ويهلّ الفجر
يا للمصادفة… صرخنا وفتحنا ذراعينا، وضممنا بعضنا. هنا افترقنا عائدين من الاغتراب، سنوات طوتنا وطويناها، كنّا شباباً، وكانت الدنيا ربيعاً. آهٍ.. كم تغيّر الزمن وتغيّرنا. هنا في مركز الحدود – ونحن في خريف العمر – قدرنا نلتقي ثانية يا أبا عامر مودعين حشاشة أكبادنا، في جوّ يكفهرّ ويزبد منذراً بخطر…، والبرد يتسعّر قارصاً الأجساد فترتجف الفرائص، وعلامات التشاؤم ترتسم على الوجوه حيث يتلطّى الجميع تحسباً لما قد يقع.
تهبّ ريح عاتية، تحمل في تيّارها فزعاً من مجهول…، تعصف قوية، وتذرو التراب فيتطاير غباراً في الفضاء، وتجوب أقاصي البلاد عابرة السهول الخضر إلى البوادي والصحاري، تعبث بها، وتغيّر معالمها، وتشكّل خارطة جديدة لكثبان مترامية. عاصفة تجتاح الأماكن، وتنشر الخوف فتبحث الكائنات عن ملاذ آمن يقيها من شرورها. تكتسح كل ما أمامها، تدمّر الأشجار، وتقتلع النباتات، فتهرب الحيوانات، وتختبئ الطيور، ويحتار الناس إلى أين يذهبون، وكيف يواجهون إعصارها. تتزلزل أركان البيوت، وينتشر السكان في الأرجاء باحثين عن ملجأ يأويهم. بعضهم يهرب دون وجهة معروفة، همّهم أن يفلتوا من قبضة العاصفة لا يدرون العاقبة التي تنتظرهم، يرمون بأجسادهم إلى حضن المجهول لعله أرحم، مجازفين بأرواحهم أملاً بالنجاة. وقلة تقبع في قصور مشيّدة تنعم بالراحة وكأن شيئاً لم يحدث، بيوت محمية ومكيّفة، يستمتعون…، لايشعرون بجوع، ولايحسون بألم. يقضون الساعات أمام شاشات تلفازاتهم يتابعون المسلسلات الساخرة، ويضحكون ملء أشداقهم، وإذا ما انتقلوا إلى قناة تبثّ الأخبار لا تهزهم حميّة الرجال، ولا تطرف لهم عيون لمرأى الأنقاض والفجائع، ولا الأشلاء المبعثرة في الأنحاء. يصمّون آذانهم عن صرخات الأطفال والنساء كأنها أخبار عابرة، أو أفلام رسوم متحركة متناسين ما شاهدوه. يتندرون ويروون قصص الجدات للمتعة والتسلية وهم سكارى بنشوة غياب العقل وموت الضمير…
المركز يغص بالمسافرين، والأكتاف تتزاحم أمام نوافذ المغادرين، والآمال تنتعش بوضع الأختام على جوازات السفر. انتحينا جانباً لنستطيع التحدث، سألته: مَن تودّع؟
– زوجة ابني وولديها. وأنت؟
– ابنتي ملتحقة بزوجها. انهكتنا العاصفة يا صديقي.
– إنها تجتاح المنطقة بكاملها.
– وإلى متى ستستمر؟
– يبدو أنّها لن تنتهي قريباً، إنّها أفعى عملاقة جائعة.
– وتلتفّ حول جذوع المدن، تعصرها لتبتلعها كلها.
– عين الحقيقة ما تقول.
– ومجالس البلدات، ألم يأخذوا حيطة اتقاء شرها؟
– بلى، بنوا أبراجاً، وأسسوا شركات، وفتحوا أرصدة…
– والبلاد؟
– لها ربّ يحميها
– والكرامة؟
– دُفِنَت دونما عزاء
– وهل تستمر هذه الحال؟
– لا، لا شيء يدوم…
– هناك أمل؟
– نعم، أكاد أسمع احتكاك عجلات القطار على السكة قادماً…
– ومتفائل؟
– وإنّي لأحسّ بدبيب أقدام… وهتافات… كلما أرهفتُ السمع…