fbpx

ملامح الخطّة التركية للشمال السوري

0 2٬104

المقدمات الخاطئة ستقود لنتائج خاطئة، هذه بديهية يؤمن بها الجميع.

لذلك لم يتفاجأ أحد بما جرى في الشمال السوري في الأسابيع الأخيرة ولم يكن الصدام العسكري المباشر بين فصائل من الجيش الوطني أو بينها وبين مجموعة يعتبرها بعضهم إرهابية ويتفق الغالبية على أنها عدوّة للثورة السورية وتحالف مجموعات معها ضد مجموعات تتشارك معها في الجيش الوطني، كان ذلك يعبّر عن فشل الفصائل المنضوية تحت عباءة واحدة بالتوافق أو الاتفاق أو الاندماج أو الدمج بالقوة.. مع أن النبع الخارجي الذي يضخ لها الماء واحد والنبع الداخلي الذي تتغذى منه واحد وهو سبب الخلاف وساحته.

لا يختلف أحد على أن الدعم التركي المباشر هو الاساسي (إن لم يكن الوحيد)، المتوفر الآن ولا خلاف عليه وبالتالي لا يوجد تعدد مرجعيات يقود إلى انتهاج أجندات مختلفة أو متخالفة كما خبر الثوار السوريين ذلك عبر تعدد الجهات الداعمة واختلاف توجهاتها أو أجنداتها.

ولا وجود لخلافات أيديولوجية أو فكرية أو سياسية بينها ونعلم جميعاً أن تلك الفصائل تضم المخلصين والشرفاء (وهم الأغلبية الساحقة) في تكويناتها وهم لا يتقاضون من المال ما يسدّ رمقهم وهم المرابطون على الجبهات مع العدو.

إنما تكمن كل المشكلة في انحراف بعض قيادات الصف الأول في تلك الفصائل، وعدم توفر الإرادة الحقيقية من الجهة الداعمة بتصحيح المسار، بل إن عدم تدخلها قد يفسر أنه رضى عن الحالة السائدة وعدم استعدادها للإصغاء للاستياء الشعبي والتذمّر من تلك الحالة بل وتحميل الحاضنة الشعبية للجهة الداعمة المسؤولية الأكبر في الحالة المأساوية لما وصلت إليه مؤسسات الثورة (العسكرية والمدنية) من سوء وانحراف عن الأهداف التي أنشئت من أجلها، وانعكاس ذلك بالتأكيد على المدنيين.

الخطة التركية المتوقعة للحل

بغض النظر عما تداولته وسائل الإعلام المحلية من أنباء عن اجتماع قادة من الجيش الوطني مع مسؤولين أتراك (من الجيش والاستخبارات)، وصدور النقاط الـ 15 عن الاجتماع الذي عقد في عينتاب، ومع أن أحداً من الفصائل أو الجانب التركي لم ينشر أي شيء عبر معرّفاته الرسمية أو يدلي بتصريح ما، يؤكد حدوث الاجتماع وما صدر عنه أو ينفيه.

إلا أنه يمكن توقع الخطوات التركية المقبلة (أو بعض منها)، وفق قراءة الأوضاع الداخلية (السورية والتركية معاً) والمحيط الإقليمي والدولي.

مما لا شك فيه أن ضغط عامل الوقت على المسؤولين الأتراك سيكون كبيراً بل ومحفّزاً على الإسراع بابتكار حلول أو إخراج الحلول الموضوعة في الأدراج بعد إجراء تعديلات عليها، ولن تكون المعالجة أمنية أو عسكرية فقط، إنما الجزء الأهم سيكون سياسياً وإدارياً ويتولاه سياسيون أتراك وخبرات تكنوقراط.

إن موعد الانتخابات التركية في حزيران 2023 هو ما يدعو الطرف التركي المهيمن على القرار من إنجاز الإصلاحات الممكنة وبالسرعة القصوى.

لاشك أن الإخوة الأتراك تعاملوا خلال الفترة حتى عام 2020 في المناطق الثلاث (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام) التي يقومون بحمايتها من اعتبارها مناطق أمنية ممكن أن تشهد تحولات بخرائط السيطرة حيث لم يكن من السهل الوقوف بوجه التسونامي الروسي الذي يريد (ولا يخفي ذلك) من استعادة كل الجغرافيا السورية إلى حظيرة النظام، ولن يكون مصير المناطق الثلاث مع إدلب أفضل حالاً أو مستثناة من مصير الجنوب السوري والغوطة الشرقية وأرياف حماة وحمص وحلب وإدلب التي ابتلعها إلى أن توقف المدّ الروسي عند خطوط القتال الحالية.

كانت تفاهمات موسكو بين القيصر والسلطان في آذار 2020 هي ما ثبتت خطوط القتال الحالية معتبرة أن المناطق الثلاث هي مناطق وقف إطلاق نار، وإدلب أو (ما تبقى منها) هي مناطق خفض تصعيد بسبب وجود هيئة تحرير الشام والسبب الأهم هو وجود قوّة تركية عسكرية حقيقية مع إرادة سياسية لحمايتها من أي اجتياح بري.

مع ثبات تلك التفاهمات والاتفاق الضمني على أن تكون مناطق الشمال السوري شبه آمنة، تبقى ملاذاً للهاربين من بطش النظام السوري وحلفائه، وتمنع تدفق المزيد من اللاجئين إلى الداخل التركي وتصيب الكردور الكردي في مقتل، ريثما يتم حسم وضعها مع التسوية الشاملة للملف السوري برمّته.

بدأ اهتمام تركي وأوربي وأممي ببناء بيئة لاستقرار المدنيين، حيث بدأنا نلمس في الشمال السوري الاهتمام ببناء أساسيات البنى التحتية من طرق ورصفها أو تعبيدها، ومدّ شبكة كهرباء تغطي كل المنطقة وتقسيم المناطق بحيث تتبع إدارياً لولايات تركية تسهيلاً لإدارتها، وتفعيل نواة الشرطة المدنية والقضاء، وبعض المؤسسات الخدمية كالسجل العقاري والمدني ودائرة المواصلات لتسجيل المركبات، إضافة لبدء التعامل النقدي بالليرة التركية وافتتاح فروع لمؤسسات تركية رسمية كالبريد التركي (PTT) وافتتاح كليات تتبع لجامعات تركية رسمية.

ولا أريد أن أذكر كل الإنجازات أو المنجزات، ما يهمني هو أن الاهتمام كان منصبّاً على البيئة المدنية ودون الالتفات لسواها.

إلا أن الإدارة التركية للمنطقة أغفلت الجانب المهم أو الأهم المتعلق بالشأن العسكري ليس من ناحية تنظيمه فقط بل من غض النظر على تغوّله على البيئة المدنية.

حيث لم يعد خافياً فشل عملية الهيكلة العسكرية تحت مسمى الجيش الوطني، الذي شكّل عباءة واهية أو هلامية لحالة فصائلية مقيتة داخله حتى لم يتمكن من أداء وظيفة ورقة التوت التي تستر العورات الفصائلية، وتحولت مناطق الشمال إلى شبه إقطاعات فصائلية حازت على السلطة المطلقة والتي ستؤدي حتماً إلى المفسدة المطلقة.

مع جمود الجبهات واقتصارها على المناوشات وإرسال الرسائل، وللحقيقة فإن أغلب تلك المناوشات تأتي للرد على انتهاكات قوات النظام وميليشيات ما تسمى بـ “قوات بسورية الديمقراطية”، تحوّل الجهد العسكري الفصائلي إلى الساحة المدنية بمحاولة السيطرة على أكبر قدر من المغانم عبر البوابات الحدودية ومعابر التهريب أو عبر إنشاء شركات تجارية شبه احتكارية للسيطرة على الأنشطة الاقتصادية مع عدم مراعاة أي قانون، إذ تملك الفصائل أمنيات وسجون، ولها إصبع بالقضاء يحميها من أي مساءلة، بل أي نقد حتى.

وليست حادثة مقتل الناشط محمد أبو غنوم بتلك الطريقة البشعة والوحشية إلا غيض من فيض من سلسلة ارتكابات وانتهاكات لا حصر لها.

وكما كانت مؤسسة الجيش الوطني صورية، كانت وزارة الدفاع التابعة للحكومة المؤقتة كذلك. ولم يتم منحها أية صلاحيات حقيقية بإدارة الملف المدني، فكان من الطبيعي أن تعجز عن ذلك بإدارة الملف العسكري عبر وزارة الدفاع التي تتبع لها.

لذلك، وحرصاً من الحكومة التركية على تحقيق هدف استراتيجي وملحّ ومعلن، بإعادة أكثر من مليون لاجئ سوري من أراضيها إلى الشمال قبيل انتخابات الصيف المقبل والظهور أمام الناخب التركي أنها بدأت جدياً بمعالجة قضية اللجوء السوري، ويلزمها مدة أخرى بسدّة السلطة لكي تتمكن من تنفيذ برامج إعادتهم إلى بلدهم، ويسير ذلك بالتوازي مع انفتاح تركي معلن على النظام السوري.

من المتوقع أن تقوم الحكومة التركية برسم صورة واعدة أو مشرقة تغري اللاجئ السوري بالعودة، ويتضمن ذلك الاهتمام بالجانب الأمني والخدمي والاقتصادي والمعيشي (خاصة مع وجود أنباء عن استعداد دول خليجية لتمويل ذلك).

ومن أهم الاصلاحات المتوقع إجراؤها كف يد الفصائل عن المجتمع والموارد والارتكابات الأخرى والتفرغ لعملهم الرئيسي بحماية المنطقة على خطوط القتال وفي الثكنات العسكرية.

إن تسليم إدارة المعابر الخارجية والداخلية (المنوي افتتاحها) لسلطات الحكومة المؤقتة وتجميعها بصندوق يكون أشبه بميزانية لها للإنفاق منها على العسكريين والمدنيين، هو من أهم الخطوات الإصلاحية، مع تغيير هيكلي ببنية الشرطة المدنية والعسكرية كجهة وحيدة للحفاظ على الأمن وإبعاد الشخصيات الفصائلية وغير النزيهة منها.

إن تجفيف موارد الفصائل ونزع تدخلها بالحياة المدنية وخاصة إغلاق أمنياتها وسجونها، هو الأمر الكفيل بإخضاعها للسلطة المدنية التي تتولى عبر وزارة الدفاع صرف مستحقاتها المالية والإشراف على أعمالها كاملة، هو ما سينهي حالة الفصائلية خلال مدة قصيرة ويتم بناء قوات محترفة ومدربة بتعداد يقرره المعنيون، هي الخطة المتوقعة التركية والهادئة لطي صفحة الفصائل.

وأظن أن هذا ما تريده أنقرة وما تتمناه حاضنة الثورة كلها، وكما يدور في الكواليس الشعبية فإن قرارات تركية حازمة وضعت قيد التنفيذ وليس للمناقشة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني