fbpx

العجز عن الكتابة

0 430

ما من أحد يستطيع أن يجيب عن السؤال بدقة: من أين تأتي للشخص موهبة الكتابة؟ أقصد الكتابة بوصفها إبداعا. والكتابة بوصفها إبداعا هي نوع من التعبير عن الذكاء العقلي والعاطفي العالي الذي توافرت له شروط أسرية واجتماعية وتعليمية، لكنّ قولا كهذا عام جدا لا يجيب عن سؤال مصدر الموهبة في الكتابة الإبداعية. ماذا يعني العجز عن الكتابة بوصفها إبداعاً؟ متى نقول عن شخص ما إنه عاجز عن الكتابة. الإنسان العادي ليس موضوع السؤال. فالعادي يكتب ولكن لا قبل له بالكتابة، فليس كل ما هو مكتوب كتابة. العاجز عن الكتابة هو شخص من شأنه أن يكون كاتباً بسبب انتمائه إلى عالم الكتابة، ولَم يستطع أن يكتب، وإن كتب فإن ما كتبه لا ينتمي إلى عالم الكتابة.

دعوني أعرّف الكتابة بأنها كلام مسطور غير معروف وغير مكرور وغير مألوف، ويتمتع بقيمة معرفية وجمالية. فكل صنوف الأدب والفكر والفلسفة كلام مسطور. ولهذا يظهر العجز عن الكتابة في الكلام المكتوب.

ولما كانت الكتابة كلاماً مسطوراً بالمعنى الذي أشرت إليه سابقاً، فهناك ضرورة للجواب عن سؤال الكلام. إن الجواب عن سؤال ما الكلام؟ جواب عن السؤال ما الكتابة؟ بل لا يمكن فض فكرة العجز عن الكتابة دون الجواب عن سؤال: ما الكلام؟.

يميز الثعالبي في كتابه “فقه اللغة” بين القول والكلام، فالقول يمكن أن يكون قولاً ذا معنى أو قولاً بلا معنى، فقولنا الدكتاتورية مدمرة للأوطان قول ذو معنى، أما قولنا الحجر كائن حي فهو قول بلا معنى خارج البلاغة الأدبية. فيما الكلام قول يفيد المعنى.

ونحن نضيف: بأن الكتابة إما أن تكون قولاً أو كلاماً، وفي كل أحوال الكتابة من النادر أن يُكتب نص خالٍ من المعنى، فكل النصوص المكتوبة يجب أن تنطوي على معنى، ولكن هناك فرق بين المعنى الوليد الجديد غير المعهود، والمعاني المكرورة المبتذلة. والمعاني إما أن تكون واضحة، أو أن تكون غامضة. لكن الغموض في النص لا يعني خلو النص من المعنى، بل يعني أن المعنى ثاوٍ وراء النص. أما النص الخالي من المعنى فهو كقولنا الحجر كائن حي. والمعنى كلام مفيد يستطيع السامع والقارئ أن يفهما مقصوده، سواء جاء الكلام نصاً جمالياً أدبياً أو جاء نصاً فكرياً أو نصاً علمياً.

الكلام في العربية لا يعنى المنطوق فقط، بل المكتوب والمنطوق. فلا فرق عند العرب بين كلام الله وكتاب الله. وتقول العرب وقرأ كلمته. وقد سُمي الخطاب كلمة. وكلام العرب لغة العرب ولسان العرب. وعندي بأن كلمة لغة، بمعنى الكلام، كلمة واردة للعرب من أهل اليونان، فاللغة جاءت من اللوغس.

وفي حدود علمي بأن هذه الكلمة -لغة- لا وجود لها في الشعر القديم، ولا في القرءان (القرآن). بل إن كلمة لسان تعني اللغة، وبالمناسبة، حتى في اللغة الروسية الكلمة الدالة على اللغة هي اللسان.

والكلام أيضاً هو المنطق، فالكلام والمنطق مترادفان: علمه منطق الطير. ولهذا سمت العرب الاشتغال بقضايا الترسيمات الدينية الإسلامية كصفات الله وأفعال الإنسان والجزاء والثواب والحسن والقبح بعلم الكلام.

والكلام بعامة، سواء كان مكتوباً أو منطوقاً، ولمن لا يعلم، على أنواع أربعة:

  1. كلام مألوف معروف مكرور، ومعناه مباشر. وهو الكلام الضروري للحياة العملية، ولا يحتاج إلى تأويل وتأمل. وهو الكلام الذي عليه أكثر الخلق. يتكون من الجمل المفيدة الإخبارية، وأفعال الأمر. وهذا الكلام ما تواضع عليه الناس. فالجو بارد، والحرارة مرتفعة، وأغلق الباب، وما هذا الشيء وما سعره إلى آخره. هذا النوع من الكلام المنطوق، قد يكتب في رواية، أو في قصة قصيرة، أو في مقالة صحفية. ولكن هذا المكتوب بمفرده ليس كتابة إلا إذا جاء في سياق نص روائي.
  2. كلام المتعة ذو القيمة الجمالية المعرفية. وهو كلام الأدب في كل صنوفه المعروفة. وهو كلام المبدعين. وصناعة هذا الكلام وقفز على وقلة وقليلة من المبدعين. وجمهور هذا الكلام قليل جداً. ومثلب هذا النوع من الكلام يكمن في اقترابه من المألوف والمعروف والمكرور والمباشر.
  3. الكلام القول الخالي من المعنى. لأنه كل كلام قول وليس كل قول كلام. فالكلام حصراً ما له معنى. أما القول فما له معنى وما ليس له معنى. والقول الخالي من المعنى غياب التطابق بين ما في الأذهان وما في الأعيان. وينتمي الخطاب السياسي والأيديولوجي العلني في الدول الاستبدادية وجماعاتها إلى هذا الصنف من القول. وهو كلام ممجوج لا قيمة عملية ومعرفية له.
  4. الكلام المعني غير المعروف وغير المألوف وغير المكرور. وهو كلام العلوم والفكر والفلسفة. وهذا الكلام يحتاج إلى تأمل ونظر وقراءة وتأويل وتفسير. وهو كلام تعافه العوام، لأن وعيها بالمألوف لا يقدر على فهم الجديد. يساعدنا هذا التحديد للكلام على تصنيف الخطابات كلها.

فالخطاب الطبي، مثلاً، ينتمي بالضرورة إلى الكلام المفيد ذي المعنى غير المألوف، حتى ولو أثبتت التجربة خطأ بعض الأحكام الطبية. لأن الخطأ الطبي ليست مقصوداً، فالحقيقة الطبية – البيولوجية حقيقة علمية متطورة متغيرة وفق جهود المجمع الطبي العلمي. وهو خطاب يسعى لمطابقة ما في الأذهان مع ما في الأعيان. لا ينفي هذا التحديد المجرد من الكلام التداخل والاختلاط بينها رغم الاختلاف.

 نستطيع أن نتحدث عن صور العجز عن الكتابة عند عدد كبير ممن يُظن بهم أنهم قادرون عليها، فلقد وُصف أستاذ الفلسفة الجامعي القدير جداً، وصاحب أحد أهم الرسائل الفلسفية التي نال بموجبها درجة الدكتوراه من سويسرا بديع الكسم بأنه الفيلسوف الصامت، ولا أحد يدري كيف يمكن وصف المرء بفيلسوف إذا كان صامتا، فهو ما خلا رسالة الدكتوراه هذه وبعض المقالات النادرة، انقطع عن الكتابة حتى رحيله. وعندما سألته “لماذا لا تكتب؟”، أجاب “لمن أكتب؟”، طبعاً لم يقنعني جواب كهذا، فالكتابة هاجس داخلي لا يستطيع أن يبقى مأسورا في عقلٍ صامت. لكن ما كتبه قبل الصمت كان عظيماً.

وقس على ذلك حال الأستاذ الجامعي والصديق نايف بلوز، فقد كان هذا الأستاذ القدير جدا أيضا ذا قدرة شفاهية عجيبة على عرض الأفكار وإنجاب القناعة بآرائه، فضلا عن معرفته الواسعة والعميقة بتاريخ الفلسفة ومشكلاتها، وهذا يعني أن توافر المعرفة والاطلاع والقدرة الشفاهية على عرض الأفكار لا تنتج قدرة على الكتابة، أو إن أنتجت الكتابة في مرحلة لا يعني أن يستمر صاحبها، فقد يصيب الكاتب عقم لاحق.

وهناك نمط من العجز عن الكتابة هو الكتابة التي لا قيمة معرفية أو جمالية لها، وهي كتابة غالبا ما تكون نوعا من التقميش من هنا وهناك، وعرض نصوص في كتاب، أو الاتكاء عليها لإنتاج كتاب مليء بالإحالات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والمنتمون إلى هذا النمط يعانون من شهوة الحضور عبر الكتابة ويمارسونها دون أن تتوافر لديهم العدة الضرورية: المعرفة والموهبة، وهؤلاء جمع كثير.

وهناك العجز عن الكتابة الذي يظهر في صورة الاتكاء على نصوص الآخرين والقيام بعملية عرض ونقد وشجار دون إضافة أيّ فكرة مضيئة أو إغناء مفهوم وتوسيع دلالاته أو إعطائه دلالة جديدة.

ويقود الطابع السجالي والشجاري هؤلاء إلى شهرتهم لدى الجمهور العام المولع عادة بالمعارك بمعزل عن وجاهتها.

إن الصنف الأوسع من جنس العجز عن الكتابة هو الكتابة التي ينشغل أصحابها باليومي المبتذل والتي لا يتجاوز عمرها اليوم التالي لظهورها، أو كتابة من يتناولون بالقدح والذم هذا أو ذاك، أو من يمدحون طمعا في مصلحة ما، وهؤلاء تمتلئ بهم الصحف اليومية عادة فهم عدتها الضرورية لملء الصفحات.

وهناك الكتابة الاستظهارية، وهي مظهر فاقع على عجز الكتابة، ونماذج هؤلاء الكتاب من شيوخ الدين بعامة الذين يكررون قولا مكررا لمئات السنين، أو كتاب التراث الذين ازدهروا في مرحلة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. والنوع الأخير من عجز الكتابة هو الذي يمكن تسميته بالكتابة الإملائية، وهذه الكتابة المباشرة التي تمليها الأحداث على الكاتب، فينقلها دون إحداث أيّ أثر فيها، وغالبا ما يكون بعض كتاب القصص والروايات نماذج واضحة لمثل هذه الكتابة الإملائية، وهو ما أطلقنا عليهم في مقال سابق كتاب السوالف.

وإنها لمفارقة أن تكون الكتابة تعبيراً عن العجز عن الكتابة، وغالباً ما يكون العاجزون عن الكتابة ذوي نزعة عدوانية تجاه نقائضهم من الكتاب، إلاّ ما ندر. إن العجز عن الكتابة هو النقيض الكتابة المغامرة المبدعة.

يفيدنا القاموس في شرح معنى الفعل (غامَر)، بما هو آتٍ: غامَر أي رمى نفسه في المخاطر غير مبالٍ، خاطر بنفسه، اقتحم المجهول.. والكلمة في تواضع الناس: المغامر هو الذي يقتحم الخطر، بكل شجاعة غير هيّاب من النتائج؛ ففي المغامرة شجاعة وإقدام وفروسية ومواجهة، وقد يستخدمها الهامشيون في الحياة، بمعنى الذمّ للآخر، إذ تفيد عندهم التهوّر وغياب رجاحة العقل.

الكتابة مغامرة في اقتحام عالم اللغة؛ لتصنع منها نصاً ينطوي على قيمة معرفية أو قيمة جمالية أو قيمة معرفية جمالية، على نحوٍ يعتقد صاحبها أنّ ما تفتّق قلمه عنه حالٌ جديدة.

إذن، الكتابة المغامرة هي في إنتاج ما ليس بمألوف، في حين كل كتابة مألوفة هي استظهار لما خطّته الأقلام في قاعة الدرس، حتى لو لم تكن عن ظهر قلب، أو بتصرف. ولكن الكتابة اللامألوفة هي التي تتوحد فيها القيمة الجمالية والمعرفية أو إحدى القيمتين.

ولا ينتج كلام الكاتب المغامر، حين يُنتج ما ليس مألوفًا، من وهمٍ وفصامٍ ما، بل من ثقافةٍ تراكمت لديه، ورأى انحيازه عنها وتجاوزه لها، أو إثراء قضية من قضاياها، وهذا ما يُشار إليه بالمبدع؛ فالإبداع في الكتابة نصّ فذ.

دعونا من الكتابة – اللغو بكل أنواعها المنتشرة الآن في (تويتر) و(فيسبوك) أو المواقع الإلكترونية الأخرى، والتي هي نماذج عن العجز عن الكتابة لدى بعض الكتاب.

الكتابة المغامرة – بالمعنى الذي أشرت إليه آنفًا – كتابةٌ قليلة، بالقياس لما يُكتب، وليس من العقلانية في شيء أن نطلب من جميع الكتاب أن يكونوا مغامرين، وآيَة ذلك أن الأسوياء من الناس يُشكّلون الأكثرية، فيما هناك أقليتان لاسويّتان: المبدعون من جهة، والحمقى من جهة ثانية؛ وعليه فإن الأسوياء هم كتّاب التسلية والتناصيون، وراصدو الأحداث والمُعلّقون.

فيما المغامرون من الكتّاب هم كتّاب الفكرة في إهابها الأدبي أو الفلسفي، وهؤلاء أسماء لا تبلى، واستمرار أثرهم لا ينقطع غالبًا، فما زالت النخبة العربية الأدبية تعود إلى المعرّي باحثة عما وراء نصوصه، وحملة شهادة الدكتوراه، بفضل رسائل عن المعري، لا يُحصون، وقس على ذلك المتنبي، وابن رشد، وما شابههم من العبقريات.

ولا يحسبن أحد من القرّاء الكرام أنّ اتساعَ الجمهور المعجب بكاتب من الكتّاب، معيارٌ لقياس عبقرية الكاتب؛ لأن الجمهور الواسع، بما ينطوي من ثقافة عامة، يحبّ المألوف من الكلام والمعروف من الأفكار، وما يوافق هواه من المواقف.

فقصائد شاعر بالعامية الجمهورية الممتلئة بالعبارات البذيئة الشاتمة والهزلية، والتي يحفظها الجمهور عن ظهر قلب، لا تجعل من شعريته ذات شأن في تاريخ الشعر العبقري، من حيث القيمة الجمالية والفكرية، فيما قصيدة الشابي التي كتبها وهو ابن الأربعة والعشرين ربيعًا: “حوار مع الله” قصيدةٌ من الأوابد، تتجلى فيها سمات الكتابة المغامرة، وشتان ما بين قصيدة (الطلاسم) لإيليا أبي ماضي وقصيدتي الجواهري في مدح الحسين بن طلال وحافظ الأسد.

في الأولى، أنت الطلاسم أمام قول يأخذك إلى كل أسئلة الوجود والمعرفة والشك، في إهاب من اللاأدرية التي تجعل السؤال مفتوحًا، وفي صور جمالية غير مألوفة، فيما أنت في الثانية، أمام كلام مُكرّر موزون، يصل فيه الممدوح إلى حالة من النشوة لا يشاركه فيها المتلقي أو القارئ.

أما بعد: فإن المهجوس بالهمّ الكلي ليس بالضرورة أن يصدر عنه نص عظيم، فهذا أمر يعود إلى العبقرية، ولكن العبقرية لا تظهر إلا إذا كانت مهجوسة بهمّ عظيم، أما ما هو الهمّ العظيم؟

إنه الهم الوجودي، والهم الوجودي أن يتوحد الشخص بالهم الكلي توحدا يمنح الذات سعادة الشعور بالمعنى، معنى الوجود في العالم. إن تجد معناك في فاعلية حرة مساهمة في صناعة الوجود كما يجب أن يكون يعني أنك وجدت مبررا لمعنى وجودك اﻵن. إنك وقد تحررت من اللامبالاة بالعالم وانخرطت في الهم الكلي، خبرت لذة السير على طريق الحرية ومتعة أن يكون لك ولو حجر صغير في بنائها العظيم.

الهم الكلي يصبح هماً فردياً ويرتفع حزنك الى أعلى درجات السمو على عذابات ومآسي بشر لا تعرفهم.

الكاتب المبدع هنا، وهو مندرج بالهم الكلي، تنتصر ذاتيته، لأن اندراجه حر ولم يحمله أحد عليه. وهذا أول انتصار يحققه المتمرد على الوجود المألوف.

بقي أن نقول: بأن جل العاجزين عن الكتابة عاجزون عن القراءة أيضاً، بل هم قراء عدوانيون تجاه الكتابة المغامرة.

فالعاجز عن الكتابة يتحصن بالمعايير المألوفة للكتابة، ومستبد به من قبل هذا الطاغية أو ذاك من طغاة الكتابة العبقرية. ولكي ينتقم من عجزه عن الكتابة يظهر ولاءه المطلق للمستبد الخاضع له، ويقيس على كتابته كتابة المبدعين المغامرين.

فالكتابة الجديدة المجددة غالباً ما تواجه من قبل العجزة بنوع من الرفض، وحجتهم المقارنة مع القديم. لقد عاش أبو تمام هذه التجربة في عصره مع العجزة، كما عاش نيتشة، مالئ الدنيا وشاغل الناس الآن، هذه التجربة. أجل: إن العاجزين عن الكتابة عاجزون عن القراءة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني