وماذا أفعلُ؟
الحربُ هدَّتْنا، ولم يعدْ مجتمعُنا مجتمعاً، بل هو بقايا مجتمع، ولم تعدْ مدينتُنا كما كانَتْ.
أجوبُ حارات مدينتي، في وسطها وفي شمالها وفي جنوبها وغربها… فلا أجدُ سوى ذكريات لأرواح عاشَتْ هنا، أرواح غادرَتْ، وأرواح هاجرَتْ، وأرواح أُجْبرَتْ على النّزوح… وكلُّها لها بقايا واضحة في هذه المدينة الخالدة.
مدينةٌ خالدةٌ؟ نعم، مدينتي خالدةٌ، وستبقى خالدةً ما بقيَت الحياةُ الدّنيا.
هنا أجدُ التزاحمَ على شراء الخبز، وهناكَ أجدُ السّيّارات في طوابيرَ ثلاثيّة ورباعيّة، طولُها عدَّةَ كيلومترات، وفي الأزقّة أجدُ تزاحماً على عبوات الغاز الثّقيلة القاسية… كلُّ هذا مع الجوع الملقى على الطّرقات وفي الأرصفة، وأمامَ كلّ حديقة ومحلّ لبيع الأغذية، وعلى باب كلّ مدرسة مهجورة أو معبد مخروب أو قلَّ روّادُهُ كثيراً.
أجوبُ مدينتي المهترئةَ، وأنا أحملُ على ظهري عُدّتي، وبينَ يديَّ صنبورُ عرْق السّوس، أو أعزفُ على طاسات نحاسيّة النَّغَمَ الحزينَ.
قبلَ الحرب، وما أطوَلَها من حرب! كانَ الجميعُ يقولونَ لي: معزوفاتُكَ بهيجةٌ، مفرحةٌ، راقصةٌ… وكنتُ أصدّقُ أنّني أعزفُ، تُفْرحُني هذه العبارةُ، عبارةُ وصف ما أقومُ به بأنّهُ معزوفةٌ، وكنتُ أرفعُ فَمَ الصّنبور إلى الأعلى لأباعدَ الصّبَّ بينَ الكأس وبينَ الصّنبور ما استطعتُ، فالرّغوةُ مرغوبةٌ. أمّا الآنَ، فأصبّ الكأسَ بهدوء وعلى خجل. هل تعلمون؟ أخجلُ منْ إصدار أيّ صوت، أخجلُ منْ أَخْذ ثمن كأس عرْق السّوس، في زمن الجوع والعطش، ولكنْ لا حيلةَ لي، عندي أسرةٌ وأولادٌ، وأسعى لكي أُطْعمَهُمْ، أقصدُ بقايا أسرة وأولاد.
آه يا أحمد! كسرْتَ ظهري، عندَما حملوكَ إليَّ شهيداً، شهيداً بريئاً كلَّ البراءة، لم تكنْ تحملُ سلاحاً، ولا تنتمي لجماعة، لم تكنْ قد صرْتَ في عمر حمل السّلاح، كنتَ في السّادسةَ عشرةَ منْ عمركَ، وكنتُ أبني أحلاماً كثيرةً أنتَ بطلُها، ولكنْ، حصلَ ما حصلَ، وأزهقوا روحَكَ برصاصهم العشوائيّ الغادر، الرّصاص الّذي لم يكنْ موجَّهاً سوى إلى الأبرياء، فالمتحاربونَ متفاهمونَ، متفاهمونَ في تقاسم الغنائم التي يكسبونَها منَ الشّعب، وفي توزيع أموال تمويل حرب قذرة، والنّاسُ هم مَنْ يدفعونَ الأثمانَ الغاليةَ، حتّى المركب البحري المطاطي كانَ لَهُ نصيبٌ منْ أطفال وطني وشبابه ونسائه… آه يا وطني!
آه يا منتهى! لقد رحلت وأنت تسعفينَ الجرحى، لَمْ يرحموا فعلَك الملائكيَّ النّبيلَ، بل أحرقوا سيّارةَ الإسعاف بمن فيها وما فيها، ولم يبقَ منك شيء سوى الذّكرى. ذكرى إحدى وعشرينَ سنة عشْت فيها معنا.
في هذه الحرب، أقصدُ في هذا العقْد من الزّمن، يموتُ الأبناءُ ويبقى الآباءُ وبعضُ الأجداد، يعانونَ سَكَرات الفَقْد ولوعةَ الفراق.
يسألونَني: منْ أينَ آتي بالماء من أجل تحضير مشروب عرْق السّوس، وهم لا يدرونَ أنّني أقتصدُ في الشُّرْب، وأوفّرُ منْ ماء الشُّرْب المخصَّص لأهلي، وأسرقُ من حصصهم وأخبّئُ ما أخبّئُ في جرار خفيّة.
مرّةً أنقّي الماءَ الّذي يبيعُهُ بعضُ المستغلّينَ وهو مُشْبَعٌ بالطّين، أتركُ لنفسي كميّةً منهُ، أُرَقّدُها، وأصبرُ عليها أكثرَ منْ أربعة أيّام، ثمّ أعالجُها بما علّمَني إيّاهُ أبي وجدّي في تنقية المياه، ثمّ أنقعُ جذورَ عرْق السّوس فيها.
أحياناً يسرقُ مَنْ تبقّى من أولادي الصّغار، وهم ثلاثةٌ، بعضَ سائل عرْق السّوس، ولكن أرثي لحالهمْ، لأنَّ الثّلاثةَ يسرقونَ أقلَّ منْ كوب واحد، يتوزّعونَهُ بينَهم، أرثي لحالهمْ أنّهم لم يرووا عطشَهُمْ، ولكنْ لا حيلةَ لي معهم، فالبحثُ عَن لقمة تسدُّ جوع أهمّ.
أجوبُ المدينةَ، أبحثُ عَنْ بقاياها، وإذا بي أجدُ أنَّ بقايا الذّاكرة أكثرَ بكثير من بقايا الواقع، أرشفُ آخرَ رشفة بقيتْ في صنبور السّوس، وأنا أترحّمُ على وطن سينهضُ منْ جديد، وطن لَنْ يموتَ، لأنّنا لا نرضى لَهُ أنْ يميتَهُ الجبناءُ والفاسدونَ. فنحنُ أبقى منهم.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”