fbpx

الثنائية في التجديف في الوحل

0 100

للروائي جميل سلوم شقير – إصدار دار علاء الدين، دمشق، 2004م

التجديف في الوحل رواية أدب وحياة أو تأريخ أدبي لمرحلة، وزمانين ومكانين، زمن الثورة السورية الكبرى، والحاضر المعاصر، بين سوريا جبل العرب ووادي السرحان. رواية حياة لأناس عاشوا الحياة بحلوها ومرها، بانتصاراتها وانهياراتها، بجديتها ونزقها، بفرحها وحزنها، بثنائيات متضادة منفعلة ومتساوقة. التجديف في مياه صاخبة وأمواج تعلو ليس سهلاً، فكيف إذا في الوحل والطمي والطين. أبطالها يجدفون في معاناة الثورة وانتصاراتها واخفاقاتها، ويجدفون في انهيارات وهزائم الحاضر التي غرق بها الوطن، يتذكرون أيام الثورة ومقارعة الاحتلال الفرنسي وتحقيق الانتصارات وما حلّ بالثورة من اخفاق أخيراً، واختيارهم المنفى حيث الرمال والطوز، وضنك العيش وصعوبة الحياة في صحراء لا ترحم، حتى الضب يكاد يهجرها. الكبار عاشوها كاملة، وقلّة وعوها عن آبائهم؛ لكنهم جميعاً يعيشون انهيارات الحاضر وهزائمه المتلاحقة.

لقد ربط الكاتب بين الزمانين والمكانين ربطاً لا يشعرك كيف يتنقّل بينهما، كفراشة من زهرة الماضي اليانعة إلى زهرة الحاضر الذاوية بمفاعيلها، شخوص الرواية تتحرك عبر ثنائية الأضداد، وفي وحدتها، تتناسق وتتباعد وتتوحّد معاً من خلال علاقاتهم مع الآخرين، وصراعهم الداخلي وإحساسهم بالمرارة عندما ينفردون لأنفسهم، كالثنائية بين عساف وكلّ من موليه، وزهيرة، وفرنجية، وراضي، ومحمود. بين موليه وزهيرة. بين هواش وفرنجية، بين مشايخ وزليخة، بين مشايخ ورحيل، بين فرنجية وسالم، بين سمير وكلّ من أميمة، وآسية، بين آسية وأميمة. بين الثورة كماضٍ والحاضر، بين الانتصارات والهزائم، بين المحبة والإيثار والاستئثار والفساد، بين الوطن وفرنسا الاحتلال، بين فرنسا الجمال وفرنسا الاحتلال.

ذكريات أيام الثورة ، القائد العام والشهبندر وهزاع وعباس وعساف وأبو الهواش والهواش وصايل المر ومشايخ وزليخة وزهيرة وزهر الهيل وفرنجية ورحيل وسالم في الأزرق ووادي السرحان، ومعاناتهم من قلة الأغذية، وقسوة الطبيعة، وذكرياتهم عن معركة المزرعة والمسيفرة والكفر وتل الخروف… وكيف ضحّى الرجال بأغلى ما عندهم، ودور النسوة كزليخة وعزيمتها المشهورة، ومشايخ ورقصتها تشجيعاً للثوار، وطمي الماضي كمحمود وسلمان العامري وغيرهم ممن تعامل مع الفرنسيين، وانتصارات الثوار وخذلانهم أحياناً، تلك الأحداث التي يسوقها الكاتب عفواً واستطراداً عبر القص من خلال أحداث الحاضر المر بوحله الذي يجدف فيه الناس بصعوبة ومرارة أقسى من معاناة أيام الثورة ومنفى وادي السرحان.

تبدأ الرواية بالوقوف أمام مؤسسة الزيت، وعودة الهواش منكسراً إلى زوجه، ودخول فرنجية عليهما، ليقص حكاية عساف وأمها زهيرة وحملها سفاحاً من موليه الضابط الفرنسي، ثم عودة مطاوع الهواش من المدرسة وإعلانه عن سالم “هذا المدرس ما بيفهم واقف ضد التنظيم” (ص24)، ولمّا اعترض والده قال: “نحنا اليوم الكل بالكل، وما منسمح لأي صوت ثاني يعلى فوق صوتنا” (ص24)، فيقول الهواش لفرنجية: “بتتذكري قائد الثورة بوادي السرحان..؟ والله ما كان يهدر هيك..؟” (ص25)، لتزداد شكوى أمّه زهر الهيل في اليوم الثاني لتنظيف الكرم “شرّف يا مطاوع هذا الذي تركه لنا رفاقك.. نظّفوا الكرم من العنب يا عيون أمك..” (ص64)، ومتأففة “حاكمك لاكمك.. لمين منشتكي ياربي..؟”(ص63)، ويكمل الهواش متبرماً مما وصلوا إليه: “المصيبة أن كل مسؤول يخاطب الناس بلهجة العسكري وكأن كل الناس عساكر تحت تصرفه، حتى كرهنا أنفسنا وكرهنا حياتنا” (ص134)، ويظلمون الناس، ويسرقون مصاغهم، فهذا ضابط كما يبدو “سمح لهم بالعودة بعد أن خسرت فرنجية إسوارة الذهب والليرة العثمانية التي كانت تتدلّى من عنقها معلقة بسلسلة من فضة منذ طفولتها” (ص83)، ليضحك الهواش معلّقاً وساخراً “مين قدك يا شيخة، حظك بالسماء، ذهباتك راح يساهموا في شراء جزيرة في عرض البحر، ويمكن يساهموا في إتمام مشروع النفق تحت المانش..” (ص84)، وعن الفساد الذي استشرى حيث يَعدُ مطاوع خطيبته زمرّد “أن يؤمّن لها الأسئلة محلولة، مؤكداً لها قدرته على تنفيذ أكبر من تلك بكثير…” (ص124)، وعندما تنزعج في الامتحان، يقول: “المسألة بسيطة ليش مكبرينها. – بسيطة…؟ وستكون علامتك ستين من ستين. – وكيف يا تُرى… ؟” (ص125)، وعندما تقف في وجهه بعد موت عدنان “ليش ونحنا ندفع ثمن هزيمتين؟ لا كلها حياتنا صارت هزائم، كنا نتحمّلهم يدوسوا فوق ظهورنا من أجل الحصول على خمس وعشرين علامة زيادة، كنا نتحمّل ونسكت…” (ص129)، عندها “رأى في زمرّد عدواً وليس خطيبة محببة” (ص129) ولمّا صارحته سائلة “أنت ابن الهواش، والهواش فقير كما تعلم، وأنت من أين لك كل هذا؟ مزرعة في الصبورة، بيت في حي المالكي، أسهم في شركة لصناعة العلكة،….، وأكيد عندك أرصدة لم تبح لنا بها” (ص130) يرد عليها “الحياة يا زمرّد شطارة”، و”حلال على الشاطر، مو هيك يا حبيبتي” (ص130).

ولم تسلم الآثار منهم، فهم ينبشونها، ويخربونها، كما حصل في خربة الدفّان، فقبر عساف “قد نُسف من جذوره..” (ص119)، وكم كان الجواب حاداً عندما سأل رحيل: “ليش خربتوا الآثار يا لبلاب؟ – وأنت شو علاقتك بهذا الموضوع يا رحيل” (ص241) ولقد “ازداد هذا الحزن أكثر عندما علم بأن تهديم ( الغسانية) كان بهدف إبعاد محور الطريق الرئيسي عن بيت جوزيف شهاب ابن أحد عملاء فرنسا” (ص242) إذ تسلّق أبناؤهم فأصبحوا في مراكز السلطة كالوزير فواز بن سلمان العامري الذي” أنقذ الجنرال أندريه وجيشه من كمين كان قد نصبه له الثوار بين قرية (المشقوق ومدينة صلخد) (ص150) وتتعجب زهر الهيل “يا سبحان الله.. فوّاز ابن المرابع سلمان صار وزير” (151) أو من الشباب الصغار الذين غُرر بهم حديثاً كمطاوع الهواش؛ إذ تتساءل أمّه “لماذا يا ربي صار مطاوع سلوقي وسوقي على هذا الشكل..؟” (ص135).

وسياسة القمع التي تمارسها السلطة على الناس، والتي “اعتبرها الهواش بوادر تعاسة تنذر بقرب النهاية، لكنه رحّب بتلك النهاية فقد أمّل منها قرب الخلاص من كل الصراعات المريرة التي خاضها… “من أجل لقمة العيش (ص149) من أجل البقاء ضد فرنسا… ضد ضعاف النفوس… ضد السلطة الغاشمة وعيونها المبثوثين بين طين الجدار وحجارتها…” (ص150)، ويستنكر الهواش انتشار النفاق الاجتماعي ومسايرة ذوي النفوذ، والمجاملات المسيطرة على اللغة في مواقف العزاء، لكنّه “لم يكن يتوقع أن تصل تلك المجاملات إلى حدّ التملّق والمزايدة أحياناً” (ص152) فيستفزه كذب وتزوير أحد الخطباء للحقائق في مأتم والد الوزير الواشي بالثوار بقوله “لقد كان المرحوم أبو فواز سلمان مناضلاً ضد الاحتلال الفرنسي، وقد رافق المغفور له قائد الثورة سلطان إلى المنفى، إلى وادي السرحان، حيث مكث هناك مدة ثلاثة عشر عاماً” (ص161) ليغادر ناسياً عباءته فيذكره أحدهم ساخراً “خذها يا عمي ورجاع إلى وادي السرحان أحسن لك” (ص161). ولمّا سألته فرنجية “مات الوزير؟ (ص164) فيجيبها “لا.. لا.. ولِكْ يا ريت.. إلّي مات أبوه سلمان” (ص164). ويفلقه اليوم الطوعي، ورؤيته أنّه مجرد مظاهر لقاء، لتسأله “.. انت ليش مكبرها” (ص170) فيأتي ردّه “وكأنّه يبتلع لبّ الحنظل: يا فرنجية في سؤال واحد مزعلني وفالقني وهوِّ: ليش مستحمرين الناس” (ص170).

عبر ضنك الأحداث وصعوبتها، تبرز ذكريات الثورة ومنفى وادي السرحان لتخفف وطء قسوة الحياة على النفوس، ذكريات معركة المزرعة وخروج البيارق، والانتصار الذي سطّره التاريخ (ص195)، ومهاجمة الحامية الفرنسية في صلخد (ص196)، والانقضاض المفاجئ للثوار على الفرنسيين وسحقهم في معركة الكفر (ص 198-199) وذكريات موليه عن أسره، وسجنه في المغارة ، وتذكره معركة المسيفرة وتساؤله “لماذا روّعناهم” (ص213) بعدما رأى طيبة عساف الذي أسره، ولم يثأر منه، وإنّما سلّمه إلى الانجليز شريطة ألاّ يعود إلى القتال في سوريا، مذكراً إياه: “يا موليه ما فعلته صار تحت رجولة العفو” (ص48)، ورسالة التعزية به “آلمني كثيراً مقتل عساف الشهم، وأحزنني أكثر أن يموت مغدوراً بيد حاسد من مرافقيه” (ص222).

إنّ للمرأة دوراً كبيراً وبارزاً أثناء الثورة والمنفى، وبعدهما، فما دفعته زهيرة المغتصبة من خسارة شرفها باعتداء موليه عليها وحملها سفاحاً، وما فعلته كل من زليخة زوجة عباس حمّال البيرق في ليلة معركة المزرعة عندما دفعت الثوار للمعركة “المهزوم ما لو أكل وحرام عليكم تذوقوا الزاد إذا ما رجعتوا وذبحتوا ميشو الأبرص” (ص191)، ومشايخ زوجة هزاع ورقصها لتلهب الحماسة في نفوس الثوار، والتي وصفها سلطان “مشايخ ما بتقل عن واحد من الثوار.. مشايخ هذه أفضل من كمشة مشايخ نايمين بالجبل تحت أقدام الفرنساوي” (ص55)، وحافظت على الوفاء لزوجها بعد موته في المنفى، وتبنّت رحيل بن سلامة الزعل بعد موت أمه، ومعاناة فرنجية، وعنوستها، ووحدتها بعد موت عساف وزهيرة لتضطر بقبول الزواج من متعب الشيخ الكبير، ليصبح ابنه سالم ابنها تعويضاً عن أمومة مفقودة، معترفة “يا هواش ليتني كنت أمّاً لسالم” (ص98)، فرنجية التي بشرتها أمها “آه.. مضروب على رسنك يا بنتي طوال العمر” (ص103)، و”لن يكون لك زوج ولا أولاد وستسددين فواتير الثورة وحدك…” (ص 96)، والتي بقيت وفية لهواش، محبة له حتى آخر العمر، ولم تبح بزواجها السري منه في المحكمة الشرعية في الكرك (ص167-168). ومرافقة النسوة لأزواجهن مع الأطفال إلى وادي السرحان، وموت الكثيرات منهن في المنفى. وكسر الواقع الطبقي على يد نعايم بنت الشيخ التي فرطت بنفسها لتحقق رغبة حبها للمرابع سلمان العامري، وليأتي فواز الوزير فيما بعد “ثمرة ذلك اللقاء الأول” (ص153)، وفيما بعد تظهر المواقف المتناقضة لزمرّد وأمها صفاء من مطاوع ، إذ تسقط صفاء في الرذيلة مع خطيب ابنتها، وتكشف زمرّد نذالة مطاوع ودناءته عندما يعرض مساعدتها، وترتيب عملية الغش في الامتحان فتقول له “لكن هذا ظلم وتخريب للضمائر ونهب لحقوق الطلاب المجتهدين” (ص127)، وتذكره بمصدر ثروته المستحدثة، وتبريراته للفساد مبدية رفضها “مطاوع أنا ما عدت قادرة إتحملك، أنت تفاخر بأقذر حماقة ارتكبت في تاريخكم” (ص131) بصيغة الجمع قاصدة أفراد التنظيم.

لا بدّ من التعريج على سمير المحاصر وصديقته أميمة “المشرق المتخشب” (ص245) وآسية التونسية الحبيبة الحاضرة ، وخواء سمير وتوزّعه بين الوطن وفرنسا، بين الحنين للأهل والوطن وغول الاغتراب ، بين الصمود والانكسار، سمير المتطلع لتحقيق ذاته يجدف في الوحل، يذكّر أسية أنّه مرتبط بالزعل، أبي كانت “ولادته يوم الرحيل” (ص 246) وأنا “أنجبني في الذكرى الثانية للرحيل” (ص246) مذكّراً بالجولان، ومزاوجته بين الفقر والإنجاب “كنيتنا أولاد الزعل” (ص246)، ليسقط أخيراً منهاراً في نهر الراين وهو يسمع صوت آسية تناديه “سمير أنا جاي لعندك” (ص249) وتسمعه يصرّخ “آسيّا.. يّا.. يّا.. يّا”. وتأتي نهايته ونهاية الرواية معاً نهاية مأساوية “ثم انقلب على قفاه، وقد رحّب به الراين قرباناً جاءه من بلاد بعيدة” (ص249). فهل قدرُ المنبوذين والمغلوبين – في هذا الواقع المرّ – اموتُ المفجع بعيداً عن الأهل والديار؟!.

رواية (التجديف في الوحل) تحوّل فيها الواقع إلى متخيل جميل يستمد عناصره من التاريخ، وحياة الناس العاديين الذين يصنعون مسيرة الحياة والمجتمع بحق، وغمزت في أثنائها لتفاؤل بمستقبل قادم يرى فيه الهواش “بوادر تعاسة تنذر بقرب النهاية…” (ص150) وأملاً بخلاص منتظر “فقد أمّل منها قرب الخلاص من كل الصراعات المريرة التي خاضها…” ( ص150)، وهذه هي رسالة الأدب الحقيقية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني