fbpx

التراب المميت

0 216

ومشينا، تتنازعنا مشاعر مختلطة من توجس خفي وتصميم بالخلاص بلا ذراعين، كان الوقت آنذاك ليلاً دامساً، ظلمةً غسلت بسوادها كل الأشياء، بينما أطبق البرد القارس على أجسادنا وأنفاسنا، كنّا نمشي في نسق غير منتظم، وقع أقدامنا على الأرض يؤنس وحشتنا، وكنت أقول لنفسي التي امتلأت رهبة من ظلمةٍ تمتد كقدرٍ لا حدود قريبة لنهايته: أترى نعبر الخندق ونمضي بسلام؟

توقف دليل نسقنا عن المشي وقال بصوت منخفض: دقائق ونصل إلى الساتر الترابي والخندق، أوصيكم ألا تضيئوا كاشفاً أو تشعلوا لفافة تبغٍ فيكتشفنا حرّاس الحدود، واحذروا أن يبكي طفلٌ فيسمع الحراس بكاءه.

كان الدليل يتحدث بصوته الجاف ما جعل جواد دمي ينفر خائفاً ويصهلُ في روحي، لكنّ أذنيّ تلتقطان أزيز رصاص بعيد وارتجاج أرض، فأعود إلى نفسي وأقول لها: العبور نجاة, وأنا لن أخاف من رصاص الجنود.

وعدنا نمشي بصمت قطعَهُ فجأة صراخُ طفلٍ رضيع، الصراخ سكينٌ ذبحت صمت المكان, فأحسسنا بشيء من وجلٍ مفاجئ.. نبرَ أحد أفراد النسق مخاطباً أسرة الرضيع: ألقموه المنوِّم ولا تفسدوا علينا العبور إلى أرض الأمان.

في هذه اللحظة بدأت السماء تندِفُ ريش ثلجها علينا… وأمُّ الرضيع تلقم رضيعها الحليب من رضَّاعة ملأتها به قبل حين.

ومضينا نحو الساتر… كانت أقدامنا تسقط على الأرض بحذرٍ وتوجس، ومن حينٍ إلى آخر يتناهى في المكان صوت تكسر شجيرات صغيرة يابسة كانت أفرعُها تخز أسفل سيقاننا، وهذا ما ذكرني برحلة ربيعية قمت بها مع رفاقي في حارتنا… كنت آنذاك في ربيعي الرابع عشر… وأذكر أننا امتطينا دراجاتنا الهوائية ومضينا نسابق الوقت والريح نريد واحة قريبة في باديتنا الواسعة… كان كل واحد منا يحمل زوادة طعامه وشرابه وكانت الأرض تمتد أمامنا مزهوة بردائها الأخضر والسماء تخاتلنا بلعبة الصحو والغيم.

تئز رصاصة فوق رؤوسنا… نُصابُ بوجل مفاجئ… فيقول دليلنا: لا تخافوا فهذه الرصاصة ليست من أجلكم، تابعوا سيركم بقيت دقائق قليلة ونصل إلى الساتر…

لكن السماء في رحلة فتوتنا عقدت عُرس مطرها فوقنا ففاضت الأرض وتشكلت غدرانها كانت قطرات المطر تصنع أجراسها فوق الغدران الصغيرة.. أما نحن فقد لفنا المطر بمعطفه وغسل كل شيء فينا… كنا نغني بصوت واحد.. مطرٌ مطرْ… نحبك يا مطر…يا غاسل الأرض والوجع والقمر.. مطرٌ مطر..

لكنّ بكاء الرضيع شقّ بدن الظلمة من جديد فقال دليلنا: طفلك يا امرأة سيفسد علينا العبور… لقد أوصيتكم أن تحتاطوا لهذه واللحظات من بكاء أطفالكم.

ردّت المرأة: ابني بردان… البرد قاسٍ ويبكيه.

ردّ رجل من النسق بعصبية خفيفة: أسكتيه بأية طريقة يا أخت… فالسائر لا يبعد أكثر من خمسين متراً.

هذه الجملة التي لفظها الرجل أيقظت دبيب خوفٍ في دمي كان نائماً إلى حين…

الدبيب وزَّع البرد ودسّ أصابع الثلج في خلاياي المترقبة للعبور.

افترشنا الأرض أسفل الساتر… كان الثلج يزداد هطولاً… وأطرافنا بدأت تمتص برودته فنحس برعشات تعتصرأبداننا… الرضيع لم يعد يبكي..

فقد أخفته أمه في برقعها… كان الصمت سيد المكان… وكال واحد فينا يسترسل مع جياد أفكاره الخائفة… لحظات ويئز الرصاص… وأصوات الجند تخترق عتمة الليل محدثة رعباً صامتاً… خلف الساتر هدرت آلية نجهل ماهي… توقف الرصاص عن الأزيز… صوت من خلف الخندق يصرخ /عودوا فنحن نراكم/.

لم يتحرك أحدٌ وحمدنا الله أن الرضيع لم يبك ولم يصرخ… لكنّ أضواء كشّافات أضاءت المكان وجمع من الحرس يقف على مسافة منا يحمل بنادقه… قال أحد الحراس عودوا… لا عبور.

نهضَ الجمع وعادوا إلى النقطة الأولى… كان الثلج يجلدُ الجميع… وحين دنونا من مكان انطلاقتنا شقّ السماء صراخ امرأة تقول وهي باكية لقد مات ولدي الرضيع.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني