لا بد من بعث روح الثورة.. وإلا سيصبح مستقبل سورية بيد الشبيحة
تقترب الذكرى الثالثة عشرة لانطلاقة الثورة السورية، وكانت درعا بحق مهد الثورة وحمص عاصمتها، وقدم معظم السوريين تضحيات بأشكال وأحجام مختلفة، وبعضهم أساء للثورة وحاول استغلالها لمصالحه الخاصة ومنهم أفراد وأحزاب وجماعات دينية وقومية وطائفية مدنية ومسلحة.
واكتسب السوريون خبرة واسعة في التمييز بين ما هو جيد وما هو سيء خلال مسيرة الثورة، وتبلور شعور مشروع لدى السوريين بأن مصيرنا أصبح بيد القوى الخارجية وسلطات الأمر الواقع، واعتقد بعضهم بأن الشعب السوري لم يعد له قرار بعد أن باع النظام الوطن للمحتلين والميليشيات الطائفية العابرة للدول، وبعد أن سيطر الإرهاب في إدلب وبعد أن خضعت المناطق الشمالية المحررة من النظام، لسيطرة من هم لا يختلفون كثيراً عن عصابة الأسد. أما شرقي الفرات فحدث ولا حرج، حيث أصبحت المحافظات الشرقية الثلاثة مستعمرة لحزب العمال الكردستاني وأذرعه مثل قسد والإدارة الذاتية، ينهبون خيراتها ويقمعون أهلها من عرب وكرد وسريان، وكلنا يعرف أن هذه الإدارة المزعومة وأخواتها الوجه الآخر للنظام الأسدي.
إن سوريا ليست بخير، والسوريون ليسوا بخير، ليس فقط بسبب أفعال عصابة الأسد المجرمة وما جلبته من كوارث للشعب والبلاد، بل لأن فئات ليست قليلة من السوريين، وخاصة ممن يتصدر المشهد المدني أو السياسي أو العسكري، تساهم بوعي أو غير وعي، بممارسة السياسة التي تخدم بقاء النظام. والدليل هو الجواب على سؤال منطقي وبسيط يطرحه الكثيرون في سوريا وخارجها: لو سقط نظام الأسد، فهل هناك اليوم قوة وطنية مستعدة ومؤهلة لإدارة البلاد من أجل سورية الجديدة الديمقراطية؟ بالطبع، وللأسف الشديد، لا توجد مثل هذه القوة السياسية وكذلك القوة العسكرية.
لكن هناك نخب سورية وطنية مستقلة ولكنها مشتتة، بالرغم من أن لديها كفاءات عالية في مختلف مجالات المعرفة، المدنية والعسكرية، ويستطيعون أن يديروا البلد بشكل رائع، فها هم يقدمون أرقى الإبداعات في مختلف دول العالم ولماذا في بلدهم لا يقدرون.
أي أن العلة فينا نحن النخب الثقافية والقوى السياسية والاجتماعية والمدنية والعسكرية، لأننا ضيعنا البوصلة، ولم نكن أوفياء لدماء مئات آلاف الشهداء والمعتقلين والمغيبين قسراً والمهجرين ظلماً وووو.
أما الشعب السوري المبدع الخلّاق، مفجر أعظم ثورة شعبية وطنية، فهو قادر على قلب الطاولة على الانتهازيين والوصوليين والمرتهنين للخارج، وقادر على تقديم المبادرات بالقول والفعل لإحياء وبعث الثورة، التي أطلقها هو، وليس من يتصدر المشهد المعارض زوراً ويتعيش على حسابها.
وتعلم السوريون من تجاربهم السياسية المتنوعة والغنية، بأن مشكلتنا الحالية ليست في غياب التفاهمات السياسية وفي الوثائق بحد ذاتها، التي تجسد طموحات السوريين في بناء دولة سورية جديدة، دولة المواطنة التي يتساوى الجميع أمام القانون، وفق دستور عصري يكفل حقوق السوريين كافة أفراداً وجماعات دون تمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو الطائفة.
ومشكلتنا الحساسة هي في بعض السلوكيات والأشخاص الذين لديهم أجنداتهم الشخصية الخاصة أو السياسية بسبب خلفيات غير وطنية أو ارتباطات معينة ويحاولون فرضها على مجمل الحراك السوري، ويبدو أن هذا الوضع يناسب رغبات القوى الخارجية الدولية والإقليمية، التي انصاعت أخيراً لفكرة بقاء الأسد، بالرغم من أنه فاشل في إدارة حتى المنطقة التي تخضع لسيطرته، لأنه عاجز عن تأمين أدنى مقومات الحياة الإنسانية لمواليه، ولكنه متشبث بالسلطة لأنه يؤدي وظيفة معينة لخدمة الاجندة الصهيونية – الأمريكية من جهة، والروسية – الإيرانية من جهة أخرى.
وعلى ضوء التغيرات الدولية المتعاقبة والتي نشهد فيها صراعات جيوسياسية طاحنة، في أوكرانيا وفي غزة، واحتمال انفجارها في مناطق أخرى مثل اتساع تلك الحروب وامتدادها زمنياً، لحظنا إعادة اهتمام معينة بالملف السوري وقد تكون الإجراءات الأمريكية الأخيرة مثل قانون الكبتاغون، ومشروع قانون مناهضة التطبيع مع الأسد ومراوحة التطبيع العربي مع النظام وانشغال روسيا بأمورها من حرب في أوكرانيا وعقوبات غربية ضدها، كلها عوامل ليست لصالح النظام، ولكنها للأسف لن تؤثر على بقاء النظام أو رحيله، فالقضية الأهم والجوهرية برأيي تتعلق بالعامل الذاتي السوري، والذي يمكنه قلب الحسابات، مثلما فعلت المقاومة في فلسطين بفرضها على العالم إعادة القضية الفلسطينية إلى طاولة النقاشات الدولية، والتي تزامنت مع موجة شعبية عالمية تؤيد حقوق الشعب الفلسطيني وخاصة إقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
إذا لم نقتنع بأن كل جهود المعارضة الرسمية لن تؤدي الى تحقيق أي شيء للسوريين، ما دامت سياساتها مرتهنة لأجندات خارجية وما دامت تتصدرها شخصيات ملتبسة ومشكوك في نزاهتها وفي وفائها للثورة، وإذا لم نقتع أن الخطابات والتصريحات الدولية والإقليمية لا يمكن أن تعبر إلا عن مصالح تلك الدول وليس الشعب السوري، ولا يمكن للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية وخاصة الأمم المتحدة، لن تجلب حقاً للسوريين ما دامت نخبهم في هذه الحالة المأساوية، فإننا سنبقى نحلم بسورية الجديدة وتصبح كالسراب لأن واقع السياسات الدولية والإقليمية يسير باتجاه آخر بعيد عن تحقيق أي من مطالب شعبنا وثورتنا.
وبرأيي المتواضع فإننا بعد أكثر من عقد من الزمن وبعد تجربة صعبة ومكلفة اتضح لنا بأن القوى الوطنية الحقيقية التي يجب أن تكون رائدة في مسيرة الثورة، تعيش أوضاعاً غير ثورية وأن الكثيرين لم يستوعبوا دروس الثورة وأهمها بأن ما بعد 2011 ليس كما قبله في المستويات كافة والأشكال.
وفي هذا الوقت جاء إعلان المناطق الثلاثة الصادر في 8 آذار/مارس 2024 ، باسم درعا البلد – مهد الثورة السورية والرافضة حتى اليوم للانصياع لسلطة الأسد وشبيحته، وبلدة القريا في السويداء – عاصمة الثورة السورية الكبرى التي انطلقت منها عام 1925، وريف حلب الذي يصارع من أجل تثبيت تحرره عن سيطرة النظام.
ومن اللافت توقيت الإعلان وهو يوم الثامن من آذار/مارس وهو ذكرى إعلان استقلال سورية عام 1920 بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، ونحن اليوم بأشد الحاجة إلى الاستقلال الوطني من الاحتلالات كافة.
ولقد ركز الإعلان على مقولات أساسية في الثوابت الوطنية والديمقراطية، ودعا إلى إعادة السياسة إلى السوريين ليقرروا مصيرها بأنفسهم، وأن الحياة والكرامة حقوق مصونة للشعب السوري، ولا يمكن المساومة على تلك الحقوق. كما يجب محاربة الكراهية والتعصب، والتأكيد على وحدة سوريا أرضا وشعباً ورفض المشاريع الانفصالية والمناطقية التي تبرر التقسيم.
ومن أجل ذلك لا بد من ترسيخ مبدأ الحوار الوطني واستعادة فكرة التنسيق بين الناشطين والثوار، التي انتشرت في بداية الثورة، وكانت تعبر عن روح العمل الجماعي للسوريين وكانت الممثل السياسي المستقل للحراك الشعبي. وأخيرا دعا الإعلان إلى إيجاد الثقة بين السوريين والتلاحم والعمل في ظل احترام الرأي الآخر.
مبادئ وطنية بامتياز. ويبقى المهم هو ردة فعل السوريين وهل سيدعمون هذا التوجه الجديد من نوعه، كونه يربط بين منطقة درعا المتمردة على ميليشيات الأسد ومخابراته، وبين السويداء المنتفضة منذ شهور على سلطة الأسد، والتي تعتبر تأكيداً واضحاً على استمرار الثورة السورية. وكذلك مشاركة ريف حلب التي لها دلالة كبيرة، وتؤكد على أن المناطق المحررة وشبه المحررة ما زالت تنبض بروح الثورة وترفض سلطة الأمر الواقع، وستتبعها مناطق أخرى في شرقي سورية ووسطها وفي ساحلها، لأن الظروف الاجتماعية والاقتصادية للسوريين جميعا ناضجة جداً، ولا يمكن للسوري أن يخسر شيئاً أو أن يسوء وضعه أكثر مما هو فيه من جوع ومرض وانعدام أدنى مقومات الحياة الكريمة، بينما نرى سلطة مستهترة تتاجر بالمخدرات وتستمر بالضغط على الناس اقتصادياً وأمنياً. بالإضافة إلى أن النظام الأسدي وحيد اليوم بلا داعم حقيقي.
أدعو الوطنيين السوريين والنخب النزيهة أن تدعم هذه المبادرة وتشارك في صياغة تفاصيلها وتوسع دائرتها جغرافياً وبشرياً، فهي تحيي فينا أملاً جديداً، وتؤكد بأنه لا بديل عن توحيد قوى الشعب الثائر، وأن يتم ذلك على مراحل وبمشاركة من الناشطين والمثقفين والفعاليات الوطنية والثورية.
ولم تنجح ثورة إلا بجهود أبنائها.