fbpx

تربية العنف وحقوق الإنسان

0 132

يأتي الإنسان إلى الدنيا عارياً، يستقبلها بصرخة، هل هي طلب لنجدة أم احتجاج على واقع مجهول، وحياة منتظرة لا يعرف كيف يواجه فيها المتاعب، والمصاعب، والعوائق التي تعترض سبيله.

يجمع العلماء على أن الطفل يولد طاهراً، نظيفاً، خيّراً بطبعه الإنساني؛ لكنّ البيئة المحيطة به، والمجتمع يؤثران عليه، ويكون لتأثيرهما الدور الأكبر في توجهاته نحو الخير أو السير في دروب الضلالة.

في عالمنا اليوم، وقبل ذلك بعقود وقرون، ومع النهضة الأوروبية، وانتشار استعمار دول أوربا لبلدان كثيرة في أفريقيا، والأمريكتين، وآسيا، وأستراليا احتاجت في التوسّع إلى قوة عسكرية، واقتصادية لتستطيع الهيمنة على العالم الذي اجتاحته عساكرها، ولتوطيد أقدامها ونهب خيرات، وثروات تلك الدول اعتمدت أساليب عنفية شتّى وبأشكال متعددة.

ومع بداية القرن العشرين، واشتداد التزاحم على غنائم المستعمرات، وازدياد حدة التناقض بينها وقع العالم فريسة للحرب العالمية الأولى، ولم تشكل الصحوة الأولى لتشكيل عصبة الأمم حداً لنشوب الحرب بعد عقدين، فاشتعلت الحرب العالمية الثانية، وشعر العالم كله بالمأساة الكبرى لنتائجها المدمرة للإنسان، والبيئة، والحضارة الإنسانية؛ فكانت الدعوة لإنشاء هيئة الأمم المتحدة، الذي حدد ميثاقها في ديباجته حرص الدول الأطراف فيها على تجنيب الأجيال المقبلة ويلات الحروب، ودعت إلى الإخاء، والتسامح، والصداقة واحترام الكرامة الإنسانية، والعمل على تحقيق العدالة والمساواة في جو من الحرية بعيداً عن استخدام القوة، وأيّدت ذلك في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، والعهدين الدّوليين الخاصين بحقوق الإنسان المدنيّة والسّياسيّة وبالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة 1966)، وما تلاها من عهود ومواثيق دولية.

لكن هل حققت الدول الأطراف، خاصة الدول الكبرى، هذه الدعوة، وعملت فعلاً وبجدية على نشر ثقافة حقوق الإنسان، والسلام والأمن الدوليين أم أنها استغلت قوتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية لتربّي أجيالاً على العنف، وتبرمجهم، وتهيئهم للقتل دونما رحمة؛ ولنا في قصة الجندي الأمريكي فارناردو سيمبسون خير دليل:

حكاية وأمثولة*

فارناردو سمبسون، جندي أمريكي شارك في حرب فيتام يروي حوادث جرت في عام 1968:

” كنت أبلغ من العمر 19 عاماً حين ذهبت إلى فيتنام بصفة جندي رامٍ متخصص من الفئة الرابعة. لقد دُرِّبتُ لكي أقتل. ولكن قتلَ إنسان بالفعل أمرٌ یختلف عن عالم التدرب ومجرد الضغط على الزناد. لم أكن أعرف أنني سأقوم بهذا الفعل. كنت أعلم أنه سيكون هناك نساء وأطفال ولكنني لم أكن أعلم أنني سأقوم بقتلهم حتى حدث ما حدث. لم أكن أعلم أنني سأقتل أي أحد. لم أكن أرید أن أقتل أي أحد. لم أُربّى لكي أقتل.

كانت تركض بموازاة صف من الشجر تحمل شيئاً، لم أكن أدري إذا كان سلاحاً أو شيئاً آخر. كنت أعرف أنها امرأة، ولم أكن أرید أن أطلق النار على امرأة، ولكنني أُمِرتُ بأن أفعل؛ ففعلتُ.. عندما قلبتها وجدتُ أنها كانت تحمل طفلاً. لقد أطلقت عليها النار نحو أربع مرات واخترقتها الرصاصات وقتلت ابنها. وقلبتها ورأیت أن نصف وجه الطفل قد اختفى. ارتعبتُ.. لقد دُرِّبْتُ وبُرمِجْتُ لكي أقتل وها قد بدأت بالقتل”.

هذه الحادثة تلقي الضوء على طبيعة برمجة الجنود وتهيئتهم للصراع الدامي في الحروب. هذا شاهد حي على تربية العنف، فهل بعد ما يقال غير ما قاله فولتير: “إن الذين يجعلونك تعتقد بما هو مخالف للعقل قادرون على جعلك ترتكب الفظائع”؟!.

وها نحن نرى، اليوم، بأمّ أعيننا كيف تُرتكب الفظائع يومياً ضد الإنسانية في مناطق عديدة من عالمنا دونما رادع أخلاقي أو وازع من ضمير. كل ذلك يدعو للتساؤل أين الأمم المتحدة؟ وما دورها حقاً في تطبيق الاتفاقيات الدولية التي تحد من انتشار الأسلحة الفتّاكة والدول الكبرى في سباق محموم لامتلاك الأكثر تدميراً وفتكاً؟!!


* كتاب فهم حقوق الإنسان، (حقوق الإنسان والنزاعات المسلحة ص 344).

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني