حسابات ورهانات الأسد الخاطئة
وصل الأسد إلى جدة واستقبل بالأحضان والقبلات من الملك السعودي القادم معتقداً أنّ وصوله إلى جدة مكسب للمؤتمر ونجاح لمساعي صاحب الضيافة بحصول حدث غير متوقع لإعطاء زخم للقمة كنا أنّ دعوة الرئيس الأوكراني إلى ذات الحدث تَصبّ في هذا الاتجاه جلبة وضوضاء إعلامية.
وبأسوأ الاحتمالات ظَنّ الأسد أنّ عودته قد يتم النظر إليها بعودة الابن الضال.
كانت خزائن المال في الرياض وأبو ظبي هي مقصده، وأيضاً يسعى تجار المخدرات دائماً إلى تبيض صحائفهم بالتوازي مع تبييض أموالهم.
اعتقد الأسد أنّ المال العربي سينال منه مأربه، ولكن أصحاب المال يفتقدون إلى المبرر لذلك، وهاهم دعوه كرئيس دولة شرعي لتبرير فعلتهم أمام أنفسهم وأمام شعوبهم أو منتقديهم.
لقد أسبغ ابن سلمان على الأسد باحتضانه له في قصره بركاته وأخذ صورة تذكارية معه تعلو وجهيهما الابتسامات وأسبغ عليه شرعية ومنحه (بما تمثل المملكة من ثقل عربي وإسلامي) صَكّ براءة عن كل جرائمه التي ارتكبها، وبالتالي أطلق رصاصة بدء سباق الهرولة (للمترددين أو لمن فاتهم القطار) إلى دمشق والاعتراف بنصر الأسد على شعبه والتعامل معه كأمر واقع. واستحضار كل مبررات الواقعية السياسية وتبادل المصالح والنظريات الميكيافيلية والتي تؤدي إلى مقالة لا خصومة أبدية في عالم السياسة والسياسيين.
كان الأسد يرى أنّ غزوة جدة وفتح الأبواب السعودية الموصدة في وجهه لا يمكن أن تتم إلا استناداً لقرار دولي (أمريكي على وجه الخصوص) غير معلن الآن، ويتمّ التمهيد لجعله أمراً واقعاً والتعاطي بأنّ الأسد جزء من الحل لا ينبغي أو لا جدوى من عزله، وقد يكون الأسد غير مخطئ عندما اعتقد أنّ القرار السعودي مبني على أضواء خضراء ساطعة أمريكية بالسر وأضواء برتقالية خافتة بالعلن، وبالطبع هكذا الدول الكبرى كالسفن الكبرى لا تستطيع الاستدارة بسهولة وسرعة وانما تحتاج لوقت لتغيير تجاهها، وليست السفينة الأمريكية كالقارب السعودي السريع قادر على الاستدارة وتوجيه البوصلة بشكل معاكس وخلال لحظات.
واعتقد الأسد (مخطئاً) أنّ الجميع سياتي لحلبة المناورة واللف والدوران وهي لُعبته المفضلة التي يُتقنها ويتقن إطلاق الوعود الكاذبة وإغراق الخصم بالتفاصيل.
يُدرك الأسد أنّ المطالب الأمريكية منه ثلاثة، أولها القطع والقطيعة مع الرئيس الروسي تمهيداً للطلب منه بمغادرة القوات الروسية للأراضي السورية، وثانيها التعبير عن استعداده لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، وثالثها التضييق على الاحتلال العسكري الإيراني وتخفيف ذلك التواجد المباشر ولا شأن للولايات المتحدة بكل الأشكال المدنية للتغلغل الإيراني في سورية.
ويُدرك الأسد أنّ الأماني العربية هي بتخفيف الاحتلال الإيراني بشقيه المدني والعسكري في سورية بمعنى إحداث شرخ في هلال إيران الشيعي تمهيداً لتوسيعه وصولاً لقطعه، ولا يملك الخليج من أدوات القوة إلا الناعمة منها، والمال والإعلام سيكونان مؤازرين للأسد في مسعاه المتدرج (الذين أسموه الخطوة مقابل خطوة) لإحداث ذلك.
ويمكن أن يكون قد دار في خلد الأسد أحد احتمالين في حدوث تطورات الاوضاع المضطربة والملتهبة في المنطقة وهما:
- إن حدث توافق أمريكي إيراني دائم أو مؤقت بشأن البرنامج النووي فإنّ ذلك الاتفاق سيلقي بظلاله بالضرورة على نظام الأسد مفتتحاً عهداً جديداً بالتخادم الأمريكي/الإيراني في سورية وبالتالي ترى دول الخليج أنّ الأسد باقٍ ولابُدّ من التعامل معه لأنه يحظى بقبول القوى الدولية والإقليمية الفاعلة وسيكون إنقاذ وضعه الاقتصادي المتهالك أمراً مرحباً به.
- والاحتمال الثاني ممكن ألا يحصل الاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران وبالتالي دخول المنطقة في مرحلة مناطحة الأكباش.
استبقت الرياض هذا الاحتمال بتوقيع مذكرة التفاهم مع طهران في العاصمة الصينية في آذار الماضي وحَيّدت نفسها على أن تكون ساحة خلفية لتبادل الرسائل وأنّ الجزية الإيرانية المفروضة عليها هي تعويم الأسد سياسيا وإنقاذه مالياً.
لذلك ذهب الأسد إلى جدة هانئ البال بأنه سيكون الرابح من كل مآلات وسيناريوهات اللعبة الدولية الجارية في المنطقة فجلس على مقعد سوريا مرتاحاً وأخذ ينظر ويتفلسف كعادته أمام القادة العرب عن الخطر العثماني القديم والأخطر الجديد منه المغلف بغطاء إخواني، خاصةً في حينها أنّ زعماء الخليج والأسد نفسه كانوا على أبواب الجولة التركية الثانية للانتخابات الرئاسية وكل شيء وارد فيها بأن يربح فيها صديق الأسد المنافس الرئيسي والوحيد للرئيس التركي والذي اتهمه أمامهم بقيادة عثمانية إخوانية في المنطقة.
طَبّل الاعلام الموالي للأسد وزَمّر ما شاء للطبل والزمر أن يجمعا الأنظار بأصواتهم العالية وتحريضهم للأجساد على التمايل والرقص، ووجدت أسراب الذباب والبعوض الإلكتروني ضالتها في التبشير بالنصر الذي حدث وإنه كان تحصيل حاصل لما جرى على الأرض وما حصل من تَبدّل في العلاقات الدولية.
بدأت الأصوات في مناطق سيطرة النظام ترتفع وترتفع مُرحبةً بسياسة القائد الحكيمة الذي هزم المؤامرة الكونية وهرول البعيد والقريب له ولابد للعرب أن يُكفّروا عن خطاياهم بحقه وقد قبل الأسد بدفع الدية المالية ليمنحهم العفو.
كانت الموالاة تعيش على وقع زيارة الرئيس الإيراني لدمشق والتي سبقت قمة جدة بأيام قليلة والتي تأجلت كثيراً وعندما حصلت وُصِفت بالزيارة التاريخية، كانت الهتافات الحسينية التي رافقتها لاتهمّ إلا القلة القليلة من السوريين وهي تعبير صوتي عما حصل على الأرض، كانت الأعين تراقب التوقيع على عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والتي إن أبصر ربعها مثلاً النور ووجدت طريقها لأرض الواقع فإنها بالتأكيد ومهما كانت فوائدها قليلة فإنها سترفع الأزمة الاقتصادية من القاع قليلاً وإن لم تستطع ذلك فإن الأزمة لن تنحدر لدون القاع في أضعف الأحوال.
خاصةً أنّ الإيرانيين وإن لم يملكوا مالاً ساخناً فإنهم بالتأكيد يستطيعون حَلّ مشكلة المحروقات المزمنة عبر تقديمهم لما تحتاجه مناطق سيطرة الأسد عيناُ وليس نقداً، والنفط الإيراني (المعاقب) يُباع بأرخص الأثمان عالمياً بل أحياناً لا يوجد من يشتريه.
اعتقد الأسد أنّ الفرصة الذهبية سنحت له باستمرار رقصه على الحبال ولعبه على أوتار التناقضات الدولية ببراغماتيته المعهودة والمتحللة من أي اخلاق أو مبادئ أو وعود، مع إشهار سلاحه القديم المتجدد بوجه الخليج والعالم، ادفعوا بالتي هي أحسن أو انتظروا أطنان الكبتاغون، وإن اردتم الاستثمار في المستقبل وإيقاف تصنيع وتوزيع الكبتاغون فعليكم إعادة تأهيل نظامي سياسياً واقتصادياً وتمهيد التوريث لحافظ الحفيد.
لم يُدرك الأسد حقيقة الموقف الأمريكي بل والعربي أيضاً، بأنه كرت محروق غير قابل للحياة ولن ينطلي خداعه على أحد، فهو نعل روسي وعصا إيرانية ليس أكثر ولن يستطيع الانفكاك (ولو حاول) عن القدم الروسية والقبضة الإيرانية، بل إنه في سورية ليس محاوراً رئيسياً ولا يُمكن الركون لما يقول ولو كان جاداً، فمراكز القوى الميليشياوية متعددة ولا تُلقي بالاً لما يقول بل لا يملك أي تأثير عليها.
لا مال عربي ولا نفط إيراني
مَرّت شهور على زيارة الرئيس الإيراني لدمشق، وبدأت الموالاة تَعدّ الساعات والأيام ثم صارت تَعدّ بالأسابيع لوصول طلائع المال العربي (لقلب العروبة النابض) لم يصل مال عربي ولا نفط أعجمي، وبدأ الجميع يصحو من الأحلام الوردية وتمّ استبدالها بكوابيس مُخيفة، ماذا لو لم يصل المال والنفط واقتصر الأمر على سجادة حمراء وحرس شرف واستقبالات رسمية للأسد، وتلك لاتُسمن ولا تُغنِي من جوع.
بِتلبّد السماء بين السعودية وإيران بالغيوم السوداء وانتظار تدفق الأموال العربية والتي بدأ الشكّ بوصولها أصلاً، ابتدأ حاجز الصمت بالتكسّر والتقط الدولار الأمريكي اللحظة السياسية وأخذ بالتحليق عالياً ولم ينطلق الأخضر بسرعات عادية بل كان انطلاقاً صاروخياً وصارخاً، وانهارت الليرة السورية وفقدت 70% من قيمتها خلال أيام.
وبدا الأفق مسدوداً بعد ضياع الفرصة الكبيرة والأخيرة، خرجت الأصوات في الساحل تشكو وتُندّد وتتضرّع بل ووصلت لانتقاد الأسد شخصياً بتسببه بالأزمة، ولم يكن باستطاعة النظام إلا إجراء اجتماع لمجلس الشعب وإلقاء اللوم على الحكومة.
وبدأت نُويّات حملات إعلامية من نظام الأسد باتجاه الخليج والقول إنهم خضعوا للإملاءات الأمريكية بمعنى أنها دول فاقدة للسيادة والقرار الوطني المستقل، مع علم الأسد ومواليه أن الولايات المتحدة والغرب عموماً لا يعارضون (إن لم يكونوا يُشجّعون) على تنفيذ بعض مشاريع الإنعاش المبكر المُوصّفة والمُحدّدة أممياً أو الاستفادة من مهلة الإعفاءات الأمريكية من عقوبات قانون قيصر والتي تم إقرارها بعد كارثة الزلزال بتقديم هبات ومساعدات إنسانية، كلّ ذلك لم يحصل، بل ولعلّ العناد الروسي بوضع الفيتو على مشروع قرار تمديد آلية إدخال المساعدات الأممية إلى سوريا قد ساهم في حرمان السوق الداخلي لمناطق سيطرة النظام من دخول المواد الغذائية الأساسية، وساهم فقدانها أو شُحّها التجار على طلب الدولار من السوق السوداء لاستيرادها، ومما زاد الطين بلة في ارتفاع مستويات الحنق عند الموالاة أن الجولة الأخيرة للرئيس التركي (عدو الأسد اللدود) في الخليج العربي قد تم فيها توقيع صفقات تجارية واستثمارية بعشرات مليارات الدولارات، ولم تدفع تلك الدول الثرية للأسد دولاراً واحداً.
لم يعد أمام الأسد من خيارات فأدرك أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمحور الروسي/الإيراني وأنّ محاولات انتشاله من ذلك المحور لم تَعد واقعية أو مطروحة.
أرسل الأسد مقداده إلى طهران للتسوّل من بلد يَتسوّل فكّ عقوبات عليه، ولا يُنتظر أي نتائج ملموسة من زيارته تلك، وتم وضع الحاضنة الاجتماعية الصلبة للنظام أمام خيارين، الموت جوعاً بسببه أو الثورة عليه.