شرعة الغاب تعود..
(بمناسبة اليوم العالمي للحق في معرفة الحقيقة فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ولاحترام كرامة الضحايا)
مازالت تلوح على امتداد الأفق شعلة شمس مدنفة تمتزج بلهب شعلة أولمبياد عنف الإنسان، ومنذ أوقدها هابيل الأسطورة لم تنطفئ، ويزداد أوارها مع الزمن، وكلما تحضّر الإنسان تفنن في طرق إشعالها حتى إذا ما احترقت أذيال ثيابه راح عقلاؤه يسعون جاهدين لإخمادها، والبكاء على ما خلّفت من آثار سيئة على البشرية، فيعض الناس أصابعهم، بعضهم يعضها ندماً وحسرة، وبعضهم يعضها أسفاً لعدم تحقيق أهدافهم التي حلموا بها كما رسموها.
منذ فجر تاريخ البشرية المكتوب الذي دوّنه المؤرخون والعنف سيّد، والصراع محتدم بين الجماعات والشعوب، يغذيه طمع الإنسان وطموحه للسيطرة والتفوق على الآخر وامتلاك القدرة للتحكم به لمقاصد متنوعة وغايات في نفسه.
أُطْلِق مصطلح “شريعة الغاب” و”البقاء للأقوى”، وعاشت البشرية توقد أتون العنف بأشكال متعددة على امتداد تاريخها حروباً كثيرة، وقتلاً وتدميراً، وبناء حضارة على الجماجم (هانيبعل، الإسكندر، هولاكو..)، تنمو وتزدهر.. تتفسخ وتتحلل وتنحدر إلى القاع لتقوم حضارة شابة أخرى تولّدت على أنقاضها على رأي العلامة ابن خلدون.
بعض المفكرين والفلاسفة أشاروا؛ أن الصراع بين قوى الخير وبين قوى الشر، وأن القوى الخيّرة هي التي تنتصر في النهاية؛ لكن هذه الانتصارات كانت تحمل في أحشائها جنيناً عنفياً، ينمو ويكبر منتظراً ولادة جديدة على أيدي عتاة مرضى ليدمروا خلال مدة قصيرة ما بنته الشعوب في سنوات طوال.
لو تساءلنا هل نعمت البشرية بالسلام؟ ستجيبنا مدونات التاريخ بحرفين ليس غير (لا..)، وكلما تقدّمت حضارتها كانت نتائج العنف أشدّ تدميراً، وأعظم إزهاقاً للأرواح، وتنوعت الأساليب لتحقيق الغايات.
كانت القبائل البدائية تتحارب، وبعضها يأكل لحوم البشر نيئة، ويغتصب، ويدمر كل ما وقع تحت الأيدي ليشبع طموح ذاته المسيطرة تحقيقاً لشعار “البقاء للأقوى”، إنها شريعة الغاب؛ هل تقلّصت مع مرور الزمن أم ازدادت حدّة وتناقضاً؟
إذا تجاوزنا مراحل عديدة من التاريخ، وقفزنا إلى القرن العشرين نجد من نظّر إلى الحرب، وحلل إيجابياتها بتقليل عدد السكان ضماناً ليعيش الباقون برفاهية محتجاً أن أرض كوكبنا لا تستطيع إطعام البشرية المتزايدة باضطراد، وتناسى أن بلداً واحداً كالسودان يعاني من المجاعة بفضل سوء الإدارة والهيمنة على موارده، يستطيع إطعام قارتين لو أتيح له استثمار موارده الزراعية والحيوانية بطرق علمية حديثة. ويتناسى أن ثلث أو نصف تكلفة إنتاج الأسلحة والذخائر التي تقتل البشر كفيل بتطوير إنتاج الأغذية، وتحسين مستوى المعيشة لسكان المعمورة فلا يموت فقير جوعاً، ولا تُهجَّر الملايين بسبب الحروب من بيوتها.
وفي القرن العشرين، ومع التطور الصناعي، وتناقض المصالح الدولية، والبحث عن مصادر للاستغلال وتنمية ثرواتها، أشعلت الدول الكبرى الحرب العالمية الأولى فأحرقت الطبيعة، ودمرت البنى التحتية، ونزف دم الملايين غزيراً على موائدها، فضجر الناس من شدة الآلام إلى أن جلس القادة إلى الطاولة، وخططوا لإنهاء معاناة البشرية، وشُكّلت “عصبة الأمم” أول هيئة أممية غايتها حفظ السلام والأمن الدوليين، لكن تلك التجربة لم تعمّر؛ لأنها حملت في أحشائها بذرة انحلالها وتفسخها، ورجعت شريعة الغاب ثانية بحرب عالمية ثانية بأشد قسوة من سابقتها، ونزف الدم سخياً، وتدمرت المدن والقرى في الأرياف، وتشوه وجه الأرض، وانتصر الحلفاء، وأُخمِدت النار، وانحسر لهيب الحرب، لكن الجمر طُمِر تحت الرماد.
رفعت الدول عالياً الصوت، بعد المعاناة التي عاشتها شعوبها، بالدعوة إلى السلم والأمن الدوليين لتقي البشرية والأجيال القادمة من ويلات الحرب، وتنسّم الناس نسائم الحرية، والراحة والهدوء علّ السلام والأمن يعمّان في الأيام المقبلة، وتنتفي الحروب، ويوقف العنف، ويسود الأمان في أرجاء المعمورة، واتفق المنتصرون على إنشاء “هيئة الأمم المتحدة”، وأجمعت الدول، بعد مداولات شاركت فيها عقول محبة للسلام تحت شعار “السلام والكرامة والمساواة على كوكب ينعم بالصحة”، على إصدار ميثاق الأمم المتحدة بمدينة سان فرانسيسكو ووقع عليه مندوبو حكومات الدول في السادس والعشرين من شهر حزيران/يونيه 1945 معلنين في رأس ديباجته: “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا: أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في جوّ من الحرية أفسح، وأن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً بسلام وحسن جوار، وأن نضمّ قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي..”.
وشرحت أولى مواده مقاصد هيئة الأمم المتحدة ومبادئها لحفظ السلم والأمن الدوليين، وإنماء علاقات الود بين الأمم، وتحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً.
إنّ نظرة لما ورد في هذا الميثاق وما تلاه في الشرعة الدولية، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدّوليين الخاصين بحقوق الإنسان المدنيّة والسّياسيّة، وبالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة التي أجمعت عليها الدول الأطراف في هيئة الأمم المتحدة، ماذا نجد من إجابات على تساؤل يلح عن كيفية إنشاء هذه الهيئة الدولية، ومدى التزام الدول الكبرى بما جاء في ميثاقها، وما تبعه في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان من صدق بالتعامل على ما وقعت عليه أو التزمت بتنفيذه؟
1 – آلت الدول الأطراف على نفسها إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحرب، فهل تمّ ذلك؟
2 – أكدت الدول الأطراف الإيمان بحقوق أساسية متساوية للإنسان، والأمم كبيرها وصغيرها، فهل تحقق ذلك؟
3 – وهل احترمت الدول الكبرى التزاماتها التي وقعتها بدفع الرقي الاجتماعي في جوّ من الحرية للجميع؟
4 – وهل سعت حقاً للعيش معاً بتسامح وسلام وحسن جوار لتنعم البشرية بالسلم والأمن؟
الإجابة على هذه الأسئلة الأربعة: لا..، فما السبب؟
1 – جعلت الدول الكبرى المنتصرة في الحرب قرارات مجلس الأمن أقوى نفوذاً من الجمعية العامة للأمم المتحدة.
2- احتفظت لنفسها، دون الآخرين، في مجلس الأمن بخاصتي العضوية الدائمة وحق الاعتراض/الفيتو، وهذا مصدر الشيطنة الذي فرضته على دول العالم، وقبلته على مضض منها، وهذه شروط المنتصر، شروط القوة العسكرية التي أخفت الجمر تحت الرماد.
هل حققت الأمم المتحدة غاياتها التي أعلنتها، وأُنشِئَت من أجلها، ووقعت عليها الدول الأطراف فيها؟
لنعد قليلاً إلى أيام الحرب الباردة بين قطبي العالم؛ حلف وارسو وحلف الناتو، وسباق التسلح، والهيمنة على الدول الضعيفة والمستضعفة؛ لنكرر الأسئلة: هل تحقق السلم والأمن لشعوب العالم في ظل هذا السباق؟ وهل اِحْتُرِمت حقوق الإنسان الأساسية وكرامته الإنسانية؟ وهل أخذت الدول بالتسامح فيما بينها للعيش في سلام؟ وهل ضُمّت القوى لحفظ السلم والأمن الدوليين خلال القرن العشرين، وبداية الحادي والعشرين؟ وهل وقف التصعيد والتهديد باستخدام القوة بعد انهيار حلف وارسو، وتفكيك الاتحاد السوفييتي؟
والآن، بعد سبعة وسبعين عاماً على صدور ميثاق الأمم المتحدة ماذا تجد البشرية من أمن وسلم؟ ألم يعد العالم إلى شريعة الغاب في جوّ محموم مملوء بسموم الحرب وشرورها؟ وماذا تعني المذابح التي تُسفَك فيها دماء الأبرياء، وتُنتَهَك حقوقهم الإنسانية؟ وإلى أين وصل عالمنا بحمّ العنف في الشرق الأوسط، وأفغانستان، وليبيا، وتركستان، والبوسنة، وميانمار، وأفريقيا.. وأوكرانيا الأوربية؟ وهل احْتُرِم الإنسان وحقه في الحياة والحرية شعوباً ودولاً؟ وكيف اجتاح صدام الكويت، واجتاحت أمريكا العراق وجعلته دولة هشة؟ وكيف تدخلت إيران الخمينية في دول كثيرة؟ وفي الأسابيع الأخيرة الاجتياح الروسي لأوكرانيا والتهديد باستخدام السلاح النووي، ووقوف العالم على شفا هاوية حرب عالمية ثالثة، فهل يدرك مخاطرها من يضع أصبعه على زر الأسلحة النووية الفتاكة؟ وهل يدرك عمالقة هذه الأسلحة أن بلطجياً أحمق يعتز بعضلاته قد يجرّ العالم إلى فناء محتوم؟
إن الخطأ الذي ارتكبته الدول الكبرى في إنشاء عصبة الأمم وأدى لفشلها تكرر بالخطأ الذي شرعنته لنفسها الاحتفاظ بالعضوية الدائمة، وحق الاعتراض/الفيتو في مجلس الأمن لهيئة الأمم المتحدة، وقد حان الوقت لوقفة، ولمراجعة ميثاق الأمم المتحدة واسقاط هاتين الخاصتين للدول الخمس الكبرى، وتصحيح المسار، وتساوي الدول الأطراف جميعها كبيرها وصغيرها، قويها وضعيفها في مجلس الأمن، وأن تكون قرارات الجمعية العامة نافذة على الجميع دون أي استثناء أو تفريق فيما بينها إذا ما أرادت دول العالم جمعاء تعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وكرامة الفرد، وحماية أجيال المستقبل من ويلات الحروب، وإشاعة روح التفاهم والتسامح بين الشعوب كافة للعيش بأمان وسلام.