fbpx

الكتابة بإصبع واحدة

0 333

كيف حدثت النقلة، إذاً..!؟

من نحَّى الوسطى والإبهام كي تنفرد السبابة بالكتابة.!؟

يحيل السؤال الجوهري-هنا- وهو موزع بين شطرين، متكاملين، كبيت واحد من الشعر العمودي، بل كقصيدة بيت واحد، نادرة، ودالة، ومتجددة، إلى أول عهدك بالكتابة، حين كنت تتلصص إلى قلم أبيك-التروبين- قبل أن يهديك واحداً طبقه في الأصل، بعد أن يعدك بشرائه، متى اجتزت أول امتحانات الحبر، كي تنطلق رحلتك المنضبطة مع قلم الرصاص، صنو الممحاة، قبل أن تكسر أرياش قلم أبيك، بالكتابات العشوائية، في سن ما قبل فك الحرف، وفرش سرير الحرف على بساط البياض، كي تنهض في ذاكرتك أسراب أطيار الذاكرة، على امتداد نصف قرن، بل أزيد، وهي تتحول بدورها إلى أكوام من رزم الأقلام، المختلفة، الرصاصية منها، وناشفة الحبر، أو سائلتها، تتوزع بين جيوبك، ومحافظك، وطاولاتك، وأكعاب كوى ونوافذ بيتك، وأرفف مكتبتك، حيث تصطف زجاجات المحابر، بألوانها المحددة: الأسود منها، والأزرق، والأحمر، والأخضر. كي يذكر كل واحد منها بضرب من كتاباتك: الأسود للشعر، والأزرق للمقال، وثمة حبر ملكي للتصويب، أو تتويج الفكرة أو الصورة، حسب إرادة أصابعك الثلاث: السبابة، وجارتيها الوسطى والإبهام، كل طرف منهما من جهة، يميناً ويساراً، تحيطان بها، غير بعيد عن الإصبعين الاحتياطيين: الخنصر والبنصر، ضمن إيقاعيهما، كمفردتين في سجعة، تقابل تفعيلات البحر، أو تتماهى بها، وهي تشكل كف اليد، التي لا تكف عن الكتابة، واحتضان ورق الكتب أو الكراريس.

ثمة تواريخ زمانية، مخبأة، مهادها الستينيات، ومن ثم السبعينيات، فالثمانينيات، والتسعينيات، قبل أن تنتهي بالجدار الفاصل بين ألفيتين: ثانية، منزوية، رهن الاستعراض، وثالثة، رفعت فساتين الغواية عن ساقيها، وها هي تخوض غمار رحلتها، محاولة أن تسطر لججاً مختلفة، بملامح خاصة، فيها ما هو مستعاد، وما هو مستجد، وبين كليهما قاسم مشترك من دم، وعذابات، وآلام، ونافذة من تفاؤل مؤجل، نسوف له، ونحن نودع مفصلاً عقدياً من الألفية، ونتجاوز منتصف ثانيهما، كي نكون في التالي أمام صور شخصية لملامح كل منا، الملامح التي رسمها بنفسه، وهو في معرض المساءلة “ما الذي قدمته للآخرين/ لك؟”، مادام لا رصيد يمكن الاعتداد به، سوى خيوط الجمال التي رسمها الحبر، وهي تحمل العلامة الإبهامية الفارقة، لكل منا، حتى وإن كانت سبل التزوير قد تفاقمت، بتفاقم أدوات صناعتها الرسمية، على صعيد شخصية الفرد، أو جماعته، أو مؤسسته، أو ميسمه المكاني: وطناً، أو دولة، أو بلداً، أو عاصمة، بما هو بيئي، وما هو بعد بيئي.

إصبع واحدة، لا تقسم تاريخ الكتابة الشخصي إلى نصفين: ما قبل، وما بعد، بل هي تمضي أبعد من المدونة الذاتية، إلى ما يتوغل في المدونة العامة، كي نكون أمام كتابتين: كتابة ما قبل الثورة على الأصابع الثلاث، وكتابة ما بعد هذه الثورة، وإن كانت بصمات الإصبع تبقى هي ذاتها، فلا كتابة خارج شريان الكهرباء والدم الذي يوصل بين الكاتب ومكتوبه، كيفما اتفق على شكله، ووعائه، وهو ما يجعل الإصبع بصمة الكتابة، موشورها، كما هي بوصلة الطريق، ومسبار يوميات الحياة، ودليل خريطة الطريق، بل أداة الإشارة إلى القبح والجمال، والقاتل والقتيل.

لم يكن في أفق الحسبان وفق دفق قراءاتي وكتاباتي، أنني سأكتب يوماً ما، ولكن، من دون قلم، وورق، أو أقرأ كتباً من دون ورق. لم يكن في أفق الحسبان لدي أن إصبعاً واحدة، هي السبابة، يمكنها في يوم ما أن تنجح في انقلاب ما على أترابها، بنات المضغة الواحدة، والمصافحة الواحدة، واللمسة الواحدة، والمسحة الواحدة، كي تمارس كل هذه السطوة والسلطة، بينما هي ترمقها، من دون أن ألجأ إلى تحريكها، مادامت الإصبع الواحدة قد رهنت نفسها كي تنوب رفيقات دربها، العاملات منهن في الورشة الكتابية، والعاطلات، أيضاً، على حد سواء، وهي خيانة، واستفراد، واستبداد، واستعباد، من جهة، كما أن ذلك، من جهة أخرى: فعلٌ قربانيٌ، نذرٌ، تضحيةٌ، إنابةٌ، وليس أمامي، كما تسع  الأصابع الأخرى، إلا الرضوخ، الاستكانة، الاستسلام، وإن كنا نستذكر-في الوقت نفسه- فردوس الكتابة التقليدي، فطريتها، براءتها، لطخات حبرها على الأصابع، وجيوب الأردية، وثقل التاريخ والحضارة والإبداع الذي طالما حمله، وهو الخميرة في كل منجز حياتي معاش، بما فيه هذه الثورة التي تمت.

الأمر ليس قيداً، البتة، إذ إنني أخمن العطالة كامنة في الكاتب- في هذه الحالة المشخَّصة- فهو الأميل إلى الكسل، هو من يقدم أوراقه بدلاً عن رعية كاملة، لسلطان، متفرد، كي تكون مجرد أدوات للتصفيق، تتبع إصبع الإشارة، السُبَّابي، وفي هذا منسأة لتأريخ طويل، لحبر باذخ، عماده الفِقري: الأمل والرغبة والألم، لا ضير إن كانت هنالك كتابة-على الضفة الخروفدة- كتابة يعوض عن عطرها الطبيعي عطر ذو ماركة مسجلة، من شأنه سد الفراغ الهائل في فضاء التواصل، واستعادة الحبل السري، كي يكون معادل الحبر السري،  طافحاً برائحة الحياة..!

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني