fbpx

أحمد برقاوي: حين يختلط الدين بالسياسة يخلق سلطة أشدّ فتكاً.. الوجود الصهيوني العنصري في فلسطين مؤقت وزائف

0 112

هدى سليم المحيثاوي

الفيلسوف أحمد نسيم برقاوي، المولود عام 1950 لأبوين فلسطينيين، صاحب تجربة فلسفية انشغلت بدراسة قضايا العالم العربي ومشكلاته، بدءاً من علاقة العرب بالفلسفة، ليغوص بعدها في أسئلة فلسفية أكثر تجذرا في العمق الفلسفي، كسؤال “الأنا” الذي شغله عميقا وخاض في شروحه حتى لُقب بفيلسوف الأنا، وبعد الكثير من المؤلفات والشروح أصدر أخيرا كتابه “الكينونة المعتمة” ليخوض من خلاله في سؤال “ما الشر؟”.

بإشرافٍ منه، تأسس “بيت الفلسفة” في إمارة الفجيرة في دولة الإمارات العربية المتحدة. هنا حوار “المجلة” معه.

بداية، ألا نزال في حاجة إلى الإضاءة على ضرورة الفلسفة، وما هذه الضرورة كما تراها؟

إنه لمن نافل القول الحديث عن ضرورة الفلسفة بعد مرور ألفين وخمسمئة سنة على ظهورها تقريبا، واستمرارها مبحثا يحتل مكانة مرموقة في عالم المعرفة في أكثر أحياء المعمورة. وما احتلال الفلاسفة المكان الأبرز من بين النخب المنتجة للثقافة الروحية والمباحث الإنسانية، إلا دليل على الحضور القوي للفلسفة في عالم الفكر والوعي، لكن غيابها عن مناهج التعليم الأساسي والجامعي في بعض البلدان يحملنا على استعادة القول بضرورة الفلسفة. وغياب الفلسفة في تشكيل آلية التفكير حرمان للعقل من أحد أهم منابع تعزيز قدرته على التحليل والتركيب والفهم والتفسير. الفلسفة، لمن لا يعلم، هي فن التفكير، هي فن فهم الواقع، فن اكتشاف السؤال الحقيقي، وكل ذلك على أساس مناهج التفكير العامة التي صاغتها الفلسفة وتصوغها. الفلسفة تعلمنا كيف نقرأ التاريخ، والظاهرة في تاريخيتها، وما المنهج التاريخي إلا البحث عن العوامل الفاعلة الموضوعية والذاتية وترابطها التي خلقت هذه الظاهرة أو تلك. الفلسفة تكشف عن بنية الظواهر ووظيفة كل عنصر فاعل في البنية، وتجعل من المنهج البنيوي وسيلة لفهم نشأة البنى الاجتماعية والسياسية والأخلاقية وتحولاتها وموتها..

كل سؤال متعلق بالوجود والمعرفة والقيم، بل كل سؤال متعلق بالواقع المعيش هو سؤال فلسفي

في العام 2000 أصدرت كتاب “العرب وعودة الفلسفة”، بين ذاك الوقت والوقت الحالي، كيف تُقيم حقل التفلسف في الواقع العربي، وهناك مَن ينكر وجوده أصلا؟

للجواب لا بد من إبراز معيار يحدّد لنا القول المنتمي إلى الفلسفة. كل سؤال متعلق بالوجود والمعرفة والقيم، بل كل سؤال متعلق بالواقع المعيش ويتحول الى مشكلة ويخضع للتفكير الذي ينتج نصا حول الماهية، هو سؤال فلسفي. من سؤال ما الإنسان إلى سؤال الحقيقة والحق والدولة والحرية والتأويل إلى الوجود الذاتي إلى البحث عن المعنى… وقائمة المشكلات تطول. لو تتبعنا الأسئلة التي انتصبت أمام العرب منذ عصر النهضة وتحولت إلى مشكلات لوجدنا أن جُلها قد دارت حول فكرة المصير والتاريخ والحرية والتقدم والهوية، وهذا يعني أنها مشكلات من حيث ماهيتها الفلسفية.

والحق أننا جميعنا، نحن العرب المشتغلين بالفلسفة، قد مررنا في مرحلة الخلط بين الأيديولوجيا والفلسفة، ولهذا ظل جل المفكرين العرب على هامش الفلسفة.

قبل كتاب “فلسفة الأنا” في 2005، كان هناك اتجاه مختلف كلية كمحور رئيس لانشغالاتك، تمثل بالفلسفة عموما أو علاقتها بالعرب، ما سبب هذه النقلة لتصبح الأنا مركز الانشغال لديك إلى درجة أنك أصبحت تُعرَف بفيلسوف الأنا؟

القول الفلسفي في “الأنا” هو وعي حقيقي بمشكلة الإنسان في العالم العربي، وقد يراه البعض قولا فلسفيا مجردا، وهو كذلك، لكن هاجسه الأساس هو الإنسان في علاقته بالتاريخ والواقع، فلا تصنع التاريخَ إلا “أنَوات” واعية لدورها في هذا العالم. الإنسان في العالم العربي لم يمُت، لأنه لم يعش كي يموت، ولم ينتهِ، لأنه لم يبدأ كي ينتهي، ولم يغب، لأنه لم يكن حاضرا كي يغيب. والانتصار للأنا دعوة إلى ولادة الإنسان، عندما تنتصر “الأنا”، بوصفها وعيا ذاتيا بالتفرد، يصبح تعدّد “الأنوات” دافعا لها في اتجاه صنع تاريخها الواعي، لأنها تكون قد وعَت حريتها في الفعل والممارسة والقول، فـ”الأنا” لا وجود لها خارج فعل الحرية.

لذلك يحول دون ظهور الـ”أنا” وولادتها في عالمنا العربي، ما أسميه النظام المتعالي على الـ”أنا”، هو نظام قامع يتكون من النظام السياسي الذي قام على الاستبداد العسكريتاري، تضاف إليه السلطةُ الدينية من أولئك الذين يُحصون سكنات الأنا وحركاتها، ويقيمون عليها حدود جهلهم. وحين يرتبط الدين بالسياسة، يخلق سلطة أشد فتكا.

أنطولوجيا الذات

بعد “فلسفة الأنا” عدت إليها، وبعد عشر سنوات في العام 2015 من خلال كتاب “انطولوجيا الذات”، لماذا هذه العودة، ما الذي تبقى وتريد أن تقوله في الأنا؟

الذات هي الأنا وقد انتقلت إلى الخارج، إلى الفعل، فتعينت بأشكال الكينونة الواقعية.العودة إلى الذات مواجهة مصيرية مع العقل التقني – الرأسمالي، مع العقل المصرفي – العولمي الذي لا يرى الإنسان ابنا للأم – الطبيعة. العودة إلى الذات ليست عودة رومانسية إلى الطبيعة، بل عودة إلى الطبيعة من أجل حمايتها من التدمير الإجرامي الذي يمارسه الرأسمالي والسلطة المدافعة عنه، ولهذا آنَ لنا أن ننتقل من حافة الفلسفة إلى الدخول في أتونها، متكئين على وعيٍ أوليّ بالفلسفة. ليست مهمةُ الفلسفة إضاءةَ الكهف وإبقاء الناس فيه، بل إخراج الناس من الكهف إلى الكينونة الحرة.

في “انطولوجيا الذات”، أحرر الذات من أسر الميتافيزيقا، فلقد عوملت الذات معاملة قاسية جدا حين نُظر إليها من زاوية ماهوية، وعوملت مثالا أفلاطونيا. الذات التي أُعيد إيقاظها من ذلك القبو المظلم الذي وضعها فيه تاريخ الفلسفة الملوث بالحتمية، أو ذاك الذي يراها بعيونٍ بنيوية فقط، هي الذات التي يرن صوتُها في أذني، وهي التي أسعى إلى أن أعيد إليها صوتها بعدما أصمتوها، أعيد إلى عقلها حق التفكير بعدما شلّوها، ثم أضع بيدها المرفوعة الشعلة بعدما رمدوها.

كينونة معتمة

عنونتَ كتابك الأخير، “الكينونة المعتمة”، حدثنا عن هذه الكينونة وهل الوجه الآخر هو كينونة مشرقة أو مضيئة؟

نحن أمام ثلاثة أشكال من معاني الوجود الإنساني: معنى وضيع، ومعنى سامٍ ولا معنى، لأن اللا معنى معنى. قد نجد هذه المعاني ظاهرة واضحة نظيفة لدى هذا الكائن الإنساني أو ذاك. وقد نجدها متداخلة في حياته، قد ينتقل الإنسان في شروط ما من معنى إلى آخر.

حين يكون وجودك الذاتي آمالا ضيقة وأنانية صرفة، فإن أناك -لا محال – منهزمة أمام الحياة المبتذلة وإغرائها، وحين يكون وجودك الذاتي آمالا عظيمة تنتصر على الوجود المبتذل، يصبح وجودك نموذجا مغريا، أما حين يكون وجودك بلا ملامح ولا آمال لديك أصلا، فيصير وجودك وحيدا منتظرا العدم.

أما في “الكينونة المعتمة”، فقد انتقلت من الشر المجرد إلى الشر المتعين في الذات. فليست الكينونة المعتمة إلا وجود الشر بوصفه نفيا للآخر بكل أشكال النفي، النفي عنفا وليس الاختلاف مع الاعتراف، فهل يكون الرد على الكينونة المعتمة بمثلها؟ يحملنا هذا السؤال على استعادة النظر في مشكلة القيم في واقع متعين جديد.

الهوية الفلسطينية ليست فكرة مجردة اخترعها الفلسطيني اختراعا، ولم يفتش عنها في ثنايا كتب أسطورية صفراء ولم يستقوِ بأحد من الخارج لامتلاكها

مشروع “بيت الفلسفة” في إمارة الفجيرة في دولة الإمارات وهو مشروع كبير ومهم بالطبع، وأنت عميد هذا البيت ولكن، ما الذي يميز هذا البيت، وإذا سألنا مجازا ما جدران بيت الفلسفة؟

الحق أقول لك، إن دلالة البيت هنا تشير إلى تلك العلاقة الحميمة التي تقيمها الكينونة مع المكان الأنسب لها، ألا وهو البيت. حين نقول بيت الفلسفة فنحن أمام فضاء واسع لأجنحة العقل أو للعقل المجنح، العقل الذي وحده يستطيع أن يدخل عالم الما وراء، وإذا كان هايدغر قد عرف اللغة ببيت الوجود، فإنه لا يسعنا إلا أن نقول بأن الفلسفة بيت العقل، فالعقل لا يعين وجوده الأبهى إلا بالفلسفة، كما يعين الوجود نفسه في اللغة، فهذا البيت نقيض تلك البيوت التي تسكنها الأشباح والأوهام والأخيلة الغبية والأجوبة الجاهزة، بل هو مسكن الأسئلة التي لا تكف عن التوالد، الأسئلة التي تختزن في أرحامها أجنة المفاهيم، وحين يولد المفهوم الكلي من الجواب الفلسفي يحتفل العقل بذاته.

أعود لأقول: ليس لبيت الفلسفة جدران، بل هو فضاء لأجنحة العقل. إنه مجلة بيت الفلسفة، حلقة الفجيرة الفلسفية، كتب أسئلة الفلسفة، معجم الفجيرة الفلسفية، مؤتمر الفجيرة العالمي في اليوم العالمي للفلسفة، دورات الفلسفة للشباب، الفلسفة للأطفال، صحيفة أخبار الفلسفة، وهكذا.

فلسطين

ولدت لأبوين فلسطينيين خرجا سنة 1948 ظنا منهما أنهما سيعودان إلى مدينتهما طولكرم، كيف تتعامل مع فلسطين بالمعنى الإنساني والفلسفي؟

بوصفي فلسطينيا، ليست فلسطين بالنسبة إليَّ مشكلة يُختلَف حول حلها. غازٍ صهيوني محتل من جهة، وفلسطيني لاجئ وواقع تحت الاحتلال من جهة ثانية. فلسطين ليست مسألة تتناولها الدول لتقرر مصير شعبها في غياب إرادته الوطنية. فلسطين هويتي الموضوعية، هوية تقوم على وحدة الأرض والإنسان التي كونت هوية الشعب الفلسطيني، حيث لا انفصال في الهوية عن الأرض. إنها وحدة الحقيقة والحق والهوية. فالهوية الفلسطينية ليست فكرة مجردة اخترعها الفلسطيني اختراعا، ولم يفتش عنها في ثنايا كتب أسطورية صفراء، ولم يستقوِ بأحد من الخارج لامتلاكها، إنها وقائع حياته اليومية، وتاريخه الموصول دون انقطاع ووعيه بوجوده الذي لم ينفصل عن وطنه. ما كانت لعلاقة الفلسطيني بفلسطين أن تتحول إلى علاقة حب عميق لا يبلى لو لم تتوحد الحقيقة مع الإنسان.

بالتالي، الفلسطيني لم يتوسل حقه من قرارٍ هنا أو إعلان هناك، فكل القرارات تتضاءل أمام الحقيقة الناصعة التي ذكرت. إن حالة سلب الفلسطيني حقه في الوجود الإنساني المتعين بوطن، هي أمام العين الباصرة سلبه أرضه وتاريخه ولغته وطبيعته؛ حالة هي من الشذوذ لا نجد مثيلاً لها في عالمنا المعاصر، والفلسطيني، أنا، هو الوجود الحقيقي، الصهيوني الأيديولوجي العنصري المحتل في فلسطين، وجودٌ زائفٌ ومؤقت.

المصدر: مجلة المجلة

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني