fbpx

سوريا الجديدة على أنقاض الوحشية: ذاكرة الانتهاكات وأفق العدالة

0 48

ما بعد السقوط: لحظة الحقيقة بين صدمة الذاكرة وأمل المحاسبة:

في ديسمبر 2024، سقط أحد أكثر الأنظمة وحشية في تاريخ سوريا والمنطقة. سقط نظام بشار الأسد، تاركًا خلفه 14 عامًا من الدماء والدموع والانتهاكات الممنهجة، وسط ذاكرة سورية مثقلة بآهات المفقودين، وأشلاء العدالة المؤجلة.

في تقريرها السنوي الرابع عشر، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان صورة دامغة للواقع السوري خلال عام 2024، تحت عنوان: “سقوط نظام الأسد: ذاكرة الانتهاكات وأفق المحاسبة”. التقرير لا يرصد أرقامًا فقط، بل يروي ملامح وطن مزقته الديكتاتورية، ويحاول لملمة شظايا ذاكرة منهكة استعدادًا لمرحلة جديدة.

الدم لم يجف: استمرار الانتهاكات حتى اللحظة الأخيرة:

رغم قرب النهاية، لم يتوقف القمع. سجل عام 2024 استمرارًا لانتهاكات جسيمة ضد المدنيين:

ضحايا الغارات والهجمات البرية، التي خلفت آلاف القتلى والمصابين في المناطق السكنية.

الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، كأدوات يومية لقمع أي صوت، تسببت بمعاناة نفسية لا توصف لعائلات يعيشون على شفا الأمل والرعب.

التعذيب حتى الموت، الذي حوّل مراكز الاحتجاز إلى مقابر صامتة.

استهداف المنشآت الحيوية في الصحة والتعليم، مما أدى إلى تدمير البنية الاجتماعية بالكامل.

سقوط النظام: النهاية العنيفة لأعوام من الطغيان:

في 8 كانون الأول 2024، انهار النظام عقب عملية “ردع العدوان”، بعد أن حاول الدفاع عن نفسه بارتكاب المزيد من المجازر:

قصف عشوائي ومجازر جماعية أودت بحياة المئات.

اعتقالات جماعية وتجنيد قسري في لحظة الهروب الأخيرة.

استخدام البراميل والذخائر الحارقة والعنقودية، في استعراض أخير للوحشية.

كارثة المختفين: ألم لا يموت:

رغم تحرير آلاف المعتقلين، لا يزال أكثر من 112,000 سوري في عداد المختفين قسرًا منذ 2011. تدفق الأهالي إلى مراكز احتجاز مهجورة بحثًا عن أحبائهم، عبث ببعض الأدلة الجنائية. لكن الألم الحقيقي بقي في قلوب آلاف الأمهات اللاتي لا يعرفن إن كنّ أمهات لشهداء أم لمفقودين.

الإخفاء القسري لم يكن مجرد أداة، بل فلسفة نظام: قتل على مراحل، تبدأ بالخطف وتنتهي بالصمت.

لأول مرة منذ 2011: لجان العدالة تصل إلى سوريا: في إنجاز تاريخي، دخلت لجنة التحقيق الدولية المستقلة أراضي سوريا للمرة الأولى، وبدأت آلية الأمم المتحدة للمساءلة عملها بالتوازي مع المؤسسة الأممية المعنية بالمفقودين. إنها أولى خطوات تفكيك جدار الإفلات من العقاب.

حصاد الدم: أرقام الانتهاكات في 2024:

  • 1264 مدنيًا قتلوا، بينهم 242 طفلًا و118 سيدة.
  • 86 حالة وفاة تحت التعذيب، نصفهم تقريبًا على يد قوات النظام.
  • 2623 حالة اعتقال تعسفي، معظمها على يد نظام الأسد.
  • 197 اعتداءً على منشآت مدنية حيوية.
  • 38 برميلًا متفجرًا ألقيت على المدنيين.
  • قرابة 700 ألف مدني نزحوا قسرًا خلال العام.

العدالة الغائبة: جرائم ممنهجة دون رادع:

أثبت التقرير أن نظام الأسد:

مارس القتل والتعذيب والتشريد بشكل ممنهج ومخطط من رأس النظام.

خرَق قرارات مجلس الأمن (مثل 2139 و2254) بتواطؤ دولي وصمت إقليمي.

أسس لنظام قضائي خارج العدالة، يعتمد على اعترافات انتُزعت تحت التعذيب.

الوجه الإنساني للكارثة: سوريا بلا ملامح:

وراء كل رقم حكاية:

 طفل دفنته براميل متفجرة، أم تنتظر جثة ابنها منذ 10 سنوات، طبيب فقد يديه تحت التعذيب لأنه عالج متظاهرًا، إعلامي أُعدم لأنه روى الحقيقة، عائلة هجّرت خمس مرات بحثًا عن مأوى… هذه سوريا التي يجب ألا ننسى ملامحها.

نحو مستقبل مختلف: توصيات ملحّة:

التقرير ينادي بوضوح:

تشكيل هيئة عدالة انتقالية شاملة، تُنصف الضحايا.

دعم لجان المفقودين، وتسليم رفات الضحايا.

التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية أو تشكيل محكمة خاصة.

منع الإعادة القسرية للاجئين.

تمويل عمليات إزالة الألغام وضمان شفافية التنفيذ.

تمكين منظمات المجتمع المدني السوري وتعزيز استقلالها.

من الذاكرة إلى العدالة: سوريا على مفترق الحقيقة:

قال فضل عبد الغني، المدير التنفيذي للشبكة:

“في لحظة تاريخية كهذه، لا يمكن أن نستبدل طاغية بظلّه. العدالة ليست ترفًا… إنها شرط للسلم الأهلي وبداية حقيقية لبناء وطن لا يُعيد إنتاج القمع.”

مع كل خطوة نحو سوريا الجديدة، لا بد أن تكون العدالة بوصلتها. ليس فقط محاكمة من ارتكب الجرائم، بل حماية الأمل لمن نجوا منها.

لا تزال الجراح مفتوحة، لكن اليوم، ثمة من يكتب التاريخ بأسماء الضحايا لا أسماء الجلادين.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني