fbpx

بين حضور الأسد قمة جدة في أيار وقمة الرياض في تشرين ثاني ماذا تغيّر؟

0 5٬827

كان يوم 10 آذار 2023 صادماً لكل العرب ممن هم على عداء مع محور إيران في المنطقة.

فمن دون أيّ مقدمات أو تسريبات أو تلميحات، خرجت أنباء من أقصى الشرق ومن خلف سور الصين العظيم تقول إنه تَمّ توقيع تفاهم بين المملكة العربية السعودية وإيران على حَلّ المشاكل العالقة بينهما بالطرق السلمية وبالحوار الثنائي، وكان السوريون أكثر المصدومين من هول المفاجأة، لأنهم شعروا أنّ دفع الفواتير المستحقة بين البلدين سيكون على حسابهم وحساب دمائهم وتضحياتهم ومستقبلهم أيضاً.

كان للمملكة دور مُهمّ في دعم الجهود للتخلص من نظام بشار الأسد، فقد قطعت علاقاتها معه باكراً وقادت عملية طرده من الجامعة العربية وقدمت عدة مبادرات باسم جامعة الدول العربية، كانت في شكلها مبادرات سياسية لحلّ الأزمة بين النظام والشعب السوري وفي جوهرها ترمي للتخلص من الأسد جملةً وتفصيلاً.

وبما أنّ للمملكة دورها وزخمها وريادتها في العالمين العربي والإسلامي فقد كان موقفها حازماً وحاسماً في عزل الأسد عربياً وإسلامياً، وإعداد أرضية أو شرعية لفعل ذلك دولياً لتعليق عضوية حكومة الأسد في الأمم المتحدة ومنظماتها.

وقدمت المملكة دعماً سياسياً وإنسانياً للمناطق التي تحررت من سلطة الأسد ودعماً عسكرياً وإعلامياً للقوى المناهضة له، وكانت المنصات الإعلامية التابعة لها في صَفّ الثورة عليه.

وكانت المملكة إقليمياً ودولياً تتصدى لمشروع ولاية الفقيه في المنطقة وتُعتبر حصناً حصيناً للمناهضين له، والداعم الأكبر لهم.

وكان لها دور عسكري في محاربة مشروع ولاية الفقيه خارج سوريا أيضاً، حيث قامت بعملية درع الجزيرة في البحرين وأرسلت قواتها إلى المملكة الصغيرة، التي حاولت فيها القوى الطائفية بدعم من الحرس الثوري الإيراني استغلال احتجاجات الشعب البحريني ومطالبته بالإصلاح أسوةً بأشقائه من الشعوب العربية التي فَجّرت الربيع العربي.

وبدخول القوات السعودية إلى المنامة تَمّ إفشال الأحلام الفارسية في السيطرة على البحرين التي تَعتبرها جُزءاً من أراضيها وتسكنها أغلبية مذهبية موالية لها.

وفي آذار 2015 قامت المملكة مع دول عربية أخرى بإطلاق عاصفة الحزم ضمن تحالف عربي يهدف لاستدراك انهيار الوضع القائم الهشّ وسيطرة ميليشيا الحوثي على العاصمة صنعاء والتمدد شرقاً وشمالاً.

أثمرت القيادة السعودية للتحالف العربي في تحجيم الحوثي ومنعه من السيطرة على ما كان يعرف باليمن الجنوبي، والوصول للحدود العمانية لتطويق الحرس الثوري لشبه جزيرة العرب من الجنوب، وتَمّ حصر ميليشيا الحوثي في جيب يمتد من صنعاء للحديدة لا يتجاوز ثلث مساحة الأراضي اليمنية.

ما أردت قوله إن كانت المملكة المشتبكة بحروب بالوكالة عسكرياً وحروب بالقوى الناعمة على كل الجبهات الأخرى مع نظام ولاية الفقيه، تُعطي أملاً بمقاومة عربية ضِدّ تَمدّد مشروع ولاية الفقيه لتحجيمه أولاً ومن ثم العمل على إضعافه ودحره، والثورة السورية هي في قلب الصراع بين المحور الإيراني والمحور العربي (إن جازت التسمية) لأنّ سوريا تُشكّل واسطة العقد في مشروع ولاية الفقيه.

سبق اتفاق بكين بين المملكة وإيران وقبل وقت قصير من حدوثه موقفان سعوديان حازمان تجاه نظام الأسد وهما:

1- تصريحات نارية وعلنية غير مسبوقة على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة من مندوب المملكة في المنظمة الدولية عبد الله المعلمي وعُرفت باللاءات السعودية العشر، (لا تصدقوهم) وصف فيها نظام الأسد بارتكاب جرائم إبادة جماعية بِحقّ الشعب السوري وأنّ عرشه في دمشق مازال صامداً لِحدّ الآن على أنقاض جماجم أبناء بلده، وبذلك لن يُخطئ أيّ مراقب في اعتبار الموقف السعودي قطيعة أبدية مع نظام الأسد ومن يدعمه.

2- إفشال المملكة لِكلّ جهود الجزائر وأغلب الأنظمة العربية في دعوة الأسد لحضور القمة العربية في الجزائر تمهيداً لعودة نظامه رسمياً لشغل مقعد سوربا فيها بما لا يدعُ مجالاً للشكّ أنّ ذلك يُعتبر خطوة أولى على طريق تعويم الأسد وإعطائه صكّ براءة عن جرائمه بحق السوريين، وقد نجحت المملكة بذلك وحرمت نظام الأسد من حضور القمة العربية في العاصمة الجزائرية بعد تأجيلها مرات عديدة لضمان حضور الأسد لها.

لم يكن السوريون يخشون من جهود بعض الأنظمة العربية لإعادة تعويم الأسد كالجهود التي بذلها العاهل الأردني أو مواقف دولة الإمارات العربية ورغبتها في ذلك التعويم ولا يخشون عدم الممانعة المصرية من ذلك الفعل، حيث كان الموقف السعودي الرافض لكل تلك المحاولات جوهرياً في إفشال تلك المساعي ومدعوماً بالتأكيد بمواقف قطرية متقدمة وحازمة ورفض ناعم ولكنه حقيقي من جانب دولة الكويت.

لذلك كانت صدمة جمهور الثورة كبيرة جداً من إعلان تفاهم بكين، ومن حق أيّ مراقب أن يتوقع ما يُمكن أن ينتج عن ذلك التفاهم في الملف السوري الذي نعلم أنّ نظام الملالي سيضعه في أولويات مطالبه، ونعلم جميعاً أهمية ملف الحوثي بالنسبة للمملكة.

كانت التوقعات تشير إلى تطبيع سعودي ولاحقاً عربي كامل مع نظام الأسد مقابل توقف جماعة الحوثي عن استهداف المملكة عسكرياً وإجراء تسوية سياسية يمنية.

وبدأ السوريون يلمسون بدء الاستدارة السعودية تجاه نظام الأسد وذلك من خلال التصريحات السعودية الرسمية أو الدبلوماسية الموازية غير الرسمية عبر إغراق منصات التواصل الاجتماعي بمنشورات ومواقف غير معهودة من الموقف من نظام الأسد، ورافق ذلك تغيير في السياسة التحريرية لمنصات الإعلام السعودية من خلال استبدال مصطلحات أساسية مثل تسمية بشار أسد بالرئيس السوري وميليشياته بالجيش السوري.. إلخ، وبدأنا نسمع سلسلة من التلميحات والتصريحات التي تقول إنّ الأسد أمر واقع والتعامل مع الأمر الواقع ليس اعترافاً بشرعيته وكما تتعامل منظمات الأمم المتحدة مع مناطق الأمر الواقع في سوريا وغيرها، ولكن كل ذلك لم يكن كافياً لإقناع السوريين إلا بحقيقة واحدة، وهي أنّ خسارة استراتيجية كبرى لحقت بقضيتهم وأنّ فكّ طوق العزلة عن نظام الأسد سَيُطوّق أعناقَهم بدلاً عنه، كان يبدو لبعضهم أنّ هناك قراراً دولياً وتوزيع أدوار لذلك التعويم.

تَمّ استقبال الأسد في موسكو كرؤساء الدول وليس بزيارات سرية يُعلن عنها بعد انتهائها، وكان في استقباله حرس شرف يسير على بساط أحمر ثُمّ يضع إكليلاً من الزهور على قبر الجندي المجهول، حدث ما يُشابه ذلك عربياً في زيارات للأسد خارج سوريا هي الأولى له بعد انطلاق الثورة السورية، حيث زار دولاً عربية كسلطنة عُمان ودولة الإمارات وتمّ استقباله بمراسم رؤساء الدول، كل ذلك المشهد كان يَتمّ تحت أضواء برتقالية أمريكية ولغة تحذيرية لينّة من عواقب السير مع الأسد.

احتفل إعلام النظام الرسمي والرديف بالانتصار الكبير وهَلّلت أبواق محور المراوغة والكبتاغون للهرولة العربية إلى دمشق بل ذهب بعضهم منهم إلى تمنّع قبول الأسد طلبات الاعتذار وطلب الصفح من جزار سوريا.

ظهر الأسد وكأنه في حالة رفاهية للعفو عن الخصوم، الخطاب التركي (بشقيه الحكومي والمعارض) والذي يخوض معركة الانتخابات يتسابقان في التغزّل بالأسد، فيما كانت الدول العربية تَستعدّ بعد زيارة وزير خارجية المملكة العربية السعودية إلى دمشق وتوجيه دعوة رسمية للأسد لحضور القمة العربية المرتقبة في جدة وإنهاء تجميد عضوية نظام القتل والإجرام في الجامعة العربية.

كان جمهور الثورة السورية يَرقُب كل ذلك المشهد بغصّة وحرقة وهو يرى تدشين موت موجة الربيع العربي الأولى والاحتفاء بالطاغية الوحيد الذي نجا منها.

كان مشهداً مأساوياً للسوريين، وصول جزارهم إلى جدة ومعانقة الأمير محمد بن سلمان له بحرارة ومنحه باسم العرب صَكّ البراءة والشرعية التي تم حجبها عنه طوال العقد الماضي.

وكان السوريون يتخوفون من تبعات المشهد التالي للصورة التي يراقبونها من خلال الشاشات، وهي إنقاذ الأسد من تهلكته الاقتصادية وخرق العقوبات الدولية عليه وتشكيل لوبي عربي ضاغط على الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي لإلغاء أو تجميد تلك العقوبات والتعامل مع الأمر الواقع الجديد.

أدرك بعض المراقبين أنّ هذا المشهد مُؤقت ويملك الأسد كلّ مقومات تعطيل أيّ اقتراب منه، فيما رأى بعضهم أنّ تشكيل العرب للجنة خماسية للتفاوض معه على مطالب عربية ما هو إلا سيناريو مُملّ لتبرير تراجع الدول العربية عن مواقفهم السابقة.

حصلت عدة لقاءات بين وزراء خارجية عرب مع وزير خارجية الأسد وبدأت تطفو على السطح خلافات حقيقية، وأخذ يظهر أنّ العملية ليست بهذه السهولة وليست إحدى مُخرجات التفاهمات السعودية/الإيرانية، وكان لا ينقطع صوت راعي البقر الأمريكي مُحذراً أنه سيرمي حبال قانون قيصر على عنق أي أحد يُفكّر بخرقه، وكان التموضع الغربي خلف اللاءات الثلاث مازال صلباً لا للتطبيع، لا لرفع العقوبات، لا لإعادة الإعمار قبل الدخول بعملية سياسية حقيقية وفق قرارات الشرعية الدولية.

بدأ يظهر عند جمهور النظام والمحور عموماً، التي كانت تنتظر دفع الجزية من خزائن المال العربي في الخليج أنّ لا طحيناً ولا حتى نخالة من كل تلك الجعجعة التي تابعوها منذ مدة قريبة وأنّ محصول البيدر لم يطابق أوهام الحقل.

لم يتجاوب الأسد مع أيّ شرط أو مطلب من المطالب العربية وكان يريد التعامل معه كمنتصر، ويبدو أنه كان مُستعداً للتجاوب فقط مع كبح بعض عمليات تهريب الكبتاغون عبر الحدود الأردنية وليس إيقافها كلياً.

رمى العاهل الأردني الذي كان له عار المراهنة على تغيير سلوك النظام بكل تحفظاته عندما اتهم الأسد بأنه عبارة عن كراكوز لا يسيطر على الأرض والقرار في ما يسمى مناطق سيطرة النظام، وتم تجميد المبادرة العربية تجاهه بعد أن ضاقوا ذرعاً به ووصل الأمر بفيصل المقداد للقول علناً من بغداد أنّ نظامه طبّق مخرجات القرار 2254 طوعاً من تلقاء نفسه حيث كتب دستوراً جديداً وأجرى انتخابات برلمانية ورئاسية وأصدر عدة مراسيم عفو عن السجناء والهاربين منه إلى دول أخرى وأنه طبّق كل تلك البنود من تلقاء نفسه ولا يرى أيّ جدوى من مطالبة بعضهم بحل سياسي في سوريا وأنّ ذلك بمثابة التدخّل بشؤون الدول الداخلية.

حدثت في أيلول انتفاضة جبل العرب الأشم، التي قصمت ظهر نظام الأسد وعَرّت كل ادعاءاته عن حمايته للأقليات وتدمير سرديته بأنّ الخارجين عليه من لون واحد تحكمهم وتتحكّم بهم أيديولوجيات دينية متطرفة تريد الإطاحة بالنظام العلماني في دمشق، وتدهورت قيمة الليرة السورية أمام الدولار إلى نصف قيمتها قبل القمة العربية فانتقلت من 7000 ليرة لكل دولار إلى 14000 ليرة، وبدأت أصوات الانتقاد والشكوى والتذمر تخرج عليه من الساحل، وبات المشهد كارثياً بالنسبة له حيث لا موارد لديه سوى موارد الكبتاغون المخصصة للرئاسة والعائلة والمقربين منه، ولم يتم دفع دولار واحد من قبل العرب له، فيما كان حليفاه الروسي والإيراني يرزحان تحت عقوبات اقتصادية هائلة وقد نفضا يديهما من أيّ مساعدة حقيقية ترفدان خزينة نظامه الخاوية والتي هي في الهاوية الآن.

مع استمرار النزيف الروسي في حرب يبدو أنّ لانهاية لها إلا بسقوط بوتين نفسه وتآكل القوة الروسية عالمياً وفي سوريا خاصةً، وفي ظل جهود غربية للنيل من الأسد قضائياً بتسطير مذكرات قبض عليه في رسالة سياسية واضحة أنّ لا مستقبل سياسياً له في سوريا ومع صدور قانون الكبتاغون الأمريكي الذي يُسمي الأسد صراحة تاجر مخدرات دولي، وانطلاق طوفان الأقصى وعمليات الحوثي الاستفزازية في البحر الأحمر، حيث تَشكّل تحالف دولي غير معلن للحرب على حماس وكان في الأفق تشكيل تحالف دولي ضد الحوثي (وقد تشكل مؤخراً) وفي ظل بروز أنّ حزب الله في لبنان سيكون عليه الدور بعد الفراغ من الحرب على غزة في دلالات واضحة عن فقدان إيران لأذرعها الأخطبوطية وخسارتها الاستراتيجية الكبرى، وسبق ذلك أحاديث واستعدادات كثيرة عن نية أمريكية في قطع محور إيران البري من نقطة البوكمال السورية، ومع الأنين الاردني العالي الصوت من استمرار عمليات تهريب الأسلحة والمخدرات عبر حدوده من قبل ميليشيات عسكرية وليس مهربي مخدرات، في ظل كل ذلك حضر الأسد إلى الرياض في القمة العربية الإسلامية المشتركة في 11/11/2023 وحيداً ومعزولاً بل منبوذاً، لم يحظ بأي لقاء مهم مع أي شخصية حضرت ولم يلتق أيضاً مع الأمير المضيف الذي استقبله بحرارة بتاريخ 19/5/2023 بل إنّ الأسد وأثناء تحضير نفسه لإلقاء خطاب قصير لمدة 5 دقائق انسحب من القاعة الرئيس التركي وولي العهد السعودي وأمير قطر ورافقهم أيضاً الرئيس الإيراني في خطوة تَحمل دلالات عميقة عن عزلة الأسد الابدية وإعدام أي مستقبل سياسي له.

كانت المقارنة بين الحدثين تدلّ على تحول هائل في الموقف من الأسد حيث قدم في زيارته الأولى في القمة العربية في جدة مزهواً بانتصاراته المزعومة وعاد من الرياض بعد القمة المشتركة وبعد 6 أشهر من القمة السابقة عاد منها ليس بخفي حنين فقط بل عاد منها مذموماً مدحوراً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني