fbpx

شفق الفجر

0 42

متكوّر في الظلمة. لم يعد له أمنية إلّا أن يرى النور يوماً.. سمع الباب يُفتح ويرى شبحاً يقول له: أسرع، وأمسكه من يده وجرّه بسرعة.. صعدا الدرجات.. ولما شاهد الشمس دُهش.. أغمض عينيه، وفتحهما ببطء ليرى رجالاً ملثمين لهم لحىً طالت، ويلبسون قمصاناً فضفاضة، وسراويل لم يعهدها من قبل. ساقوا الجميع لعربات أقلّتهم إلى معسكر في الصحراء. استجوبوهم… واشترطوا لفك أسرهم أن يقاتلوا معهم سنة كاملة بعد دورة تدريب على استخدام السلاح، ومَن رفض أطلقوا على رأسه الرصاص.

ابتلع لعابه، وتذكّر ذاك الذي أوقفه.. انزل وارفع يديك.. كبّلهما خلف ظهره.. أدخل رأسه في كيس أسود، واقتاده إلى عربة تجثم فوق الرصيف، وصفق الباب بقوة.. سأله بعفوية: إلى أين تأخذني؟

– اصمت..

راحت العربة تلتفّ يمناً ويساراً، وتقطع الشوارع فلم يعد يعرف الشرق من الغرب. توقفت أخيراً.. هيّا.. أحسّ أنه يطأ أرضاً معشبة، ثم تعثّر برصيف كاد يسقط.. أمسكه من ذراعه.. دخلا مبنى.. نزلا درجات عدّها عشرة.. تكرّرت أربع مرّات.. سمع صوت مزلاج.. رفعوا الكيس عن رأسه.. فكّوا قيده.. فتّشوه.. صادروا كلّ ما معه، هويته الشخصية والنقود والهاتف.. دفعوه إلى الداخل، وأقفلوا…

 نور خافت يتسلّل من كوة تحت السقف، ورائحة رطوبة نتنة تزكم الأنف. تفحّص المكان بحذر شديد، وتابع ما يشبه ظلّ غصن يتأرجح عبر الكوة.. سمع المفتاح يدور في الباب.. وضع الحارس عصابة على عينيه، وكبّل يديه، وأمره بالسير. كان يصطدم بالجدار فيحرفه الحارس إلى اليمين أو اليسار. صعد عشرين درجة، ومشى مستقيماً حتى أوقفه الحارس، وقال: هذا هو سيدي، دفعه بقوة وأغلق الباب.

– اسمك؟

– فوّاز ساكت المغدور

– عمرك؟

– سبعة وعشرون عاماً

– لماذا أشرت بأصبعك للصورة؟

– أيّة صورة يا سيدي؟

– ألا تعرف صورة الجدّ؟

– أقسم، لم أره في حياتي

– لكنّك رأيت الصورة، وهذا يكفي…

– لا علم لي، ولم أهتم في حياتي بأية صورة

– لماذا؟

– ولدت خارج البلاد لأبوين مهاجرين…

– وماذا أيضاً؟

– لم يكن هناك صور…

– لكنّك أشرت إلى الصورة

مدّ يدك.. ضعها مفرودة على الأرض.. رفع قدمه وأنزلها كمطرقة فأحسّ أن أنامله تُسحَق تحت الحذاء.. هيّا قل: أي أصبع أشرت بها؟ وركله على رأسه فشعر بدوار، وأثنى بأخرى في الخاصرة.. مال على جنبه.. ارتطم رأسه بالأرض.. رنّت في أذنه.. ويكذب ابن الكلب.. نادى: علّموه كيف يتكلّم…

عارياً.. يداه مشدودتان بسلسلة إلى السقف ورؤوس أصابع رجليه تكاد تلامس الأرض، وسلك كهرباء مجدول يلسع جلده كسيخ محمّى من الأكتاف حتى القدمين.. تأوّه.. وتأوّه.. ثم لم يعد يشعر بألم وتدلّت رأسه على نحره…

تكرّر التحقيق.. وتكرّر اللسع مرّات ومرّات…

تمسّك بالحياة… خضع لما طُلب منه.. تعلّم الرماية.. انتظر فرصة للهرب.. وفي أول عملية حاول التسلّل فكُشِف أمره، واقتيد إلى المعسكر.. عُذّب بحرق جسمه بميسم حديد، ولم تنجُ حتى أعضاؤه الحساسة. قالوا: كافر عقابه الحرق والقتل رجماً…

تعاطف معه أحد المساجين الذين عاشوا معه. وعده بالمساعدة على الهرب ليلاً. أعطاه رغيفاً وزجاجة ماء، وسهّل له الخروج عبر الأسلاك الشائكة باتجاه البر الشاسع…

كانت رجلاه تغوصان وهو يركض عبر الرمال، يدفعه حبّ الحياة إلى الإسراع بعيداً عن العيون قبل أن تشرق الشمس. ابتعد كيلو مترات، ولما بدأت تباشير الصباح نظر خلفه فلم يرَ المعسكر. غذّ السير وعيناه عالقتان في امتداد سهوب لا ماء فيها ولا شجر، ولمّا سطعت الشمس اتخذ من قميصه مظلة، وتابع… كانت الرمال تعكس أشعة الشمس على عينيه فيغمضهما ويمشي… وارتفعت الحرارة وسط قفر لا يعيش فيه جندب أو عصفور، وقد لا يحتمله ضبّ ولا أفعى. يعرف أنه لا يستطيع الجلوس على الرمال الحارقة، وليس هناك شجرة يستظلّ بها. سُدّت الطرق.. ليس أمامه إلّا متابعة المسير.. قضم بضع لقيمات، وارتشف قطرات.. شعر أنه وحيد في هذا العالم المترامية أطرافه.. تمنّى لو أن هناك شجرة أو صخرة يستند إليها.. أحسّ أن رجليه تخونانه، وقواه تخور، والشمس تنهكه، وكثبان الرمال تعوقه وتتالى خلف بعضها.. لا أنيس غير نسمات حارة تصفع وجهه، وكلما توغّل شعر بالضعف في أوصاله؛ فيتقوّى بلقمة ورشفة ماء…

انحدرت الشمس نحو المغيب ومازالت السهوب على امتداد البصر، وهبت نسيمات أنعشت روحه قليلاً.. قرّر الاستراحة فوق الرمال، وما إن أسند رأسه لكومة حتى تسرّب النعاس إلى جفنيه وغفا متعباً. استيقظ والقمر ينتصف قبة السماء.. ساهره ساعة.. أحسّ بالجوع.. التهم باقي الرغيف، وشرب بعض الماء. ومع خيوط الفجر نهض، وتابع المسير عبر كثبان ترهقه… أشرقت الشمس وراحت تعلو رويداً رويداً، وكلّما ارتقت علواً كانت الحرارة تلهب جسده فيرتشف قطرات ويتابع. صعد ضهر كثيب وسرّح نظره فلم يشاهد غير بساط من الرمال المتعرجة.. خُيّل له السراب مياهاً بعيدة فغذّ السير، ومع كل خطوة كانت رجلاه تتباطأ، والعطش يؤلمه حتى ارتشف آخر ما لديه…

لم يعد يربطه بالحياة إلّا شعاع من أمل يدفعه دفعاً إلى الأمام. تظلّل بقميصه ، وجرجر رجلين ترسمان خلفه خطين على صفحة الرمال. يداه تضعفان، والعطش يزداد، والسراب يلمع أمامه وهو يحاول جاهداً أن يتقدّم… تشققت شفتاه، وشعر بقواه تخذله مع كل خطوة يخطوها. الشمس تلهب الكون من حوله، والرمال تتقد، وخطواته تقصر، وعيناه يغشاهما ضباب. عضلات ساقيه تتقلص، ولسانه يتحسس شفتيه يرطبهما بلعاب مازال يحتفظ به. أنهكه العطش.. تيبّست شفتاه.. يقايض عمره كله برشفة ماء تعيد له بعض القوة.. أشباح تتراءى له من بعيد.. يظلّل عينيه بيده ويمعن النظر فلا يرى غير سهوب الرمال المتوهجة. تمنّى لو يصادف أفعى سامة تريحه، أو ظلاً يفيء إليه، أو شربة.. أو قطرات ترطّب شفتيه.. خذلته رجلاه.. ركع.. انكب على وجهه.. قميصه يغطي رأسه، وأنفاسه تتصاعد بطيئة.. شعر بيد أمّه تمسح على شعره، وأصوات أخوته تملأ أذنيه، وأخته تقرّب له كأس ماء.. نظر إليها تبتسم.. امتدّت يده ليتناوله.. كاد يلمسه.. أطبق صمت.

فتح عينيه. خيمة كبيرة، ورجال جلوس. شاهدوه يتململ.. حمداً مازال حيّاً.. سقوه.. وأطعموه.. وعالجوه حتى تقوّت أعضاؤه.. استقصى عن الأهل فلم يعرف لهم خبراً.. نهشته الحيرة، واسودت الدنيا في وجهه. وجد نفسه بين نارين، نار المعسكر خلف الصحراء، ونار الزنزانة على طرف المدينة.. فكّر…

تطايرت الأخبار.. التقطها فرحاً.. منّى النفس.. ولمّا ابترد الطقس وتعرّى الشجر أوصله القوم إلى أقرب نقطة… أشاروا إلى الطريق.. شكرهم…

حمل على كتفه بعض مؤونة، وفي قلبه غصة، وفي رأسه حلماً، وصوراً… لوّح لهم وسار فوق سهل من الثلج عائداً…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني