عوامل داخلية وخارجية مَكّنت الهيئة من اقتلاع نظام الأسد
1- عوامل داخلية:
عندما تَوّجت هيئة تحرير الشام مراجعاتها أو تحولاتها الفكرية منذ تأسيسها ومخاض ولادتها وصراعاتها التالية نهاية عام 2017، أخذت خياراً بإنشاء ذراع مدني لإدارة مناطق تخضع لسيطرتها وحدها، لم يُولِ كثير من المهتمين تلك الخطوة بالاهتمام الذي يستحق فمنهم من اعتبرها خطوة لإقامة نواة إمارة إسلامية في اجترار لتجربة د ا ع ش التي سبقتها إلى ذلك، والقليل رآها تتويج لنهج عملي وتحول منهجي عقدي في التخلي عن كل أدبيات وسلوكيات السلفية الجهادية والتي ترى مشروعها أكبر من بقعة جغرافية وأنّ مجال عملها هو العالم أجمع وتحمل رسالة هداية عالمية ومستعدة لمقارعة الخصوم سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين.
ولنجاح أيّ إدارة مدنية لابُدّ من مرجعية عسكرية واحدة تحميها وتكون بمثابة جيشها خاصة في ظل الصراعات الهائلة التي لَفّت الثورة السورية من الداخل والخارج.
ما عملت عليه الهيئة هو تفكيك أو هضم لكل الفصائل العسكرية (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) في مناطق عملها وبالتالي سعت إلى توحيد القرار العسكري وجعله مركزياً بيدها مع الحفاظ على فصائل رضيت بالواقع الجديد وانخرطت في غرفة عمليات تقودها الهيئة أطلِقَ عليها غرفة عمليات الفتح المبين.
وبذلك تمكّنت الهيئة من امتلاك القرار السياسي والعسكري والإداري لمنطقة واسعة (نسبياً) يُطلق علبها تجاوزاً منطقة إدلب وتضمّ أجزاء واسعة من محافظة إدلب وبعض أرياف حلب وحماة واللاذقية.
تَطوّر شكل الحكم المدني إلى أن وصل إلى حكومة محلية (بدون وزارات سيادية وهو أمر منطقي) تمّ تسميتها بحكومة الإنقاذ.
كانت تلك الحكومة سلطة إدارية تتبع للهيئة دون وجود رابط واضح وتستمدّ شرعيتها من مجلس الشورى العام، وإلى جانب غرفة العمليات العسكرية تم إنشاء جهاز للأمن العام لا يتبع لوزارة الداخلية بل لقيادة الهيئة و أثبت ذلك الجهاز فعالية مقبولة بتوحيد القرار الأمني و الحفاظ على السلم الاجتماعي، وتم تنظيم عمل مؤسسات المجتمع المدني والتي رفعت عن كاهل الحكومة معظم الأعباء التعليمية والصحية والخدمية والإغاثية، وازدهرت حركة التعليم وتم إنشاء كثير من الجامعات خَرّجت كفاءات مهمة من الشباب الثوري وأمنت لهم بعض من أسباب مستقبل واعد.
أنشأت الهيئة كلية عسكرية لتخريج الضباط وأخرى للشرطة، واستطاعت تلك الكليات من توفير كوادر مؤهلة قادت العمل العسكري والأمني أثناء تحرير سوريا من نظام الأسد ولم يلتفت كثيرون إلى أهمية إنشاء تلك الكليات.
ما كنّا نجهله سابقاً وأصبح معلوماً بعد التحرير أنّ عملية إعداد عسكري كانت تجري من سنتان تقريباً للكوادر البشرية مع تجهيز عسكري للأسلحة والمعدات، وما الحكومة والمؤسسات الإدارية التي كانت قائمة ماهي إلا للتدريب وامتلاك الخبرة لإدارة الدولة السورية كلها فيما إذا تكلل عسكرياً نجاح إسقاط نظام الأسد للحلول مكانه وعدم ترك فراغ أمني وعسكري وإداري.
وفي العام الذي سبق التحرير حدث أمران مُهمّان، الأول اختارته قيادة الهيئة والثاني فُرِضَ عليها فرضاً.
حيث تم إطلاق مصطلح الكيان السني في سوريا، والكثير هاجم الفكرة وتَخوّف منها ورأى فيها خروجاً عن أهداف ومسار الثورة وتكريساً لإمارة أمر واقع دينية مذهبية و تشجيع للمكونات الأخرى في تبني مشاريع مماثلة سواء كانت طائفية أو إثنية، وكانت حُجّة من أطلق الفكرة أنها أتت لشدّ عصب الحاضنة السنية للثورة في مناطق الهيئة في ظل بروز شواهد كثيرة على تكريس نظام الأسد كسلطة أمر واقع شرعية انتصرت في الحرب و بدأ العرب عملياً والأتراك نظرياً في تعويمها بالإضافة إلى اتجاه أوربي بذلك مع يقين الأغلبية أنّ إسرائيل لن تجد بديلاً في دمشق أفضل من الأسد خاصة أنه نأى بنظامه عن حروب إيران في المنطقة.
العامل الثاني غير المتوقع في ظل مركزية حكم الهيئة وسطوة جهاز الأمن العام مع رمزية دينية وشرعية تاريخية لقيادة الهيئة وأميرها، حيث خرجت مظاهرات مناوئة لحكم الهيئة استمرت لأشهر كان سقف مطالبها مرتفعا جداً، وفاجأت الهيئة العالم (وقد تكون فاجأت نفسها أيضاً) بأسلوب تعامل مقبول مع الاحتجاجات والمحتجين بحيث لم يكن العنف عنواناً لخمود تلك التظاهرات بل وتلبية جزء من مطالبها دون تقديم أيّ تنازل جوهري للمحتجين، ويبدو أنّ قرار المعركة المرتقب والمحصور في نخبة محدودة جداً من أصحاب القرار أملت على الهيئة أسلوب معقول من التعامل مع الحراك المدني وعدم إراقة دماء وإحداث شروخ اجتماعية قبل عملية التحرير.
2- العوامل الخارجية:
يبدو أنّ قيادة الهيئة كانت تراهن على هدف واحد وهو أن تبني قوة عسكرية صلبة تجعلها الوحيدة القادرة على التغيير بالقوة وإسقاط النظام عسكرياً، وهذا لن يكون مُتاحاً دون دعم أو على الأقل رضى دولي بذلك، وهي اجتهدت لإنجاز ما بإمكانها عمله مع إدراكها أنّ قوة قسد العسكرية غير مقبولة لأسباب ذاتية وموضوعية للقيام بذلك، وفصائل الجيش الوطني وقيادته السياسية أيضاً لم تتمكن من بناء نموذج قوي منافس للهيئة مع ان قيادته السياسية تملك مشروعية دولية وفصائل الجيش الوطني ليست مصنفة على قوائم الإرهاب.
ويبدو أنّ قيادة الهيئة تُدرك أنّ المصالح الدولية أكبر وأولى بكثير من التصنيفات المعتمدة وأنّ الولايات المتحدة تفاوضت مع طالبان بل انسحبت لصالحها وتركت لها أطنان من الأسلحة، كل ذلك يتم لتحقيق مصالح الولايات المتحدة ضاربة عرض الحائط بموقفها المعلن من الحركة في افغانستان بل وحروب الـ 20 عاماً التي خلت معها..
لم يكن خيار العقوبات والعزل الدبلوماسي على نظام الأسد كافياً لإسقاطه بالطبع، ولأنّ موضوع تكرار نموذج عراقي أو ليبي غير مطروح للنقاش، فقد كان إسقاط نظام الأسد عبر قوة عسكرية محلية هو الخيار الأنسب، ولولا التغيرات العميقة في العالم والإقليم لكان إبقاء الأسد تحت العقوبات خياراً حتمياً إلى أن ينضج خيار آخر ولكن من حُسن الحظ أن صلاحية نظام الأسد قد انتهت..
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا تحولت روسيا إلى عدو أول للولايات المتحدة والغرب الجماعي عموماً وكان من الضروري إلحاق الهزيمة به في كل الأماكن وعلى كافة المستويات، وكانت سوريا لؤلؤة تاج القيصر الروسي.
ومع اندلاع الحرب في غزة بات من الضروري إخراج إيران من المنطقة عبر بتر أذرعها، وبالطبع لم يفهم الأسد تلك المرحلة ولم يعرف أين يتموضع وكانت أمامه فرص كثيرة ولم يكن ذلك سراً، وكانت المطالب العربية والتي تعبر عن الموقف الدولي تطلب من الأسد أخذ موقف حازم من علاقته مع إيران وتماهيه مع محورها، ولم يتمكن من إرضاء إيران والمحور بالانخراط عملياً معهم، ويبدو أنّ تردد الأسد باتخاذ أحد الموقفين هو رغبته في اللعب على الحبال والتناقضات والمناورة وكسب الوقت للانحياز لكن الوقت والحكمة لم تسعفه، وكان غيابه عن المشهد بعد اليأس الغربي منه هو الخيار الحتمي، ويبدو أنّ تنسيقاً تركياً أمريكياً عميقا بهذا الشأن قد نضج وبالتالي كانت هيئة تحرير الشام جاهزة للانقضاض على الفريسة المتهالكة.
طبعاً ما يدعم هذا الاستنتاج هو الموقف التركي والأمريكي المتطابق من عملية ردع العدوان حيث اعتبرها الحليفان الغربيان هي معركة دفاعية للثوار السوريين بسبب انتهاكات النظام المتكررة وبسبب عدم امتثاله للحل السياسي.
كان الاحتضان الغربي والعربي والتركي للإدارة الجديدة في دمشق، يؤكد أنّ قراراً دولياً عميقاً تمّ اتخاذه بإزاحة الأسد وبالتالي طرد النفوذين الإيراني والروسي من سوريا والضفة الشرقية للمتوسط هو هدف إستراتيجي للجميع ويمكن اعتبار أنّ هيئة تحرير الشام كانت قوة أرضية حليفة لتوجه اقليمي ودولي عريض بمعنى تحالف دولي غير معلن.
يمكننا القول إنه لولادة الشرق الاوسط الجديد كان لابد من أن تكون سوريا جديدة في قلبه وهو ما حصل على أرض الواقع وبات الهلال الشيعي والنفوذ الروسي من الماضي.