fbpx

مكافأة…

0 48

يجلس منفرداً، شيخ هدّمته الأيام، ينكمش في ثياب ترّبها الزّمن. في عينيه سؤال وحيرة مبهمة تنطق بها تجاعيد عطشى ترتسم على صفحة خدّيه ووجنتيه، ويتفرّس بالجالسين في القاعة. اكفهرّ وجهه عندما دخل رجلان وجلسا غير آبهين بنظراته التي تتابعهما وهما يتهامسان…

انتصب الحضور وقوفاً حين سمعوا محكمة.. دخل القاضي ومساعده واستويا في مكانيهما المعتاد، وبإشارة من يد القاضي جلس الجميع، وشرع يطلب المتقاضين تباعاً حتى جاء دور الشيخ.. تقدّم من المنصة ببطء يجرجر رجليه، ويتوكأ على عصاه، ووقف بمحاذاة الشابين. سأله القاضي: لِمَ تدّعي على ولديك؟

– أريد استرجاع ما بعته لهما

– لماذا؟

– لقد تآمرا عليّ، وعداني بالعناية بي، ونقدي مصاريف ما تبقى لي من عمر، وكذبا… وأحنثا بالوعود وبالقسم، وأنا كما ترى رجل عجوز لا أقوى على العمل لكسب العيش

– كيف؟

– أقنعا أمّهما المرحومة زوجتي أن أهبهما أملاكي كلها، البيت والأرض، كي لا يتكبدا مصاريف حصر الإرث. كنت أخاف هذه اللحظة التي أعيشها الآن. استغلت عاطفة الأبوة حتى أقنعتني. أقسما يميناً على العناية بي حتى يأخذ البارئ وديعته. شاورت بعض المعارف، قيل لي يمكنك استرجاع الهبة إذا ما بدر منهما تقصير ما…

بدأنا إجراءات المعاملة في دائرة العقار والمالية، لكني فوجئت بهما يقولان: إن رسوم الهبة أكبر من رسوم البيع وأكدا لي ذلك، وأن لا فرق بين البيع والهبة… وأتم المعاملةَ شابٌ في المكتب العقاري، وبعد سنة ونصف تقريباً توفيت زوجتي التي كانت تعتني بي ونعيش معاً مستورين، ونفد ما كنت أحرص على توفيره لمثل هذا الحال، وساءت أموري كثيراً، طالبتهما… فلم يرأفا بي، ونسياني، ونسيا قسمهما، ولولا رحمة الله لجلست على الرصيف أمدّ يدي للناس، وقد أحسن شاب – وفقه الربّ – بتقديم الدعوى إلى محكمتكم الموقرة، وكل ما أرجوه أن تشملني عدالتكم بإنصافي منهما، وإحقاق الحق…

– هل دفعا لك الثمن كاملاً؟

– لا، لم يدفعا قرشاً واحداً، حتى تكاليف المعاملة دفعتها أمّهما.

– ألديك أبناء غيرهما؟

– لي ابنة تعيش مع زوجها في العاصمة

– وهبتها أيضاً مثلهما؟

– لا، لأن أمّها وعدت أن تعطيها كل ما تملك من ذهب تعويضاً عن حصتها

– وعندما نفد ما لديك، طالبتهما…؟

– نعم، وكان الجواب لا يستطيعان، ولا يمكنهما العناية بي، وأنهما يفكران بإيداعي في دار العجزة

– وأنتما ما تقولان؟

– أجاب الابن الأكبر: لقد دفعنا له ثمن البيت والأرض نقداً، ولم نقصّر في خدمته والعناية به، وكيف له أن يدّعي الحاجة وقد خبّأ ذهب والدتنا وهي في مرضها الأخير

– يبدو عليه العوز؟

– لو كان في عوز لماذا يبحث عن زوجة وهو في هذه السن المتقدمة؟

– انظرا إليه، ألا تريان حالته…؟

– إنه يتمسكن ليظهر حاجته

– ولماذا يتمسكن؟

– هذا ما علّماه ليسترجع ما باعنا

– ومَن الذي علّمه؟

– أختي وزوجها الطامعين بحصة مما اشتريناه منه

– وما تقول ياشيخ؟

– يكذبان، ابنتي لم تزرني، ولم أرها منذ توفيت أمّها، ولو كانت تطمع في شيء لاعترضت على البيع في حينه

– وبمَ تردان؟

– قال الأصغر: وكيف تعترض وقد أعطتها أمّنا من الذهب ما يفوق حصتها

– ردّ الشيخ: لم تعطها شيئاً، لقد أعطته لكما لتشتريا شققاً تسكنان فيها، وما تبقّى صرفته على علاجها قبل أن ترتحل إلى بارئها

– وما تقولان؟

– قال الأكبر: يؤسفني ما سمعته، وأريد التأكيد لمحكمتكم الموقرة أن ما يقوله غير صحيح البتّة

– ألديكم شهود؟

– نعم

– أعطوا الأسماء والعناوين للكاتب. رفعت الجلسة.

استثارت المحاكمة الحضور بموضوعها الملفت كظاهرة عقوق أبناء لوالد عجوز قررت أن أتابعها لأعرف النهاية

وعندما عُقدت المحاكمة ثانية سُئلوا إذا كان لديهم أقوال أخرى.. أجابوا بالنفي. ونودي على الشاهد الأول. وبعد التعريف.. وأداء القسم…

– هل تعرف هؤلاء؟

– نعم، لقد أتممت لهم معاملة البيع

– أنت أشرت عليهما بالبيع؟

– لا، مهمتي أن أفعل ما يقال لي، ويطلب مني

– وكم بلغ الثمن ؟

– لست أدري، قال الشابان إن الثمن متفق عليه

– وهل دفعاه وتسلّمه الشيخ منهما أمامك؟

– لا، لم يحصل ذلك بحضوري، أنا أتممت إجراءات المعاملة لدى المالية ودائرة العقار فقط

– ومَن دفع تكاليف المعاملة؟

– الشيخ

– لديك ما تزيد…؟

– لا، سيدي

 نودي على الشاهد الثاني. وبعد التعريف.. والقسم…

– هل تعرفهم؟

– نعم، فأنا والد زوجة الابن الأكبر، وتربطني بهم صلة النسب والمصاهرة

– وماذا تعرف عن بيع الشيخ بيتاً وأرضاً لولديه؟

– عزفت المرحومة زوجته على أوتار عاطفته ليهبهما أملاكه، وعندما استشارني قلت له: لا تفعل، أنت الآن سيد البيت، وبعد الهبة ستستجدي ولديك، لكنه استمر بسبب إلحاح زوجته. وبعد أن أنهى ما عزم عليه أخبرني أنه لم يهبهما، قال: بعتهما، سألته: هل احتفظت بحق الانتفاع؟ أجاب لا، فخطأته. سألني وما حق الانتفاع؟ فشرحت له، وقلت عسى أن لا تندم على ما فعلت، وها هو قد وقع فيما كان يخاف منه

– هل دفعا له الثمن؟

– لا، ومن أين يدفعان، فهما لا يملكان شروى نقير. أمّهما هي من أسكنهما في بيتيهما مما باعت من ذهب كان لديها

– أتزيد على أقوالك؟

– لا، سيدي

سُئلوا: ألديكم اعتراض على أقوال الشهود، فلم يعترضوا، واعتبرت المحكمة الشهادة بحضورهم صريحة وصادقة، وبعد جلسات وتقديم مذكرات ودفوع رُفعت الجلسة للتدقيق.

أثناء الخروج… تقدّم محامٍ شاب من الشيخ قائلاً: الحق بيعلو يا عمّ، وحقك بيّن فعد لبيتك مطمئناً.

صدر الحكم ببطلان البيع بعلة المخالفة لشروط عقد البيع وأهمها عدم تعيين الثمن صريحاً، وعدم دفعه من المشتري وقبضه من البائع.. صفّق الحضور…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني