fbpx

الحياة السياسية في محافظة دير الزور

0 202

تعتبر محافظة دير الزور واحدة من محافظات سورية الأربعة عشرة، وتشغل مساحة تقدّر بأكثر من 33 ألف كم2 وعدد سكان يقترب من 1.6 مليون نسمة.[1]

هذه المحافظة النائية جغرافياً عن العاصمة دمشق لم تكن نائيةً عن الحياة السياسية في سورية، وقد شهدت المحافظة بعد استقلال البلاد عام 1946 نشاطاً سياسياً شاركت فيه نُخب المحافظة ووجوهها الاجتماعية من دينية كالشيخ محمد سعيد العرفي إلى عشائرية مثل الشيخ راغب الحمود البشير إلى اجتماعية مثل عبد الصمد الفتيح وصالح الفرحان الفياض وغيرهم.. ولعلّ أموراً عديدة لعبت دوراً في اختلاط العمل السياسي بالجانب الاجتماعي سواءً على مستوى البناء العشائري أو البناء الديني، ومن الأسباب الحقيقية لضعف الحياة السياسية عموماً وفي محافظة دير الزور خصوصاً بعد الاستقلال هو درجة التطور الاقتصادي والعلمي والثقافي المتدنية في البلاد[2]. إضافة إلى عامل القمع السياسي الذي نما باضطراد مع حكم البعث منذ عام 1963.

إنّ نسبة الأميّة التي كانت عام 1980 تبلغ 45 بالمئة من السكان كانت تلعب دوراً في إضعاف الحياة السياسية، ومع ذلك وجدت الأحزاب والحركات مواطئ أقدام لها في هذه المحافظة، وقد تمثلت هذه الحركات بحركة الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي السوري والحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث العربي إضافة إلى القوميين العرب وحزبي الشعب والكتلة الوطنية. إن معرفة النسيج الاجتماعي الذي حكم العلاقات في محافظة دير الزور يسمح بمعرفة هذه العلاقات ودور السلطات الحاكمة في التأثيرات عليها عبر مراحل مختلفة.

الأحزاب ضعيفة الأثر:

لا يمكن لمتتبع الحياة السياسية في محافظة دير الزور أن يلغي البنية العشائرية فيها وأن يلغي أثر هذه البنية على تشكل الحياة السياسية وتطورها، فمحافظة دير الزور هي محافظة تتوزع فيها قبائل عربية وتعيش حياة زراعية وتنتشر على ضفتي نهر الفرات، هذه القبائل بقيت أعرافها تسود حياة الناس المنتمين إليها في ظل واقع تعليمي ضعيفٍ ودرجة تطور اقتصادية تكاد لا تظهر أثارها على المجتمع المحلي، إضافة إلى هيمنة كبار الملاكين من شيوخ وأسر هذه القبائل، فلو قمنا بمسح ديمغرافي على ضفتي نهر الفرات يتعلق بطبيعة السكان وانتماءاتهم القبلية وغير القبلية لاكتشفنا أن القبيلة وتفرعاتها تعيش في مناطق واحدة ضمن نمط انتاج زراعي بسيط.” أما في قرى الفرات ورافديه الرئيسيين البليخ والخابور فما زال القبلي حياً وهكذا ينتمي الفلاحون على ضفتي الخابور الأدنى والفرات من الحدود السورية العراقية إلى البصيرة إلى قبيلة العكيدات.[3] وإلى الشمال الغربي من مركز المدينة تستوطن قبيلة البقارة على ضفة الفرات اليسرى

وتنطبق على جميع هؤلاء الفلاحين إلى هذا الحد أو ذاك الملاحظة التي قدمها عام 1973 قائد سابق في حزب البعث وهو من أبناء دير الزور عندما قال: “في منطقتنا خاصةً الفلاح ليس فرداً وإنما قبيلة برمتها، وإذا حصل اعتداء عليه أو وقع غبن فإن القبيلة تضع ثقلها في الميزان وتنصره وتدفع عنه الظلم والامتهان”[4](نفس المصدر السابق ص 62- 63)

من هذه البنية القبلية ذات الروابط الدموية والاجتماعية القوية لا يمكن أن تنشأ أحزاب تمثّل برامج سياسية واقتصادية تعبر عن شرائح اجتماعية أو طبقات في ظلّ هذا النسيج الاجتماعي. ولذلك لم تنتشر فعلياً الأحزاب السياسية باعتبارها ذات برامج تمس مصالح الناس الحيوية، أو تمس وعيهم الفكري بقدر أن نخب هذه العشائر وهم من وجهائها التحقوا بهذا التيار أو ذاك ما جعل لهذا التيار إمكانية أن يجد قاعدة اجتماعية له بين أبناء القبيلة ولهذا بقي العامل السياسي كعاملٍ معبّراً عن درجة تطور اقتصادي واجتماعي متخلفاً فعلياً عن قدرته على القيام بدور أمام فعل القانون الاجتماعي والعشائري العام. وقد لعبت الإجراءات الاقتصادية والسياسية لاحقاً دوراً في إضفاء نوع من الشرعية على رموز عشائرية ربطت مصالحها السياسية والاقتصادية بعجلة النظام السياسي السائد في البلاد.

حركة الإخوان المسلمين ودورها:

تشكلت حركة الإخوان المسلمين في سورية في ثلاثينيات القرن العشرين، وكان مصطفى السباعي أول مراقب عام لإخوان سورية ما بين 1945-1964.[5]

وفي دير الزور بقيت هذه الحركة محدودة الأثر في الحياة السياسية في المحافظة بسبب عوامل كثيرة لعبت دوراً في عدم انتشارها، من هذه الأسباب سيطرة العلاقات الاجتماعية العشائرية وتأثر المنطقة بالحياة السياسية في العراق بسبب علاقات القربى التي تجمع بين عشائرها وعشائر عراقية فصلت بينهم حدود أقرتها اتفاقية سايكس بيكو. وقد برز من شخصيات حركة الإخوان المسلمين في دير الزور الدكتور حسن الهويدي والذي شغل منصب المراقب العام للحركة عام 1980 ونائب المرشد العام للجماعة في عهود المرشدين السابقين ” حامد أبو النصر – الاستاذ مصطفى المشهور – المستشار محمد المأمون الهضيبي ” كانت حركة الإخوان المسلمين في دير الزور يغلب عليها الطابع الدعوي وتعرض ناشطوها لمضايقات أمنية من السلطات الحاكمة والتي تطورت عام 1980 بعد صدور القانون 49 في ذلك العام إلى مستوى التصفية السياسية والجسدية. إن حركة الإخوان المسلمين في دير الزور لم تستطع تكوين قاعدة شعبية واسعة لها بعكس بعض الحركات الصوفية التي اتسعت قاعدتها بفعل تشجيع السلطات لها.

شيوعيو دير الزور والدور النخبوي:

بقي الفكر الشيوعي فكراً نخبوياً لدى أفرادٍ محدودين في عموم البلاد وفي دير الزور خاصة، وتحديداً ما قبل مرحلة الخمسينات، وقد تشكلت في محافظة دير الزور منظمة للحزب الشيوعي السوري الذي كان يقوده آنذاك خالد بكداش. لم يمتلك الحزب قاعدة جماهيرية في محافظة دير الزور لأسباب عديدة تعرضنا لها قبل قليل وتحديداً ما يتعلق منها بتدني درجة التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وسيادة العلاقات القبلية إضافة إلى موقف الناس من ايديولوجية الحزب البعيدة عن الدين. ولذلك بقي الشيوعيون في هذه المحافظة مجرد نخبٍ معزولة سياسياً، ولم تستطع منظمة الحزب الشيوعي أن تقدّم قائداً سياسياً أو رمزاً شعبياً يستطيع أن يجذب الجمهور إليه، وبقي ثابت العزاوي وهو من أنشأ نادي ابن خلدون الثقافي عام 1956 وهو أيضاً باحث ومفكر رمزاً فكرياً وليس سياسياً للحركة الشيوعية في هذه المحافظة. إن الحديث عن منظمة سياسية قادرة على الحشد الجماهيري الطوعي والتأثير في مجريات الحياة السياسية والاقتصادية في المحافظة هو حديث لا يجد له سند واقعي في حياة محافظة دير الزور لإن الشيوعيين لم يستطيعوا تجذير عملهم وأهدافهم في حياة سكان لا يزالون يؤمنون بقضيتين هما القبيلة والفكر الاسلامي المتوارث.

حزب البعث العربي والطريق المسدود:

يعرف دارسو حزب البعث في سورية أن هذا الحزب تشكل في السابع من نيسان عام 1947 في دمشق، وكانت لجنته التنفيذية مؤلفة من ميشيل عفلق وجلال السيد وصلاح البيطار ومدحة البيطار.

وباعتبار أن جلال السيد (1913-1993)[6] من مدينة دير الزور فقد لعب دوراً هاماً في نشر فكر هذا الحزب في أوساط البرجوازية الصغيرة من معلمين وفنيين وأطباء.. الخ. الحزب لم تتسع قاعدته هو الآخر في محافظة دير الزور قبل انقلاب عام 1963 ورغم اتحاده مع الحزب العربي الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني بقي فكر هذا الحزب فكراً انقلابياً. لم يكن لأعضاء الحزب أي تأثير اقتصادي أو اجتماعي في فترة الخمسينات، ورغم أن شعاره الأساسي ” أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ” لم يستطع هذا الحزب أن ينقل السكان في محافظة دير الزور من الحالة القبلية إلى الحالة المدنية لإنه لم يهتم كثيراً بعد وصوله إلى السلطة بمسألة التحولات الجذرية في البنى الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة. وعلى اعتبار أن الحزب لم يخدم الطبقات الاجتماعية ” العمال والفلاحين وصغار الكسبة ” التي يدعي تمثيلها بقي غريباً رغم أن منتسبيه بعد عام 1970 بلغوا عشرات آلاف المنتسبين في المحافظة.

القوميون السوريون:

أسس هذا الحزب اللبناني أنطون سعادة في 16/11/1932 في ظل الاحتلال البريطاني والفرنسي لسورية الطبيعية ( لبنان – سورية – فلسطين – الأردن ) بعد اقتسامها بموجب “اتفاقية سايكس بيكو عام 1916”[7] هذا الحزب انتشر في سورية في أوساط الأقليات الطائفية والدينية أكثر من انتشاره في النسيج الاجتماعي الكبير للمجتمع الذي هو المجتمع السني. وفي دير الزور تلقفه عدد محدود من أفراد بعض السر في المدينة وتحديداً من أسرة ” عياش ” والهجر. لكن الحزب لم يستطع الانتشار في مناطق المحافظة والأمر يعود إلى دعوته إلى أمة سورية وهذا يتعارض مع وعي السكان المحليين الذين ينحدرون من قبائل عربية مسلمة.

التيار القومي العربي:

ويعتبر هذا التيار هو الأوسع قاعدة في سورية في مرحلة الخمسينات إذ شهدت مصر آنذاك بعد تسنم عبد الناصر سدّة الحكم موجة فكر قومي عربي، كانت الشروط الموضوعية للعالم العربي تسمح بهذا، فقد كان الجزائريون يخوضون حرب استقلال لهم عن فرنسا، وكانت دول عربية عديدة تشهد استقلالها عن قوى الاستعمار الاوربي، هذا التيار كان تياراً شعبياً عاماً لا تحكمه منظومة فكرية سياسية ذات جذور اقتصادية تمس حياة الناس، وكانت الحركة القومية العربية في دير الزور تنتشر نتيجة هذا المدّ القومي العام وقد مثلتها حركات مختلفة مثل حركة القوميين العرب التي قادها المحامي ناجي الضللي. وكذلك ظهر الناصريون والوحدويون وغيرهم. لكن صعود البعث إلى السلطة بانقلاب عام 1963 ساهم في ابعاد هذا التيار عن دوره السياسي وتحديداً بعد فشل انقلاب جاسم علوان في 19 تموز عام 1963. وباعتبار أن البعث هو أيضاً يحمل فكراً قومياً وحدوياً فقد ساهم هذا الأمر في تراجع باقي حركات الفكر القومي في سورية.

وقفة تأمل:

بقي أن نستنتج أن الحياة السياسية بمعناها العصري الذي توفره لها الأحزاب والتيارات السياسية لم يكن من الممكن أن يبنى في سورية عموماً وفي دير الزور خصوصاً، وهذا الأمر يتعلق بدرجة تطور سياسية ذات طبيعة وطنية تلغي حدود وأثر العوامل ما قبل الوطنية كالعشائرية والطائفية والدينية. فالاستبداد السياسي الذي وسم نظام حكم حافظ الأسد منذ عام 1970 شكل فعلياً عامل عرقلة حقيقية لتطور البنى الاجتماعية السورية واحتياجاتها السياسية، فالنظام الذي قفز إلى الحكم بطريقة غير شرعية، لم يكن بإمكانه الاستمرار في الحكم بدون إحياء وتعميق كل القيم والأدوات ما قبل الوطنية التي استخدمها كركيزة لحكمه إلى حين الانفجار الذي شهدته البلاد عام 2011 والذي كشف عن تقدم الانتفاضة الشعبية على المعارضة السياسية التي ذابت فعالياتها في ظل استبداد سياسي استمر خمسين عاماً.

المراجع


[1]– المجموعة الإحصائية السورية عام 2012.

[2]– الثقافة والتنمية في سورية والبلدان المخلّفة. د. رزق الله هيلان، إصدار وزارة الثقافة السورية.

[3]– فلاحو سورية – أبناء وجهائهم الريفية الأقل شأناً سياسياً (حنا بطاطو ترجمة عبدالله الفاضل ورائد النقشبندي) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

[4]– المصدر السابق نفسه.

[5]– الجزيرة نت 29/3/2011 جماعة الإخوان المسلمين.

[6]– مجلة السُنّة رواية جلال السيد عن نشأة الحزب.

[7]– www.alqawmi.info

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني