fbpx

حسابات ورهانات الأسد الخاطئة (ما كل مرّة بتسلم الجرّة)

0 2٬402

لاشك أنّ الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص تُصنّف نظام الأسد (الأب والابن) بتصنيف الدولة المارقة وهي وفق تعريفهم الدولة الاستبدادية التي تعادي شعبها وتمتلك أسلحة دمار شامل وتسعى للمزيد منها ولها تطلعات لمد نفوذها خارج حدودها الوطنية وتتبنى أيدلوجيا عابرة للحدود وتعادي النظام الدولي السائد حالياً.

ولكن هذه الدول المارقة إن لم تُشكّل خطراً على مصالح الأمن القومي الأمريكي فلا داعي لإسقاطها بل يُمكن احتواءها أو حتى التعامل معها بملفات محددة وبأماكن وازمان محددة. حيث تعمل هذه النظم كنظام الأسد على إشعال فتيل أزمة معينة أو الاستفادة من اشتعالها وتقديم نفسه على أنه الكفيل بإطفاء أو حصر حدود تلك الأزمة بإدارتها أو وأدها أحياناً. ويُقدّم النظام نفسه كشريك يمكن الاعتماد عليه أحيانا بل قد يصبح وجوده ركناً أساسياً من النظام الأمني الإقليمي.

هذا الدور لعبه الأسد الأب في أزمات كبرى كضبط إيقاع الحرب اللبنانية وإدارة الأزمة فيها إلى حين الوصول لحل، والحرب على المنظمات الفلسطينية التي تعادي إسرائيل وحماية حدود تلك الدولة.

وقدّم الأسد الأب نفسه كوسيط بين العرب والإيرانيين لنقل الرسائل بين الطرفين وقدم نفسه كصمام أمان في المنطقة.

مارس نظام الوريث القاصر نفس الدور وكان آخر الأدوار إغراق المنطقة والعالم بالكبتاغون لإجبار الجميع على التفاوض معه وتقديم تنازلات له مقابل الإقلاع عن صناعة وتهريب المخدرات، وفَتَحَ الأبواب للتمدد الإيراني ويحاول تقديم نفسه كمن باستطاعته تقليص أو طرد هذا النفوذ لقاء مكاسب يحصل عليها.

ويبدو أنّ الأسد لم يعرف كيف يجيد اللعب على تلك الحبال كما فعل أبيه ونفض الجميع يديه منه لعجزه عن ذلك نتيجة ضعفه الشديد وعِلم الإيرانيين بما يمكن أن يَبدر منه.

راهن الأسد على عدم توفر بديل قَذِر له في سوريا وإنّ المجتمع الدولي والإقليمي سيتعامل معه بعد كل جرائمه على مبدأ الشيطان الذي تعرفه أفضل من الشيطان الذي ستتعرف عليه، خاصة أنه يستغل موقع سوريا الجيوسياسي في قلب العالم والمجاور لثلاث دول طامحة للعب أدوار بالإقليم (تركيا، إيران، إسرائيل).

وتُطلّ بلاده على شرق المتوسط كنز العالم من غاز المستقبل، أو ستكون الأرض السورية ممراً إجبارياً لأي أنابيب طاقة تأتي من شبه الجزيرة العربية لتصل إلى موانئ التصدير على البحر الأبيض المتوسط، وكان الأسد يأمل في تكرير تجاربه بالخروج من مآزق كبرى وقع بها وتخلص منها بفعل تخادمه مع الإستراتيجيات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة.

حيث تم العفو الأمريكي عنه بعد دعمه لمقاومة عراقية من تنظيم القاعدة حصراً وليس كل المقاومة العراقية للغزو الأمريكي، وتم تبرئته من دم الشهيد رفيق الحريري، وتم غضّ النظر عن سعيه لامتلاك أسلحة نووية بعد تدمير الطيران الإسرائيلي لمفاعل الكُبر.

 وشعر الأسد بأهمية كبرى لنظامه في المعادلة الأمنية الإقليمية عندما صَمّ العالم آذانه وأغمض عيونه عن الجرائم الوحشية والعلنية التي قام بارتكابها بدعم من حلفائه الإيرانيين والروس بحق الشعب السوري، وصلت لحد استعماله للسلاح الكيماوي ضد المدنيين العُزّل لمرات عديدة وموثقة كلها.

وتم بمساعدة الروس والأمريكان إعادة أجزاء واسعة من الأراضي التي خرجت عن سيطرته وبات يسيطر على ثلثي المساحة السورية، حيث كافأه الأمريكان بعد كل جرائمه بتفكيك المقاومة في الجنوب السوري وتسليمه له على طبق من دماء السوريين، وبعد 2018 بدأت بواكير الاتصالات العربية الرسمية (عبر الإمارات والأردن) للاعتراف به كأمر واقع ومُنتصر في الحرب، أما في الشمال فكان مسار أستانة مكسباً كبيراً له يتوقع في نهايته إرضاء الجانب التركي بتبديد مخاوفه الأمنية لبسط سيطرته على الشمال الغربي مدعوماً بالعصا الغليظة الروسية وأسراب الجراد الإيراني الذي يأكل الاخضر واليابس.

ولن تتأخر شرق الفرات عن العودة لحظيرة الاسد طالما أنّ له وكلاء هناك سلمهم المناطق والسلاح منذ 2013 وجاهزون لرد الوديعة عصابات الـ (PKK) السورية، وإذا تشبث الأمريكان بالأرض قليلاً فإنه يُمكن معهم إتباع السيناريو العراقي بإزعاجهم وتهديدهم والذي ينتهي بانسحابهم، خاصة أن الرئيس ترامب أعلن عن ذلك صراحةً وأفشل خطط البنتاغون حينها داعياً للتريث، لكن الرئيس بايدن الذي طبق اتفاقية ترامب مع طالبان وسحب قواته من أفغانستان وبَدّل طبيعتها في العراق من قوات مقاتلة إلى تواجد عسكري استشاري، ومع توقّع ازدياد فرص الوصول في عهده لاتفاق نووي مع إيران يُعيد سيناريو 2015، كان الأسد يعتبر أن مسألة استعادة كل الجغرافيا السورية مسألة وقت لا أكثر، وبالتالي تَحوّل الثورة السورية إلى حدث ماضي وانقضى، أو تحولها إلى معارضة خارجية كحركة مجاهدي خلق الايرانية (في أحسن الأحوال)، ويعاد الاعتراف الدولي بالأسد كأمر واقع على الأرض تمهيداً لاستمرار حكم العائلة لعقود قادمة خاصةً أن حافظ الأسد الحفيد يجري تدريبه وتلميعه لجلوسه على عرش وصل إليه بفعل ارتكابات جده ووالده مالا يتصوره عاقل من جرائم بحق سوريا والسوريين.

وقعت الواقعة وتغيرت المعادلات الدولية عندما غزت روسيا أوكرانيا، وبدأ صراع الغرب مع روسيا يُلقي بظلاله على كل أصقاع الدنيا ومنها سوريا حيث تتواجد نفس الأطراف المتحاربة هناك، وبدا أنّ الحل السوري بغياب التوافق الروسي الأمريكي أصبح حقيقة واقعة، وأنّ على الجميع انتظار نهاية حاسمة للحرب وتبلور مراكز القوى الجديدة

كان وقت الانتظار يتطلب إدارة للأزمة وبالطبع ليس حلها، ولكل طرف مصالحه في ذلك.

وقد يكون الأسد اعتقد أنه من الممكن له اللعب (كما اعتاد) على التناقضات بين حلفائه، أو بين أولئك الحلفاء وأعدائهم، وقد يشكل له ذلك طوق نجاة بعد أن عاش الأحلام السعيدة فقد أيقن الجميع أنّ بوتين وفق رؤية أشدّ المناصرين له سيخرج من أوكرانيا ليس كما دخل بل كدب روسي مكسور الأنياب ومقلوع الأظافر ومنهك القوى ومحبوساً عن العالم في قفص حديدي وقد يصل به المطاف لدب سيرك.

حاولت القيادة التركية لمصالحها الخاصة التقرب والتودد من الأسد عبر مسار رعته موسكو الكسيحة والغير قادرة على السير به الى مبتغاه.

وجرب العرب حظهم في مناكفة الأمريكان والتهديد بإعادة الابن الضال للعائلة العربية، وقد يرى بعضهم أن التودد العربي للأسد غايته تحييده مع أذرع إيران الأخرى عن ارتكاب المزيد من الأفعال المشينة بحقهم انتظاراً لما هو قادم من إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة نتيجة الصراع الدائر بين موسكو والغرب أو حسم مسألة التخادم الإيراني/الأمريكي في المنطقة.

 في هذه الأجواء تمت دعوة الاسد إلى قمة الجامعة العربية بعد إعادة مقعد سوريا لنظامه، وبدأت أهازيج النصر وطبول الانتصار تُقرع في مناطق سيطرة الأسد في سوريا وفي عموم المحور الإيراني (خاصة أنّ تلك العودة سبقها توقيع هدنة سعودية إيرانية) وحصل الأسد على صك براءة عن جرائمه في سوريا باستقباله كرئيس دولة واحتضانه بحرارة من أمير العرب في جدة، ولكن ما كان يَهمّ الأسد في الواقع هي مفاتيح خزائن المال العربي لإنقاذه من مأزقه الاقتصادي وليس القبلات والابتسامات والسجاد الأحمر الذي يُفرش له في المطارات أو حرس الشرف الذي يتم استقباله به، تبدلت الأحوال وبدا أنّ حلم الأسد هو حلم وردي من أحلام اليقظة.

فالولايات المتحدة تعتبره ذيلاً روسياً إيرانياً لابد من قطعه، وعلى ضوء حشد عسكري أمريكي متزايد في المنطقة وترتيبات تُجريها الولايات المتحدة على الأرض في الشرق السوري تتزايد الاحتمالات بقيام الولايات المتحدة بقطع الشريان الأبهر الذي يُغذي الأسد في دمشق والموصول مع القلب في طهران،

 أما الأتراك وبعد فوز الرئيس وتحالفه الحزبي بولاية جديدة لم يعودوا مكترثين بالأسد وبدؤوا يضعون الشروط التعجيزية أمام أي لقاء معه، إضافة لسوء العلاقة بين موسكو وأنقرة واقتراب الأخيرة من واشنطن أكثر على حساب البعد عن موسكو.

ابتعد العرب ايضاً عن مسار التطبيع مع الأسد بل بدؤوا بالهجوم عليه عبر إعلامهم وكُتّابهم وبعض المسؤولين الرسميين متهمين إياه بعدم التقدم ربع خطوة والنكوص بكل وعوده معهم وبالتالي ليس بعيداً إطلاق رصاصة الرحمة على ذلك المسار الميت سريرياً، ترافق ذلك مع ما شهدته سوريا من تغيرات خطيرة، فمع انتفاضة السويداء الأخيرة والتي حطّمت اشلاء شرعية يدعيها الأسد لتعويمه عربياً ودولياً، وبدء ملامح خطة أمريكية تتبلور اكثر فأكثر شرق الفرات بتحجيم الأمريكان لدور ونفوذ حلفاء الأسد من عصابة قنديل على حساب ازدياد نفوذ العرب والكرد من سكان المنطقة المعادين له ولمحور إيران في المنطقة عموماً، ومع تزايد الانهيار الروسي على المستويات كافة.

يبدو أنّ الأسد وصل لنهاية الطريق المغلق واصطدم بالحائط الذي سيحطم رأسه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني