
الأخلاق الثورية
هل هناك أخلاق ثورية؟ فرضيتنا التي نحاول التدليل عليها نعم إن هناك أخلاقاً ثورية، بل لا ثورة بدون أخلاق ثورية. وزيادة في تأكيد الترابط بين الثورة والأخلاق الثورية نقول: لا انتصار للثورة بلا أخلاق ثورية.
تأسس الأخلاق الثورية على مجموعة الأهداف التي انفجرت من أجلها الثورة من جهة والوسائل اللازمة لتحقيق هذه الأهداف.
الثورة بما هي تجاوز كيفي أعلى للواقع فإنها في الوقت نفسه تجاوز كلي، تجاوز مادي ومعنوي، تجاوز من شأنه أن ينجز القطيعة مع عالم صار تعذيباً للحياة وللأحياء.
لو أخذنا ثورات الربيع العربي من الثورة التونسية إلى الثورة السورية سنجد أنفسنا أمام جملة من الأهداف الثورية: الحرية والتحرر والكرامة الإنسانية والإنصاف الإجتماعي والسياسي وقيام الدولة الديمقراطية عبر عقد وطني جديد يؤسس للشرعية المجتمعية للسلطة.
هذه هي الأهداف الأساسية للثورة
في النظر إلى هذه الأهداف من الزاوية الأخلاقية نحصل على عالم من القيم جديد كل الجدة ومختلف عن عالم القيم الذي عممته السلط المستبدة والفاسدة. فالحرية والكرامة والإنصاف والشرعية هي مجموعة قيم لا يمكن النهوض بتحقيقها دون أن تتحول إلى قيم جماعية، قيم للجماعات الثورية، قيم عملية متحققة في الممارسة الثورية.
ولا شك أن تعميم هذه القيم على المستوى الفردي بقدر ما هو ضروري ومهم لانتصار الثورة بقدر ما هو أمر صعب التحقق بعد سنوات من الانحطاط الأخلاقي وتحطيم عالم القيم الإيجابية، والحق أن الثوريين، هم من حيث المبدأ، جماعة تتمتع أو يجب أن تتمتع بأخلاق ثورية، بالقيم التي ثاروا من أجلها ومتجاوزين للقيم البائدة التي ثاروا عليها.
سواء كانوا نخبة سياسية أو نخبة ثقافية أو مقاتلين ثوريين أو جمهور ثوري أو متعاطفين ثوريين. ولا يمكن للقيم الثورية العامة أن تجد طريقها الى الحياة إلا عبر قيم سلوكية، أهمها: الزهد الثوري. والزهد الثوري، وبخاصة، زهد النخبة السياسية الثورية، هو التعفف عن أية مصلحة مادية أو معنوية سوى المصلحة الكلية للثورة. الزهد الثوري تعني الزهد بكل ما من شأنه أن يشرخ صورة القائد الثوري أمام الشعب وبخاصة أمام الجماعة الثورية. ومن حق النخبة الثورية أن تعيش ولكن ليس من حقها أن تفسد وتثري، وإلا حطمت معيار الثورية. فمازالت صورة جورج حبش لدى الفلسطيني حاضرة في الوجدان بوصفه أنموذجا للزهد الثوري.
بل إن عبد الناصر، رغم كل دكتاتوريته، أحبه الناس لزهده، وحماه زهده بعد رحيله. والنقاء هنا سلاح ماض في إنجاب العصبية. وفي اللحظة التي يتحدث فيها الثائرون عن فساد ما فإن هذا نذير شؤم ونذير ضعف العصبية الثورية. فالزهد الثوري هو نقيض الفساد السلطوي، وليس يختلف فساد الثوريين عن فساد السلطويين.
ولا يتوقف الزهد الثوري على الزهد بالمادة والثروة فقط، بل ويمتد ليشمل الزهد بالسلطة. فالتحارب من أجل السلطة، التي هي بحد ذاتها مطلب عزيز، يضعف هيبة النخبة الثورية ويؤجج الصراعات اللامثمرة والزائفة مما ينسي الثائرين الهدف السائرين من أجله.
أما القيمة التي تساوي قيمة الزهد من حيث الأهمية فهي قيمة الاعتراف المتبادل بين قوى الثورة وأفرادها. فالاعتراف المتبادل يحول الاختلاف إلى عنصر قوة والحوار إلى وسيلة اتفاق والعمل المشترك إلى واقعة مثمرة. لا تعرف أبدا أخلاق الثورة فكرة الإقصاء لقوى ثورية من قبل أخرى. وما شيوع ثقافة الإقصاء إلا استمرار لأخلاق الاستبداد.
والاعتراف المتبادل يعني وحدة المصير المشترك وخلق العصبية الثورية بين المختلفين بالوسائل الثورية. فوحدة الهدف العام لا تلغي اختلاف الوسائط. وهذا حاصل في كل تجارب الثورات. فضلا على ذلك فإنه حتى لو ظهر خلاف ما ووصل حد استخدام السلاح فيجب ألا يكون هذا سببا لإلغاء الاعتراف. وإلا تشتت الشمل ووهن الملاط.
والاعتراف المتبادل ليس منة من طرف على طرف، بل هو أس الصفات الثورية والوصول إلى وحدة الإدارة الثورية، هذا هو معنى الجبهة، والتكتل، والائتلاف، والتجمع وما شابه ذلك من أسماء تدل على اتحاد المتوحدين هدفا والمختلفين واسطة.
والاعتراف كما هو مطلوب بين التنظيمات الثورية مطلوب أيضاً بين الأفراد، وقد تشهد الثورات ظهور أفراد من المشتغلين بالمعرفة ومندرجين بالأصل في عداد الأكاديميين الفقراء ثقافياً والمنعزلين عن هموم المجتمعات يتحولون إلى مخاتير جدد لمنح شهادات الاعتراف تكفيراً عن عزلتهم الماضية، وليس عزلتهم الماضية سبباً لعدم الاعتراف بهم، بل إن هويتهم الجديدة أمر محمود في انتقال الأكاديميين البؤساء، كما وصفهم ادوارد سعيد يوماً، إلى مثقفين.
واللغة الثورية صفة ضرورية من صفات الثائر، وهي اللغة المترفعة عن لغة الرعاع من العوام، فيأتي الخطاب منسجما مع عظمة الأهداف، خاليا من كل ما من شأنه إثارة الضغائن وردود الفعل الغريزية والثأرية. يجب تحرير الخطاب الثوري من لغة الجزار السلطوي ويستن لغة الإعلاء من شأن الإنسان كقيمة القيم. لابد من تحرير اللغة الثورية من لغة نفي المختلف في العملية الثورية. وإشاعة لغة العقل والعلاقات المعشرية.
وأما الصفة الأخلاقية ذات الطابع النفسي المميزة للثائر فهي صفة التفاؤل وبخاصة لدى منتجي الخطاب الثقافي الثوري. فبث الأمل بتحقيق أهداف الثورة لا يقل أهمية عن السلوك العملي. وبالعكس إن إشاعة اليأس طعنة نجلاء في ظهر الثورة.
ولعمري يجب إنتاج خطاب واضح حول الأخلاق الثورية في إطار نهوض قيمي بديل.