fbpx

التسامح والاختلاف

0 273

الاختلاف – الذي أقصد في خطابي هذا – درجة ما من عدم التطابق بالآراء والأفكار والمعتقدات بين البشر. إنه تنوع في المصالح غير المتساوية، بل وتناقض في المصالح، إنه – أي الاختلاف أخيراً – تنوع في الانتماءات الإثنية – القومية، والطبقية والدينية والإيديولوجية داخل الوطن – المجتمع، وعلى مستوى البشرية.

وإن كل تضاد وتناقض وصراع هو اختلاف بالضرورة، ولكن ليس كل اختلاف هو بالضرورة تناقض وتضاد وصراع.

يصل الاختلاف إلى حد التناقض إذا ما تحولت المصالح إلى أسباب صراع. ويصل الاختلاف حد الصراع إذا ما قررت جهة من جهات التناقض أو كلاهما حسم التناقض واقعياً. فيكون حل الصراع عن طريق الغلبة، ولا يصل التناقض حد الصراع إلا إذا تحول إلى واقع موعىً به.

وأخطر ما يواجه الاختلاف كحالة معيشة هو التعصب، والذي هو حالة وعي بالآخر، وموقف من الآخر، يقومان على تبنٍ أعمى لفكرة ما؛ تصل درجة اليقين المطلق، وينظر على أساسها للآخر المختلف على أنه انزياح عن جادة الصواب أو إصدار حكم قيمة سلبية، يقود إلى نفي الآخر بكل أشكال النفي.

فالاختلاف الذي يأخذ صيغة أيديولوجية نافية لحق الآخر – هو التعصب في حقيقته، والاختلاف وهو يأخذ الصيغة التعصبية، أي حين تتحول العصبية – أية عصبية – إلى تعصب، يغدو الحقل الذي ينفي فيه المتعصبون بعضهم البعض، نفياً يصل حد القتل.

وهذا يعني أن كل عصبية مهما كانت: قبيلة دينية، سياسية، طبقية، قومية، مناطقية، عرقية، حين تصاغ في أيديولوجيا نافية للآخر، هي عصبية تعصبية. وهذا مظهر فاقع من مظاهر العداء للأنسنة.

وأهم مظهر من مظاهر الأيديولوجية التعصبية، سلوكاً أو فكراً، غياب أي منطق عقلاني في التعامل مع الآخر، وبالتالي غياب أي مظهر من مظاهر التسامح مع المختلفين؛ بل قل غياب التسامح غياب للعقل بالضرورة.

والتسامح مفهوم يدل على موقف من الآخر، مؤسس على حق الآخر بالحرية أولاً، وعلى حق الآخر بارتكاب الخطأ على أنه صواب ثانياً، وعلى حق الاختلاف أصلاً.

التسامح إذاً تعين لعلاقة بين المختلفين، الذين يعيشون في حقل علاقات معشرية، أو سواها. إنه وعيٌ ما بالآخر، إنه موقف من الآخر، إنه سلوك تجاه الآخر.

لنعين تعييناً أغنى هذا المفهوم – التسامح الذي هو تعيين لحالة من حالات الاختلاف.

فالدين مثلاً عصبية ما تربط بين أفراد يعتقدون اعتقاداً جازماً ببعض الترسيمات المعتقدية، والتي تصل حد التقديس. ينطوي الواقع على تعدد أديان، وعلى تعدد شيع داخل الدين الواحد، أي على تعدد عصبيات. والتعصب الديني تحول العصبية إلى أيديولوجيا تعصبية نافية للآخر، وقد تكون المسألة كلها توظيف ديني لأهداف دنيوية ليس إلا.

الأنسنة، في حقيقتها، تتعين هنا في مفهوم التسامح بين الأديان والتعايش بين أصحابها، إذ لما كان من المستحيل أن تعتقد أية فرقة دينية بمعتقدات فرقة أخرى، أو لما كان من المستحيل أن يرضى دين بترسيمات دين آخر، ولما كان من الصعب أن يقوم حوار أي حوار ذي نتائج لإقناع طرف بمقدس طرفٍ آخر، فليس هناك إلا خيار وحيد، هو التعايش بين البشر، وما التعايش هنا، إلا الإقرار بحق الإنسان بالاعتقاد دون إكراه.

وتظهر أهمية مفهوم التسامح؛ بوصفه مفهوماً أصيلاً من المفاهيم الدالة على الأنسنة في العلاقة مع الماضي. فتوزع الناس في مشاربهم انطلاقاً من صناعة الماضي لهم حالة طبيعية، أما أن يتحول هذا الماضي إلى أساس لوعيهم المعاصر بالعالم، فتلك كارثة، تعبر عن مجتمع راكد. ذلك إلقاء المسؤولية على العائشين بأنهم جزء من صنّاع صراعات الماضي أمر مناقض لجوهر الأنسنة التي هي صناعة الحاضر دون توقف عند الماضي. فيغدو الذين لا دخل لهم في صناعة أحداث الماضي عرضة للانتقام أو الثأر؛ وكأن الزمن قد توقف في لحظة لا سبيل إلى تجاوزها، أو أن الماضي قد وهب الناس هوية ثابتة لا سيبل إطلاقاً لتغييرها، والتسامح مع الماضي تحرر منه، وشرط أساسي لصناعة الحاضر والمستقبل، وشرط مهم لإقامة علاقات معشرية منطلقة من مفهوم الإنسان الذي هو أساس النزعة الإنسانوية.

والأنسنة لا تنطلق من أن التسامح مفهوم أخلاقي فحسب، وإنما هو مفهوم سياسي، يؤسس لدولة التسامح، حتى ليمكن القول بأن الدولة الإنسانوية، أو أنسنة الدولة لا تقوم إلا بقيام دولة التسامح.

ودولة التسامح ليست هي التي تسن قانوناً للتسامح، بل تلك التي يتأسس قانونها على الحق والحفاظ على الحق والتساوي في الحق. والحق المجرد لا قيمة له، لا قيمة له إلا في تحقيق دولة الحق، أي إلا في تعينه واقعياً.

ولا تعين واقعياً لدولة الحق إلا بالتعين الواقعي لمفهوم الحرية تعيناً سياسياً واجتماعياً وثقافياً. وعندي أنه لا يمكن أن يتحقق مفهوم التسامح واقعياً إلا بتلازم فكرتي الحق والحرية، وكل اعتداء على الحق والحرية متلازمين هو نسف كامل لمفهوم التسامح، وبالتالي تحقيق المفهومين الأساسيين للأنسنة – الحق والحرية.

الأنسنة والدولة المدنية:

الدولة المدنية كسمة من سمات النظام السياسي تحقق واقعي للأنسنة، لأن الدولة المدنية هي تأكيد حق حرية الاعتقاد دون أية سلطة تفرض الاعتقاد، أو تنفي شكلاً ما من أشكاله، والعلمانية إذ تتعين واقعياً بنظام سياسي فإنها تتحول مع الأيام إلى ثقافة موضوعية، وعليه تصير الأنسنة ثقافة بوصفها – أي هذه الثقافة – نمطاً للوجود الإنساني.

إذاً المواطنية هي دولة ديمقراطية بالضرورة. عندها فقط يتعين الشكل الأرقى للأنسنة بالمعنى السياسي. الديمقراطية بما هي حالة سياسية مجتمعية ثقافية أخلاقية. وبما هي حالة تقف ضد كل من ينال من الكرامة والحق والحرية. ولا يستطيع أي مجتمع أن يجعل من الأنسنة نمط وجود إلا إذا تحول إلى قوة رادعة لأية قوة تمارس نفس الحق سواء كانت قوة السلطة أو قوة رأس المال أو أية قوة أخرى.

هل يمكن القول بعد هذا بأن الأنسنة هي جوهر الحداثة؟ الجواب هو إن الأنسنة مفهوم يتضمن الحداثة، ولكن قد تكون الحداثة في بعض جوانبها لا إنسانوية. وهذا موضوع يحتاج إلى نظر مستقل.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني