسعى لتعزيز آليات النهب الاقتصادي التي تمارسها أجهزة الدولة الظل لأصحابها في قيادة الحرس الثوري، في ظل ما تواجهه صفقة الملف النووي من معوقات، منعت حتى اليوم توقيعها، وضخ مليارات الدولارات في أوردتها المتعطشة، وشرايين الاقتصاد الإيراني المنهك؛ ولا ضير في أن تخوض سلطة ولاية الفقيه معركتها الجديدة تحت دعاية الحشمة ومحاربة الترويج للفساد في المجتمع الإسلامي والثوري، الذي بات، كما أكد رئيسي عملاً منظماً ومخططاً، ويتم تنفيذه باستثمارات كبيرة من دول الاستكبار.

بعيداً عن الدعاية، أعتقد أن مدلولات الحجاب السياسية، لا يمكن تغطيتها بدعاية الالتزام بقوانين الشريعة الإسلامية، أو مواجهة سياسات دول الاستكبار، كأي من المظاهر التي ترتبط بحوامل أيديولوجية، تعبر سياسات سلطة النظام الإيراني تجاه الحجاب، في أحد جوانبها، عن الحرص على حماية هوية الولي الفقيه السياسية والأيدولوجية، وبالتالي، عن حرص وجهد سلطة النظام لمواجهة احتمال حصول انفجارات شعبية وسياسية، قد تهدد – في ظل حالة التدمير الممنهج التي تمارسها على الصعيد الداخلي، بحق مقومات الدولة الحديثة، وما يتعرض له النظام من ضغوط خارجية – استقرار النظام.

المؤكد أن سياسات قمع النساء هي أكثر الممارسات استبدادية لنظام رأسمالي، ريعي، مرتبط بقوانين السوق الرأسمالية العالمية، ويمارس كل أشكال العداء للديمقراطية وحقوق الإنسان، متغطياً بنظرية ولاية الفقيه، ومتجلبباً بعباءة الإسلام؛ وهي أدوار تمارسها سلطة النظام على الصعيد الإيراني الداخلي، وعلى المستوى الإقليمي، وتشكل بأهدافها وأدواتها، أخطر مواقع تقاطع المصالح والسياسات مع الولايات المتحدة، التي تحالفت تاريخياً، وما تزال، مع أعتق أنظمة الاستبداد الدينية، وأكثر الأنظمة العنصرية إجراماً؛ النظامين السعودي والإسرائيلي، في مواجهة حراك نسوي مؤثر ضد قوانين فرض الحجاب القسري، يعزز فرص انفجار شعبي واسع، طور النظام الإيراني آليات تعقب ومراقبة، تستهدف كرامة وجيوب الإيرانيين، وتسعى لإخضاعهم؛ ويوفر خطباء وأئمة صلاة الجمعة وممثلو المرشد الإيراني، علي خامنئي، الحماية للمسؤولين الذين يتورطون في مثل هذه الخروقات الحقوقية، مطالبين بضرورة اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد المرأة.

أحمد خاتمي، إمام الجمعة في طهران، سبق أن وصف النساء الإيرانيات اللواتي يرفضن الحجاب القسري باللصوص؛ وأضاف قائد قوة الشرطة، حسين أشتري، أن قواته تقوم بتوقيف ما لا يقل عن ألفي امرأة إيرانية كل يوم في مختلف المدن الإيرانية على خلفية عدم التزامهن الحجاب الإجباري، وقد وصل الاهتمام بقضايا المرأة إلى مكتب الرئاسة حيث يضع رئيسي قضية الحجاب وزي النساء في قمة أولوياته؛ وقام بإحياء استراتيجيات تنمية ثقافة العفة، التي تعود إلى عام 2004، في فترة حكومة محمود أحمدي نِجَاد الأولى.

ضمن هذا السياق، يأتي ما أعلنه محمد صالح هاشمي كلبايكاني، سكرتير ما تُسمى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن موافقة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، على قانون جديد، يتعلق بملابس النساء.

مما جاء في تصريحات كلبايكاني: “إذا ما صدرت عن شخص في الأماكن العامة، مثل المترو والباص، تصرفات غير مألوفة وغير متزنة، فالكاميرات تصور ذلك. وتتم مطابقة الصورة مع بطاقة الهوية الشخصية (تلقائياً) وسترسل غرامات إلى بيته، قد تصل، وفقا لتأكيدات المسؤول إلى حوالي مليونَي تومان، أي ما يعادل 66 دولاراً أميركياً.

إذا علمنا أن المادة 638 من القوانين ذات الصلة تنص على معاقبة كل من لا تلتزم ‏بارتداء الحجاب الإسلامي بالحبس والجلد، مسلمةً كانت أم غير مسلمة، ندرك طابع النهب في القوانين الجديدة، التي تهدف إلى تحويل الجريمة إلى مخالفة مالية، يسددها المواطن الإيراني لمؤسسات الدولة على شكل غرامة، على حساب لقمة عيشه،  فاللواتي لا يلتزمن بالحجاب الإسلامي في الأماكن العامة، تقوم الكاميرات بتصويرهن، وتغريمهن، بغض النظر عن حالة التمرد التي قد يصل إليها الشعب الإيراني في مواجهة سلطة استبدادية، هي الوجه الآخر للنظام السعودي.

من المؤكد أن أوروبا والولايات المتحدة لن تسمح بسقوط نظام الملالي أو إصلاحه، لأنه الضامن الأكثر فاعلية بما يستخدمه من نهج وأدوات (من إسرائيل والسعودية) لحالة الخراب والتفشيل التي تعم المنطقة، وهي البيئة الأمثل لاستمرار آليات النهب والسيطرة التشاركية، المحلية والإقليمية والإمبريالية، على أضخم ثروات الكرة الأرضية.

على الصعيد الإقليمي، يبدو جلياً تقاطع مصالح وسياسات النظام الإيراني مع مصالح جميع القوى الإقليمية والدولية – المتناقضة مع صيرورات بناء مقومات المشروع الديمقراطي الوطني لشعوب المنطقة – جسدتها ممارسات أجهزة الحرس الثوري تجاه حراك وفرص التغيير الديمقراطي، بدءاً من لبنان النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي (1982-1989)، وليس انتهاء بلبنان 2019، وقد تمحورت حول استخدام جميع وسائل القمع الممكنة لمنع تحول حراك الشعوب السلمي الإصلاحي إلى صيرورات تغيير ديمقراطي، وطني، تضع أسس ومقومات الدولة الديمقراطية الحديثة.

هي أهم حقائق الصراع في سوريا والإقليم، التي تعمل دعايات النظام الإيراني (المقاوم) والولايات المتحدة (الديمقراطية) على إخفائها، تحت ستارة دخان كثيف من الأكاذيب، تعمل أبواق النخب، على كلا الجانبين الإيراني والأمريكي، على ترويجها، بما يضلل الرأي العام.


[1]– ميزه، تاريخ نضالي وكاريزما شخصية، وما حصل عليه من دعم خارجي، اقتصر في الظاهر على فرنسا، وأنجزه من تحالف مع الفقهاء الأوفياء من طبقة رجال الدين، وسهولة التخلص من منافسيه – نخبة من أهم رجال الدين وأكثرهم شعبية داخل دوائر سلطته السياسية والفقهية – وتحييد معارضيه، حتى أولئك الذين قادوا وشاركوا الشعب في ثورته، مثل أبو الحسن بني صدر، أول رئيس للجمهورية الجديدة، وجبهة مجاهدي خلق، إضافة إلى سهولة استئصال أعدائه في الجيش وعناصر النظام السابق بشكل كلي – مستغلاً إلى أقصى حد حالة انهيار سريع للجيش الإيراني – خامس أقوى جيش في العالم، تنحاز قياداته بشكل مطلق لنظام الشاه، لكنه بات تحت سيطرة مباشرة من قبل جنرالات الاستخبارات الأمريكية بعد ترحيل الشاه في أواسط كانون الأول 1978، قبل أقل من شهر من وصول الخميني على متن طائرة فرنسية – دون مقاومة؛ وحالة الصمت المريب الأوروبي والأمريكي – خلف ستارة مسرحية الرهائن – وفي ظروف الحرب العراقية – الإيرانية، التي حولت ميليشيات الحرس الثوري الأولى – ضعيفة التسليح والتنظيم، وقد اقتصر سلاحها الخفيف على ما اغتنمه عناصرها من مستودعات الشرطة والجيش – إلى جيش عرمرم، تسيطر لاحقاً إحدى فيالقه النخبة – القدس – على أهم عواصم المنطقة؛ التي تشكل حجر الزاوية في استراتيجيات السيطرة الإقليمية، والهيمنة العالمية للولايات المتحدة، وفي سياق حروب أمريكية مستمرة منذ مطلع الثمانينيات لاحتلال أفغانستان والعراق، المحيط الجيوسياسي لقلب مثلث النفط الاستراتيجي العالمي في السعودية وإيران والعراق.

[2]– المضادة لصيرورة التغيير الديمقراطي، التي أطلقتها حلقات ثورة شعبية عظيمة خلال 1977-1978، وتضحيات ملايين الإيرانيين، ومثلت تتويجاً لنضال إصلاحي، ديمقراطي، تاريخي، خاضه الشعب الإيراني طوال عقود، في مواجهة سلطة نظام الشاه الديكتاتورية.

[3]– عملت الخمينية، الأيديولوجيا المؤسسة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، على استبدال نظام الملكية الدستورية، وما راكمه نضال الإيرانيين من إنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية طوال عقود، بنظام الثيوقراطية، الريعي، المطلق؛ تطبيقاً لنظرية الخميني التي تقول: إن الفقهاء الإسلاميين هم الحاملون الحقيقيون ليس للسلطة الدينية فقط، بل للسلطة السياسية أيضاً، والذين يجب أن يُطاعوا كتعبير عن الخضوع لله، والذين يُعد حكمهم مقدماً على كل القوانين الثانوية.

في خطته للحكومة الإسلامية، لم يضع الخميني أبداً تعريفاً منهجياً للدولة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي ولم يصف آلية الحكم، وأدوات التحكم، أو القيم والمبادئ الموجهة، بل ركز جل اهتمامه على التأسيس لسلطة سياسية وميليشياوية مطلقة، له، ولورثته من بعده، وللنخبة الخاصة من فقهاء رجال الدين، في أجواء حروب دنكشوتية ضد الجميع.

يتميز النظام السياسي الإيراني عن سائر النظم السياسية العالمية بمبادئ دستورية فريدة، خلقت مؤسسة الولي الفقيه أو المرشد الأعلى، وضمنت تربع زعيمها، الولي الفقيه، على قمة هرم السلطة، وتمكين ملكها، المرشد الأعلى، من صلاحيات دستورية غير محدودة.

[4]– التي ذهب ضحيتها بشكل خاص نخبة من النساء الإيرانيات، قتلاً واعتقالاً وتنكيلاً وتغريماً، وأعقبها تظاهرات شعبية ونسائية واسعة احتجاجاً على مقتل الشابة الإيرانية/الكردية جينا أميني، تحت التعذيب في مركز اعتقال شرطة الإرشاد، كما أكد والدها المكلوم السيد أمجد في مقابلة مع إيران إنترناشيونال.

[5]– إضافة إلى التناقض الرئيسي بين سلطة نظام استبدادي، ونضالات الشعب الإيراني لتحقيق إصلاحات سياسية ديمقراطية، يتجسد أبرز تناقضين داخل النظام الإيراني في الصراع بين الإصلاحيين (الذين تعرضوا إلى أشكال مختلفة من الاضطهاد السياسي، ووصلوا إلى درجة من التهميش غير مسبوقة، والمحافظين (بقيادة ولي الفقيه)، من جهة، وبين سلطة الرئاسة المحدودة وسلطات ولي الفقيه المطلقة، من جهة ثانية.

من جهتهم، يرى الإصلاحيون أن سلطات الولي تتجاوز كثيراً تلك السلطات التي كان دستور 1906 قد منحها لشاه إيران، وهم في مطالبتهم بإعادة النظر في ولاية الفقيه يسعون على الأغلب إلى مراجعة أسس النظام السياسي في إيران:

هل يقوم على أساس تفويض من الشعب الإيراني، والحكم باسمه، وبما يخدم مصالحه، ويحمي مصالح الدولة الإيرانية العليا، أم على تفويض إلهي، باسم الإمام الغائب، وبما يضمن مصالح وهيمنة طبقة الفقهاء؟.

أعتقد أن هذا التناقض سيظل محورياً، يهدد باستمرار استقرار النظام، إلى أن يحدث توازن بين صلاحيات منصب رئيس الجمهورية والولي الفقيه؛ وهو الاستعصاء الذي يجسد جوهر التناقض الرئيسي داخل النظام، الذي يذهب بعض المتابعين للشأن الإيراني إلى وصف جهازه التنفيذي بحكومة ذات رأسين؛ الولي الفقيه ورئيس الجمهورية.

الفروقات بين المؤسستين نوعية:

بينما يتولى الولي الفقيه منصبه مدى الحياة (على غرار خليفة المسلمين)، وينتخبه مجلس الخبراء، ويتمتع عملياً بسلطات مطلقة، يُنتخب رئيس الجمهورية بشروط يحددها الولي من خلال مؤسسة صيانة الدستور، وبسلطات تنفيذية مقيدة، من الشعب مباشرة، لمدة أربع سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة.

حصل أقوى اختبار للعلاقة بين الموقعين في سياق احتجاجات طلابية وشعبية غير مسبوقة، أعقبت الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز المحافظ، محمود أحمدي نجاد بولاية ثانية، يوم 12 حزيران 2009، أمام منافسه الإصلاحي مير حسين موسوي، ووسط اتهامات بالتزوير.

لقد دفعت نتائج الانتخابات، وردود الأفعال الشعبية الغاضبة، التي وصلت إلى حالة تمرد واسع، البلاد نحو أزمة داخلية هي الأكبر منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979؛ وكشفت عن انقسامات كبيرة بين النخبة الحاكمة، وانتهت، أمنياً بحملة قمع واسعة – طالت آلاف الشباب المحتج على التزوير الفاضح، لم توفر موسوي شخصيا وعائلته – وسياسياً، بحملة إعلامية، انحاز فيها المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية – وبشكل حاسم – لصالح نزاهة الانتخاب، وتثبيت نجاد في ولاية جديدة.

مرة ثانية، في تشرين الثاني 2012، تراجع البرلمان الإيراني عن استجواب أحمدي نجاد بشأن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، بعد أن تدخل خامنئي شخصياً لصالح نجاد، مؤكداً أن البرلمان يجب ألا يعمل لمصالح أعداء إيران.

مع ذلك، لم تكن لتستمر طويلاً علاقات الوئام بين المرشد والرئيس، فقد طفت على السطح خلافات حول مجموعة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين نجاد ورموز التيار المحافظ الذي يتزعمه المرشد، ونتج عن ذلك أن توصيف نجاد شخصياً وأتباعه بـ التيار المنحرف، في ظل أزمات اقتصادية، تجلت في انهيار الريال الإيراني.

من المفيد الإشارة إلى أن مجلس صيانة الدستور هو المؤسسة الأهم التي يستخدمها المرشد لتحديد شخصية الرئيس، وضبط سلوكه.

قبيل انتخابات 2013 وضبطاً للمشهد السياسي القادم، أكد أمين مجلس صيانة الدستور الإيراني أحمد جنتي على ضرورة أن يكون مرشحو الرئاسة سياسيين أتقياء ومطيعين للولي الفقيه.

وفقاً لجنتي، 95 عاماً، على الرئيس أن يدرك أنه يستمد شرعيته من القائد – الولي الفقيه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني