fbpx

أحلام معلّقة

1 442

يقول الأولاد: الدنيا ضاقت بهم وبلدتهم. لم يجب.. صمت على مضض.. اغرورقت عيناه.. كلماتها أيقظت أحلامه.. أنعشتها.. أرجعته إلى تلك الليلة حيث القمر ينثر نوره على الساحات والشوارع، ويطارد ظلال المنازل والأشجار. يتكئ على مسند.. يتململ.. يشبك أصابع يديه خلف رأسه.. يسنده على راحتيه.. يمدّد جسده فوق الفراش.. يتمطّى بين حين وحين. عيناه معلقتان بصفحة السماء يفكر بعدد النجوم الساهرة، لقد ملّ النهارات ومتاعبها، ومطالب الصغار حتى غفا أخيراً والهمّ ينيخ بكلكله على صدره.

أنارت جدائل شمس الصباح الذهبية الكون، وتسرّبت من بين أوراق شجرة التوت الوحيدة في صحن الدار، وسقطت على وجهه توقظه، وتذكّره أن يسرع إلى سنابل القمح التي تنتظر حصادها دونما تأخير.

هبّ إلى العمل.. نسي أحلام الليل.. نادى زوجه كي تلحق به؛ وأسرع إلى الحقل وسنابله المنتظرة، وما إن وصل شمّر عن ساعديه، وراح يجزها بمنجله المسنون…

لحقت به تحمل زوّادة الطعام والماء.. جمعت شمائل السنابل المحصودة وكوّمتها في صفوف متراصة، ووضعت فوقها بعض الحجارة خوف أن تعبث بها الريح فتبعثرها، ولمّا ارتفعت الشمس، رويداً رويداً، رمحين ذكّرته بوقت الفطور.

وضع المنجل جانباً، وجلس على الأرض فارداً رجليه بزاوية منفرجة، وأرخى جسده ليتمدّد على الأرض مسنداً رأسه إلى كومة تراب، وباسطاً يديه براحتين مفتوحتين.

عيناه معلقتان برفقية عمره.. تنهّد.. قالت: ما بك اليوم ذاوياً على غير عادتك؟ أراك متعباً.. كأنك لم تنم الليلة؟

– افترت شفتاه عن ابتسامة: أغرتني النجوم طويلاً حتى أخذني النوم بعد سهاد طال…

– وما الذي يشغلك؟

– المدارس على الأبواب، وغلال هذا العام لا تفي بمطالب الصغار، فمن أين نحصل على المال ومصاريفهم المدرسية تزداد، والغلاء يحصد ثمرة جهدنا، والأسعار لا تتوقف عن الارتفاع، فكيف نلحق بها؟! إنّي أفكر بالسفر لعل الله يمنّ علينا ونستطيع تلبية حاجات الأولاد، وتعليمهم.

– يارجل! الأخبار لا تطمئن، وأكثر الذين سافروا يشكون ضعف الأجور، وقلة الشغل، وتحكّم أرباب العمل، وبعضهم عاد أو سيعود خالي اليدين.

– سأجرّب، لعل الأمور تنفرج، فلا نبخل على الأولاد لأن تعليمهم يأتي أولاً وقبل تأمين طعامنا.

– ولماذا تصرّ على تعليمهم، ألم تسمع ما قاله الوزير إن المهن تطعم أصحابها أكثر من الشهادات، والمتعلمون والعلماء بالكاد..

– قاطعها.. أراكِ مثله تساهمين بترسيخ تربية الجهل والتجهيل.

– ما قصدت هذا، لكنّ للفقر جنازير تشلّ التفكير.

– وأنا لا أريد تفكير أولادي مشلولاً.

صمتتْ.. فكّرتْ.. الأولاد ما زالوا صغاراً ويحتاجون ثقل أجسادهم مالاً ليتعلموا، وإذا ما سافر ربما.. ربما يُرزق من حيث لا يحتسب.

سافر حالماً بالمال وتعليم الصغار، فلا يريدهم مثله يكتفون بشهادة الثانوية العامة، ويتمنّى أن يتخرّجوا في الجامعة ليرفع رأسه مفتخراً بهم أمام الجميع بعد تخرجهم وتحقيق حلمه الكبير مكرراً “أليس العلم نوراً”؟!.

عانى الأمرين، صبر على الجوع والتعب، ونام ليالٍ كثيرة في ورش العمل، لم يسأل عن شقاوة الحياة، ومرارة العيش بعيداً عنهم، ومعاناة الغربة والعمل المضني في شدة الحرّ صيفاً وقرص البرد شتاءً. عينا حلمه معلقتان بالشهادات الجامعية التي تزين جدران مضافته، وتبتسم للزائرين.

مرّت السنوات بطيئة، وحلمه ينمو كلما كبر الأولاد، وأخبار نجاحهم تنسيه شقاء الأيام، وينتظر تلك الساعات حيث ينهون دراستهم ليعود إليهم فارساً…

تخرّجوا في الجامعة تباعاً.. ملأت السعادة روحه.. طار فرحاً عند سماعه الخبر الأخير.

قرّر العودة بعد أن حقق ما كان يحلم به.. استقبلوه بالترحاب.. رفعوه فوق أكتافهم.. أحسّ أنه بطل عائد من المعركة مظفراً.. لم يعد رصيد بنك فقط.. إنه الأب الذي ضحّى وفاز بالجائزة الكبرى.

لم يسألهم عن أحلامهم؛ لكنّه شعر بقلقهم وتبرمهم، فلم يجدوا ما يحقق طموحاتهم وتطلعاتهم… اسودّت الدنيا في عينيه.. لعن الأيام.. ازداد ألمه.. كبته في صدره.. عاد سنوات.. تذكّر ما قالته زوجه.

مساء.. وهما يجلسان على المصطبة قالت: رفاقهم سبقوهم مهاجرين. تمتم “آهٍ!! لعل أحلامهم تزهر. أفنينا العمر نشقى ونغرس في حدائقنا أشجاراً لتثمر؛ لا لنعلّق صور أحلام مؤطرة تزيّنُ جدراناً”. لم تستطع سماعه.. استوضحته.. نظر في وجهها.. لأول مرة يكتشف التجاعيد التي خلّفها مبضع الزمن.. رآها أكثر عمقاً.. اقتربت منه مواسية.. أمسك يدها.. صهرها بين راحتيه.. تشمّمها.. لم يعد له في هذا الكون إلّاها.. ضمها إلى صدره.. أسندت رأسها على عاتقه.. التقطت أذنها نبضات قلب مهشّم.. ارتفعت يدها إلى وجهه.. تحسّست قسماته.. مسحت أصابعُها وجنةً مخضلّة.. همستْ: أراك كبريء حُكم بالإعدام على ذنب لم يقترفه.. لست وحدك.. خفف الوطء عن نفسك.. عندما تكبر العصافير تغادر أعشاشها.. تهاجر…؛ لكنّها تعود.

-الله الله!! غدوتِ فقيهة.

– في غيابك تابعت الأولاد في المدرسة، كنت أستمع لهم.. تعلّمت كثيراً منهم، وربّتت بيدها على صدره.. نحن لسنا استثناءً.. هوّنها.. لقد عدنا عروسين..

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني