fbpx

نضال بغدادي في سيرة موت غريب: الشاعر عندما يكتب سيرة الحرب

0 35

اتخذ الشاعر السوري نضال بغدادي (قراراً شعرياً) بأنه سيكتب سيرة الحرب، وعندما يجري الحديث عن (سيرة)، فهذا يعني أننا أمام فصول وتفاصيل وشخصيات وأحداث كبرى، لكنه كثف كل ذلك بقصائد قصيرة بالغة الأثر، وقوية المعنى، فإذا لم تنجح كل السرديات الطويلة في إعطاء الحرب حقها، فهل يمكن للقصيدة أن تحقق تلك الغاية؟!

أعدتُ قراءة المجموعة الشعرية التي صدرت عن دار (توتول) عدة مرات، وكنت أحاول تفكيك المعنى من إطار التكثيف والبلاغة والرمز واللغة إلى أن وصلت إلى مفاتيح جعلتني أعيد صياغة السيرة بطريقتي وكأنني أقرأ رواية كاملة.

فالحرب على السوريين بدأت عام 2011 وانتهت في الثامن من كانون الأول عام 2024، وهي حرب من نوع خاص، لا يمكن أن تكون حرب أهلية، لأن الحرب الأهلية كما يعرفها الباحثون مُصطلح يستخدم لوصف الاقتتال المسلح الذي ينشب ضمن حدود كيان معترف به، بين أطراف كانت تخضع لسلطة مشتركة عند اندلاع الأعمال العدائية، ففي هذه الحرب وقائع تتحدث عن احتجاجات واسعة بدأت عام 2011 وفيما بعد تحولت إلى اشتباكات نتج عنها تدمير مدن وقتل وتهجير مئات الألوف.

إذن نحن أمام نوع من الحرب على الإنسان، هدفها قهره والتنكيل به ودفعه إلى الإذعان، ولذلك لجأت السيرة الشعرية إلى توصيف الحال بسرديات شعرية قصيرة تفصح عن وقائع الحرب.

ورغم أن عناوين الفصول في السيرة العتيدة خمسة وهي: عتبة، عابر سبيل، موت، شهوات مفردات، فإن مضامينها تفتح على ثلاثة مفاهيم فقط، وهي: السيرة والموت والغربة، وقد كثفها في عنوان جميل لافت هو (سيرة موت غريب).

يمكن للقارئ عندما ينتهي من قراءة المجموعة أن يطرح سؤالاً عن علاقة القصائد بالحرب، لأنه لايجدها إلا نادراً، رغم أن السيرة كلها تتحدث عن الحرب وتطيل البحث في آثارها، وقد كشف تاريخ كل قصيدة عن زمن الحرب في سورية.

في تلك القصيدة، وعنوانها (هذا الدم فاضح) نقرأ:

هذا الدم فاضح/الطائرات تعض وحشة السماء/فابتعدوا عن مسرى القذيفة/لعلنا ننقذ ذاكرة الشهداء/وما تبقى فينا من الأحياء.

ونقرأ أيضاً:

هذا الدم فاضح/فلا تنسوا في إحصاء أعداد من رحلوا/ابتكارَ ما يجعل البقاء فرصة/لنلمّ ما تبقى من حطامنا/لننظف الرئتين من دخان الجنون.

إذن هي الحرب بدلالات دمها المفضوح عند إنسان يرصد تفاصيلها بلغة الشاعر المهاجر البعيد عن ساحة الوغى المخيفة في تفاصيلها.

وإذا كانت السيرة تتعلق بالحرب على السوريين، فمن هو القاتل ومن هو القتيل؟! سؤال يطرحه المنطق، ولا تعجز العبارة الشعرية عن الإجابة عليه، وخاصة عندما ترى أن القاتل يقبع خلف الباب وأسفل الشباك وعبر المدخنة:

إن فتحت فالقاتل ينتظرك خلف الباب/وإن أطللت فالرصاصة تنتظرك أسفل الشباك/وإن فكرت بالنجاة عبر المدخنة فملك الموت قد جهز لك كفنك/وإن اختبأت في الخزانة مثلاً/فالشظية تنتظر سقوطها الحر نحوك.

وفي قصيدة عبور محاكاة لشكل الحرب وأدوات القاتل فعليك أن تستأذن القاتل لتخرج من البيت، ولكن هل سيعطيك الإذن فخامة القناص؟

هل ستخرج؟/نعم/إذن أرسل إلى القناص/رسالة استئذان للعبور/وأرسل مثلها للقناص في الجهة المقابلة/وانتظر، فإن لم يوافقا/اضرب لهما التحية بكل ما فيك من الجدية/فالقناص يحترم جدية ضحيته/وإن لم يوافقا/أرسل لهما بعض الحلوى/أو أرسل لهذا ساعة يدك/وللآخر معطفك/وانتظر، فإن لم يوافقا/بعض المال يجدي/فإن وافقا/احزم أمرك واعبر شارعك/بكل ما فيك من ثقة الذاهب إلى حتفه!

هو اليقين بأن الحرب لن ترحمك، وأن القناص لن يتخلى عن قتلك، حتى لو كنت مطيعاً مهذباً، تعلن الإذعان لسطوته.

وتذهب قصيدة أخرى إلى نوع من التماهي مع القاتل، فتقدم الضحية كل التسهيلات اللازمة لينفذ القاتل مهمته التي جاء من أجلها:

كتبت له خطابا/حاولت ما استطعت/أن أقنعه بمقتلي

وفي آلية البحث عن نجاة نجد القتيل يبحث عن مكان آمن، ويقول:

بين الخرب يتلمس بقايا منزله/لعله يجد بابا صالحا/كي حتمي هاربا/من كل ما في الرصاص من عواء!

وفي البحث عن علاقة القاتل بالقتيل تذهب العبارة الشعرية إلى الأسطورة، فإذا بقصة قابيل وهابيل تعيدنا الى نقطة الصفر في الحرب السورية، فالقاتل هو الذي يقتل أخاه:

كيف لم ترتجف يدك وأنت تذبح أخاك؟/كيف لم تتردد أصابعك وهي تعصر الزناد/لا هو يجتهد في ابتكار الجواب/ولا نحن نصرّ على السؤال/ونبقى أسرى عتمة/باحثين عن معنى لهذا الجواب.

تلك هي سيرة الحرب، وهذا هو شكل الموت، والشاعر يبحث عن النجاة فلا مفر من الموت.

لقد نجح الشاعر السوري نضال بغدادي في توصيف المكان السوري كما يراه شاعر رسم مأساة إنسانه بطريقة سوريالية، فهو يذهب في مخيلة المأساة ليبحث عن مكان وزمان وفحوى، فالمكان هو شرفة معلقة في الهواء، والزمان اختفى، فقد حركته وإيقاعه، والمحتوى خراب وخوف ورحيل يتوج المأساة!

في هذه الواقعة المأساوية تظهر محاولته للخروج من الحزن، وفيها يتسلح الشاعر بالصمت لكي يجعل الحزن رفيقا له، لكنه في مقطع آخر يعمد إلى النصيحة، فنفسه بحاجة إليها:

كن خفيفا حين تغفو/فالحلم ابعد من غمام/يمر فوق يديك/وابتعد بما يكفي/كي ترى/ماهو اقرب من كفيك/هو صخب جارح يخطو/وأنت تلوب بحثا عن معنى/لصمت يؤوب اليك.

يتوجه الشاعر بدعوة أخرى للقبض على حلمه، ستقطع هذا الطريق وحدك/فاجعل من نبضك ما يؤنس دربك.

حاله كعابر سبيل أضاع الطريق، لكن الطريق ككل الطرق له مآل/ومآله في هذا العالم السوريالي ضائع المعنى بل هو لم يستطع أن يعثر للمعنى على معناه كما جاء في أحد قصائد السيرة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني