قراءة في رواية “كومة قش”
- الكاتبة: وفاء علوش
- الناشر: جائزة كتارا للرواية العربية
- الرواية الفائزة في عام 2019م
وفاء علوش روائية سورية متميزة، تنتمي للثورة السورية، قرأت لها أيضاً روايتها الأحدث حفار ساق العنب الصادرة عن دار موزاييك للعام 2021م.
كومة قش رواية وفاء علوش الأولى التي فازت بجائزة كتارا لعام 2019م. تعتمد الكاتبة على أسلوب المقاطع في الانتقال من مسار إلى آخر في روايتها، حيث تسير الرواية في مسارين متعاقبين في تسلسل السرد ولكنهما يحصلان في ذات الزمن الروائي وغير متقاطعين: الأول تعتمد به الكاتبة على السرد بلغة المتكلم على لسان مريم الشخصية الأولى المحورية في الرواية. أما المسار الثاني فيعتمد السرد بلسان الراوي عن زياد الشخصية المحورية الأخرى، ومن ثم تتقاطع الشخصيتان في خواتيم الرواية.
تبدأ الرواية من منعكسات الثورة السورية التي حصلت في ربيع عام 2011م، حيث ثار الناس على ظلم واستبداد وقمع النظام السوري، الحدث الذي كان مستحيلاً، لكنه حصل. مريم ابنة مدينة حمص الفتاة التي كبرت وسط عائلتها الصغيرة، تتحدث بحميمية وعمق نفسي ووجداني، عن أسرتها وحياتهم الفقيرة المستورة، وكيف وصلت بجدّها إلى أن تكون طالبة في الجامعة.
الطلبة استجابوا لنداء الثورة وبدؤوا اعتصاماً في الجامعة بعد أشهر من قيامها. كانت مريم في الجامعة، لم تشارك في الاعتصام، بعيدة هي عن السياسة، مترسب في داخلها، حذر مزروع في نفسها ونفس السوريين جميعا، السياسة مجلبة للتهلكة. لذلك لم تشارك في الاعتصام، رغم التعاطف. بقيت تراقب كمثل الكثيرين عن بُعد. حضر الأمن واعتقل المعتصمين وكل الموجودين بجوارهم وكانت مريم منهم.
بدءاً من سيارة الاعتقال ومروراً بالاستقبال القاسي المذل المستبيح لكرامة الفتيات، مقترناً مع الضرب والإهانات اللفظية، أدركت مريم أنها وقعت في الجحيم. وصلوا إلى فرع الأمن، أخذوا أوراقهم الثبوتية وما يحملون، وضعوهم في زنزانات جماعية مكتظة، النساء فوق بعضهم بعضاً، لا خصوصية لأي أحد، لا نور، لا أمل.
انكمشت مريم على نفسها، هي الأصغر بينهم. النساء المعتقلات لأسباب كثيرة، أم أو زوجة أو أخت مطلوب للأجهزة الأمنية، كانوا حذرين من مريم. يخافون أن يكون بينهم من تعمل مخبرة لصالح الأمن.
انعزلت مريم على نفسها ولم تتواصل مع أحد، خافت على نفسها من هول التجربة، وهذا زاد من ريبة النساء في الزنزانة منها. إلا واحدة بقيت تراقبها، ثم تقربت منها. إنها سمر الفتاة المسيّسة المعتقلة منذ زمن طويل، والتي ما إن تخرج من المعتقل حتى يعيدوا اعتقالها مجدداً، تنتمي لإحدى منظمات حقوق الإنسان المعارضة، تعودت على الاعتقال، تجاوزت حاجز الخوف، تقربت من مريم وحاولت معرفة قصتها. حاولت أن تجعلها أقرب للنساء حولها. وأن تتقبل ظرفها الجديد وأن تنتصر على خوفها أولاً. اقتربت مريم من النساء قليلاً. وتم استدعاؤها للتحقيق بعد مضي أيام كثيرة. كان جو التحقيق عموماً قاسياً، والكل يسمع الصراخ والاستغاثة والتعذيب. استقبلها المحقق تودد لها وغازلها، وخيرها بين أن تُعذب وبين أن تكون مخبراً له حول ما تسمع من النساء في الزنزانة. عادت للزنزانة وأخبرت سمر بما حصل معها، شجعتها سمر على الرفض وألا تستجيب لما يتناقض مع إنسانيتها ويضر النساء. أنقذها من الموقف نقلها إلى مركز تحقيق آخر مع سمر وأخريات، وهناك استدعاها محققا جديدا، غازلها وحاول اغتصابها لكنها نفرت منه، ما أدى لتحويلها إلى زنزانة انفرادية، وفي ليلة لاحقة جاءها المحقق واغتصبها. كانت تجربة مؤلمة لمريم تمنت لو ماتت وما حصل معها ما حصل. أعيدت إلى زنزانتها الجماعية، أخبرت سمر بما حصل معها، شدت سمر أزرها وأن ذلك ليس ذنبها. لكن مريم لم تتحرر من هول التجربة ولا منعكساتها النفسية عليها. خاصة وأنها وبعد أشهر بدأت تظهر عليها آثار الحمل وتنعكس على نفسيتها، حاولت الإجهاض أكثر من مرة وبأساليب عدة لكنها لم تنجح، تمنت الموت مراراً. أصبحت ضحية الاغتصاب وعدم التضامن من النساء وكأنها هي المسؤولة عمّا حصل.
كانت سمر الصدر الحاضن لها، ولم يمض وقت حتى تم نقلها وغيرها إلى السجن المركزي للمدينة برسم الأمانة لصالح الفرع الأمني الذي اعتقلها، لم تكن معها سمر، افتقدتها. وهناك كانت ظروف السجن أكثر راحة. لكن النساء هناك كنّ متنوعات الجرائم. ما جعل مريم في حالة تحفز دائم من استفسارات النساء وتساؤلاتهم عن الحمل “ابن الحرام” الذي بدأ يعلن عن نفسه. اقتربت ولادة مريم، ساعدتها النسوة في السجن وولدت طفلاً. كانت مشاعرها تجاهه متناقضة في البدء، لكنها احتضنته أخيراً وأعطته صدرها وأحست أنه الشيء الجميل الوحيد في حياتها. أحيتها الأمومة، أسمته ورداً، لم تعد تهتم من هو أبوه أو أنه نتيجة اغتصاب وأنه ابن حرام بعرف النساء حولها. استطاع ورد أن يعيد إحياء الجانب الإنساني الأمومي في النساء المحيطات بمريم وبه. لقد أحببنه واحتضنه مع أمه، أصبح ابناً لكل النساء لوّن حياتهم جميعاً.
كانت مشكلة مريم الكبرى كيف تخبر أهلها بما حصل معها وأنها اعتقلت عزباء وستعود لهم يوماً بطفلها. تواصلت معهم وأصبحوا يزورونها. وبعد مضي أربع سنوات على اعتقالها خرجت من السجن ومعها ابنها ورد وعمره عشرة أشهر. فرح أهلها بالإفراج عنها. أبوها وأمها وأختها وأخوها رفضوا الطفل كل لأسبابه، الأب فكر بالتخلص منه، وأخوها فكر بذبح أخته ليزيل عارها، وأختها المحامية نظّرت عليها بكيفية إجراء مخرج قانوني لذلك وتسليمه للدولة والتخلص من عبئه وعاره. أما أمها فقد ضاعت بين الكل. لم يكونوا يدركون أن ورداً بالنسبة إلى مريم هو النور الوحيد المتبقي لها في حياتها وأنها متعلقة به. ومستعدة أن تتخلى عن العالم ولا تتخلى عنه. عاشت فترة مع أهلها تقاوم مطالبهم وتفكر بمخرج مما هي فيه. حتى جاءها استدعاء أمني جديد، فقررت أن تهرب مع ابنها من أهلها ومن الأمن ومن نظرة المجتمع المحيط لعلها تصنع لها ولابنها حياة مختلفة أفضل. غادرت إلى المناطق المحررة في الشمال السوري، بدأت تعمل هناك مع الجمعيات الإغاثية في الإسعاف وغيره.
تعرفت هناك على زياد الذي سيكون لها معه حكاية أخرى.. زياد الشاب الأصيل ابن ريف دمشق يعيش في بلدته الوادعة الجميلة، يعمل مدرساً للغة العربية، مثقف ولديه مكتبة، تزوج من فتاة أحبها أنجبت له طفلة، يعيش حياته على أمل أن تتغير أحوال البلاد نحو الأفضل. مدرك لطبيعة النظام السوري القمعي الاستبدادي الظالم. ولذلك ما إن حصل الربيع السوري حتى كان أحد الناشطين الأساسيين في مدينته. يجتمع مع الآخرين في مكتبته، يصوغون الشعارات ويكتبون اللافتات ويحددون المواقيت وأماكن التجمع والانطلاق. وعندما زاد النظام من قمعه، واستطاعت البلدة التحرر من سلطة النظام. استعاض النظام بالقصف والتدمير والقتل للناس في البلدة الثائرة. سقطت قذيفة على منزل زياد قتلت زوجته وطفلته الذين سقطوا تحت الركام. وكذلك توفي والده ووالدته بعد ذلك، من هول ما حصل معهم. هرب أغلب أهل البلدة من القصف والتدمير والقتل العشوائي. بقي زياد يؤمّن أسباب العيش لبعض الثوار المتخفين في الأنفاق في البلدة. استمر ذلك بعض الوقت، ثم تم تدمير الأنفاق وقتل أغلب الثوار. عندها قرر زياد مغادرة البلدة إلى الشمال السوري المحرر. وصل إلى هناك وبدأ العمل مع المنظمات الإغاثية. كان الإسلاميين المتشددين التابعين لبعض الجماعات المسلحة المحسوبة على الثورة قد هيمنوا على مفاصل الحياة هناك. بدؤوا يحاصرون زياد ويقترحون عليه أن يعمل معهم ولصالحهم. ودفعوه للزواج حسب إرادتهم. لكنه لم يستجب لهم، بدؤوا يحاصروه إلى درجة مهاجمة بيته بالحجارة.
في هذا الوقت تقاطعت أقدار زياد ومريم حيث التقى فيها في المنظمة الإغاثية وساعدها بإيجاد عمل لها. اقتربوا من بعضهم بعضاً أكثر، اطمأنت له مريم، حكت له حكايتها كاملة، تفهم وضعها وتعاطف معها، وهو أخبرها بحكايته. احتضن زياد مريم وورد. وعندما ضاقت عليهم السبل وحاصرهم المتشددين الإسلاميين. قررا أن يغادرا برفقة ورد الصغير إلى تركيا، وهكذا حصل وهناك يتزوجان. وفي أعماقهم يعيش حنين يفكران بعد سنتين من غربتهم: مريم تود العودة إلى بلدها الذي كان وتحب، وزياد يخبرها أن ذلك الوطن زال وأن وطناً بديلاً قيد الولادة.
هنا تنتهي الرواية..
في التعقيب عليها أقول:
بداية نحن أمام رواية نجحت في الدخول عميقا في ذوات أبطالها، بحيث عجنت الأحداث على قساوتها وحميميتها وخصوصيتها مع ذات أبطالها، ومن ثم في ذاتنا نحن القارئين، نعم استشهد منا مئات الآلاف ودمرت البلدات ولجأ منا الملايين، لكن السرد هنا جعل الحدث حياً نابضاً في قلوبنا كقراء كما كان في قلب الكاتبة وهما هو في الواقع أيضاً.
هنا عظمة الرواية..
كما نجحت الرواية في فضح النظام وكشف حقيقته القمعية الاستبدادية الوحشية، القتل والاغتصاب وتدمير البلدات والمدن، وتهجير الشعب كله أو أغلبه. هي صفاته الأساسية. وأن الناس لم يكونوا إلا ضحايا كل الوقت.
نجحت الرواية في الدخول إلى قلب آلة القتل وتدمير الذات الإنسانية، إنها الفروع الأمنية التي تعتقل وتقتل وتحرق المعتقلين وتغتصب دون أي رقيب أو حسيب.
نجحت الرواية في تنوير معضلة الاغتصاب الذي عانت منه كثيراً من نسائنا السوريات، انتصرت لهنّ، ونورت حالتهنّ، انتصرت للأمومة، وأدانت الغبن والرفض الاجتماعي للمغتصبات، وأن تلك النساء هم شرفنا والنظام وأعماله ووجوده هو عارنا.
توقفت الرواية عند المناطق المحررة وكيف تم السطو على الثورة والمناطق المحررة، وأصبحت ضحية عقلية استبدادية متزمتة، لا تمت للدين الإسلامي بصلة، ومتناقضة مع حقيقة الثورة التي قام بها السوريين. المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل.
مرة أخرى لغة الرواية وسرديتها النابعة من الروح الواصلة لروح المتلقي هي أقوى ما فيها وجعلها برأيي مستحقة جائزة كتارا للرواية العربية.
شكراً وفاء علوش أيتها المبدعة المتميزة.