fbpx

أسقطنا الأسد وبقيت العقوبات… ماذا بعد؟!

0 4٬053

بعد الحرب العالمية الثانية، خرجت كل الدول التي شاركت فيها مُحطَّمة إلا الولايات المتحدة سليمة. ليس ذلك فحسب، بل تم تكريسها كقوة عظمى أولى ومنتصرة، وأنشأت وقادت النظام الدولي الجديد بكل مؤسساته كالأمم المتحدة وصناديق النقد الدولي والبنك الدولي، وسيطرت بالتالي على النظام المالي الدولي. إحدى أدوات ذلك النظام هي آلية تحويل أو انسيابية الأموال بين الدول (سويفت).

بعد الحرب العالمية الثانية، كان مؤتمر بريتن وودز لحظة مفصلية في تأسيس النظام الدولي الخاضع لمشيئة الولايات المتحدة، التي أقرت فيه عُملتها (الدولار) كعُملة عالمية، وتعهد جيشها بحماية طرق التجارة الدولية، وعملت على إنهاء الاستعمار بشكله القديم، فاستقلت بذلك جميع الدول المستعمَرة. كل ذلك مقابل التعامل بالدولار، وأن تتعهد الدول بمحاربة النفوذ الشيوعي، الذي كان في بداية صعوده بعد النصر السوفييتي العظيم في الحرب العالمية الثانية، وتقديم السوفييت لنموذج عالمي مناقض تماماً للنموذج الغربي.

ودائماً ما يكون سلاح العقوبات الاقتصادية والمالية الأمريكي من أهم أدوات السياسة الخارجية. وهو سلاح فَعّال ويُطلَق عليه “القوة الناعمة”، التي تُغني عن استعمال “القوة الخشنة” (العسكرية) أحياناً، أو عندما لا يكون هناك ضرورة لاستعمالها. حيث يتم فرض العقوبات لإنهاك الدولة المُستهدَفة وعزلها عن النظام المالي والاقتصادي الدولي. ويُنسب لتلك العقوبات سبب هام من أسباب سقوط الاتحاد السوفييتي (العدو الكبير) دون إطلاق رصاصة واحدة عليه.

وسلاح العقوبات الأمريكي سلاح غبي ولا يتمتع بأدنى درجات الأخلاقية، وهو مُنافٍ تماماً لكل المنظومة القيمية الغربية التي تتحدث في جوهرها عن حرية وحقوق الإنسان. وبالتالي، سيتحمّل النصيب الأكبر من عِبئها المواطن العادي في الدول المستهدَفة بها. ولكن لا شك أن الحكومات تتأثر بذلك على المدى المتوسط والبعيد؛ لأنها ستلجأ لأساليب وطرق أخرى للتهرّب منها، وبالتالي لا يُمكن إقامة نموذج اقتصادي ناجح في الظلّ يعتمد على المراوغة والتهرب ويتحاشى المرور بالمؤسسات المالية الدولية. وغالباً ما تُصبح الدول المارقة التي تتعرض للعقوبات لفترة طويلة (كدولة كوبا وإيران وكوريا الشمالية) نموذجاً لهذا الوضع.

وحديثاً، بدأ الأمريكيون بالحديث عن “العقوبات الذكية”، وهي مزيج من العقوبات الخشنة والناعمة، حيث يُمكن قصف منشآت مهمة لدولة معادية مع استمرار العقوبات لفرض تغيير مواقفها السياسية.

سبب فرض العقوبات على سوريا

صنّفت الولايات المتحدة نظام الأسد الأب كدولة مارقة وبدأت بفرض عقوبات عليها منذ ثمانينيات القرن الماضي باعتباره “دولة راعية للإرهاب” تحت مُسمّى “قانون محاسبة سوريا”. وإقرار هذا القانون الأمريكي يعني أن تلك الدولة من الأعداء، وعند ضرورة التعاطي معها لأهداف تُفيد المصالح الأمريكية، تُسمى “من الأعدقاء” لكنها لا ترقى إلى دولة صديقة أبداً، أو حتى دولة طبيعية.

كانت الولايات المتحدة راضية عن الدور الذي لعبه حافظ الأسد في لبنان طيلة حياته، وكان يخدم سياستها. وكانت داعمة لموقفه من إسرائيل، وموقفه من الحرب العراقية الإيرانية. بل وصل التخادم معه بعد غزو صدام حسين للكويت إلى تشكيل موقف عربي رسمي داعم لعملية تحرير الكويت من قبل الجيش الأمريكي. بل وأكثر من ذلك، شاركت قوات من الجيش السوري رمزياً في عملية تحرير الكويت تحت القيادة الأمريكية. لكن جرى كل ذلك مع بقاء العقوبات الأمريكية واستمرار وجود اسم سوريا كـ “دولة راعية للإرهاب” في التقرير السنوي الذي تُصدِره الخارجية الأمريكية.

أخلّ الأسد الولد (بشار الأسد) بأصول التخادم مع الولايات المتحدة في مناسبتين هامتين:

  1. دعم وتسهيل عبور المقاتلين الأجانب إلى العراق لمحاربة الجيش الأمريكي.
  2. اغتيال الرئيس الحريري في بيروت.

ومع أن العقوبات الأمريكية على سوريا يتم تجديدها في مواعيدها، إلا أن قراراً أمريكياً مركزياً اتُّخِذ لمعاقبة الأسد، فتم طرده من لبنان، إذ لم يَعُد ممكناً تقويم سلوكه عن طريق العقوبات فقط. كما أن بعضهم يرى أن دعماً أمريكياً قدّمه الرئيس التركي أردوغان في العَقد الأول من القرن الحالي لمحاولة “عقلنة” الأسد، لكنه فشل في ذلك.

في بدايات الثورة السورية، كانت الولايات المتحدة تعتبر النظام السوري نظاماً مارقاً لا أمل في إصلاحه. ولا تملك الولايات المتحدة أي أوراق أو نفوذ أو حتى مصالح مباشرة لها في سوريا، فهي منطقة نفوذ إيرانية-روسية بالأساس. وبما أن الولايات المتحدة كانت تُصنّف الجهادية السنية كعدو استراتيجي أول لها وتُجنّد إمكاناتها للحرب عليه بسبب ضربات تنظيم القاعدة في أيلول 2001، فإنها لم ترَ مانعاً من دعم خفيف لبعض التنظيمات الجهادية السنية وجرّها لحرب ضروس مع الجهادية الشيعية لاستنزاف كلاهما، وهو ما حدث بالفعل.

ويُنقَل عن الرئيس أوباما قوله عندما سُئل بأن روسيا وإيران تُدمّران سوريا، فأجاب ضاحكاً: “هي بالأساس كانت لهما عندما كانت سليمة، والآن سيستلمونها مدمرة وبأيديهما”.

تم فرض عقوبات خفيفة على نظام الأسد بدءاً من عام 2011، مع تصريحات من الرئيس أوباما وكبار المسؤولين بأن “الرئيس السوري يفقد شرعيته”، وتم إغلاق السفارة الأمريكية في دمشق. ولم تتلاقَ الإرادة الأمريكية مع الإرادة العربية عندما طردت الأخيرة الأسد من جامعة الدول العربية وهيئت الأرضية لفعل نفس الشيء دولياً عبر إجراءات مماثلة على مستوى الأمم المتحدة والاعتراف الدولي بسوريا الأسد.

كانت صور “قيصر” في الولايات المتحدة منذ عام 2013، وفي عام 2014 تم الانتهاء من فحصها وتدقيقها وتوثيقها، وتم تجهيز ملف عقوبات كامل على نظام الأسد، بشرط أن يرى النور في الوقت الذي يَخدِم فيه المصالح الأمريكية، وليس لإيقاف الجرائم المرتكبة بحق السوريين أو إسقاط نظام الأسد.

ومن الثابت لدينا أن التدخل العسكري الروسي في سوريا في 30 أيلول 2015 تم بالتفاهم مع الأمريكيين وفق رؤية شبه مشتركة لإدارة الصراع في سوريا وتحقيق السلام فيما بعد وفق مصالح الطرفين.

لكن الروس طمعوا في التهام “الكعكة السورية” كلها بمفردهم والتنصّل من تفاهماتهم مع الأمريكيين، وتحقيق تفاهم جانبي مع الأتراك، وتأمين انتصار عسكري حاسم لنظام الأسد وفرض أمر واقع سيضطر الأمريكيون للقبول به.

وكما يُقال: “الأمريكان لا يضعون بيضهم كله في سلة أحد”. كانت الخطة الأمريكية لوقف الجموح الروسي هي إجهاض أي نجاح للقيصر بوتين، خاصة أن الولايات المتحدة كانت قد هَزمت تنظيم داعش وبدأت بالخروج من وهم محاربة “الإرهاب السني”. فخلال العقدين الماضيين، كان انشغال الولايات المتحدة بالحرب على “العدو الشبح” كاملاً، فيما كان الصعود الصيني والروسي صاروخياً، بشكل بدأ يُهدّد السيادة العالمية للولايات المتحدة.

أيضاً، بدأت تظهر عدم حاجة أو عدم جدوى التخادم مع مشروع “الهلال الشيعي”، الذي أصبح له أنياب وأظافر وبات خطراً على المصالح الأمريكية بعد أن سحق قاسم سليماني كل السنة في المنطقة.

ولمعاقبة الروس والإيرانيين في سوريا وعدم تمكينهم من الظفر بها، أخرج الأمريكيون الورقة الذهبية من الأدراج ونفضوا عنها الغبار، وأطلقوا “قانون قيصر” للعلن، لعدم تثمير الروس والإيرانيين تقدمهم العسكري إلى نصر سياسي واقتصادي. وكانوا هم المستهدفون منه، وليس نظام الأسد المتهالك الذي يقتات على فُتات موائدهم.

شَلّ قانون قيصر أيدي الروس والإيرانيين، ولم يَعُد مُمكنناً الظفر بأموال إعادة الإعمار أو بناء نشاط اقتصادي يكون أرضية صلبة لنظام الأسد ليقف عليها، وبالتالي استمرار نفوذهم. وإمعاناً في شَلّ قدرة النظام الاقتصادية، أتاح الأمريكيون لـ “قسد” السيطرة على آبار النفط في الجزيرة السورية، إضافةً لباقي الثروات الحيوانية والزراعية والمائية الأخرى. وبات نظام الأسد عاجزاً عن إطعام جيشه، ناهيك عن إطعام السوريين في مناطق سيطرته.

أرهقت العقوبات الأمريكية نظام الأسد، ومنعت الراغبين من تقديم أي مساعدة له، وساهمت في هجرة ما تبقى من رجال أعمال وصناعيين سوريين إلى الخارج بسبب اليأس من القيام بأي نشاط حقيقي. وتحوّل ما تبقى من دولة الأسد إلى عصابة بكل معنى الكلمة، وبات أمراء الحرب هم رجال الأعمال الجُدد. وانتشر الفساد ليشمل كل المفاصل، وأصبح هو المعيار لإدارة الدولة وليس أحد أدوات إدارتها. ولأن اقتصاد الظل الأسود بات الطريق الوحيد أمامه، تحوّل النظام للإتجار بالكبتاغون لتأمين سيولة من القطع النادر لبقاء الحياة تسير بالحد الأدنى. وبات الاستيلاء على ما تبقى من أموال في جيوب صغار التجار بل والمواطنين العاديين هدفاً لـ “أسماء الأسد” وأخطبوطها، الذي لم يُوفّر أحداً، حتى رامي مخلوف ذاته.

لم يلجأ الأسد لتحقيق بعض المطالب السياسية المعروضة عليه لتخفيف العقوبات عنه، ولم يلتفت للرجاءات العربية بذلك، بل أمعن في سلوك أسلوب معاكس لرفع العقوبات عنه، وهو استمرار المشاكل التي سبّبها للجوار (كقضية اللاجئين)، والإمعان في إغراق أسواقهم بالكبتاغون، والتهديد به كورقة سياسية لن يتم إيقافه حتى يتم رفع العقوبات عنه.

سقط الأسد وبقيت العقوبات

قبل سقوط نظام الأسد بأيام (وكان السقوط حتمياً)، مدّد الكونغرس الأمريكي قانون قيصر لخمس سنوات أخرى حتى عام 2029. وعند الطلب من الأمريكيين عدم فعل ذلك، قالوا: “نُمدّد ونرى ما يجب فعله مستقبلاً”.

علّق الرئيس بايدن قبل انتهاء ولايته بعض العقوبات التي لا تُعيق تدفق المساعدات الإنسانية الضرورية لمدة ستة أشهر تنتهي بنهاية تموز المقبل، وأبقى على العقوبات الرئيسية، خاصةً المفروضة على البنك المركزي السوري، وأبقى سوريا خارج نظام “سويفت”.

حصل اتصال مباشر أمريكي – سوري مع إدارة الرئيس بايدن مبكراً، وحصلت لقاءات متعددة مع إدارة الرئيس ترامب. ومؤخراً، ذهب وفد اقتصادي-مالي يضم وزير المالية وحاكم مصرف سوريا المركزي، ووفد سياسي برئاسة وزير الخارجية إلى نيويورك وواشنطن لإذابة الجليد مع المؤسسات المالية الدولية (التي تُسيطر عليها أميركا). وبالطبع، زيارة السيد الشيباني لها أهمية كبيرة نظراً لما لموضوع العقوبات من أهمية.

رَدّد مسؤولون غربيون (أمريكيون وأوروبيون) مطالب معلنة لرفع العقوبات، مثل:

  • ضمان مشاركة واسعة للأقليات في الحكم.
  • إعطاء دور واسع للمرأة في الحياة العامة.
  • عدم أسلمة الدولة السورية.
  • ترحيل ما بقي من مقاتلين غير سوريين من سوريا.
  • وغيرها من المطالب غير الصعبة، كتبييض مراكز الأسلحة الكيماوية (والتي تعمل عليها السلطات السورية من تلقاء نفسها).

إلا أن تلك المطالب هي للاستهلاك الإعلامي.

واستجابةً للضغوط العربية (الخليجية) والتركية، وبناءً على المصالح الغربية، بدأ التخفيف السياسي والاقتصادي للعقوبات ملموساً أوروبياً وأمريكياً.

وسارت واشنطن خطوات مهمة على الأرض في تعويم “العهد الجديد” بصمت، حيث أرغمت قوات “سوريا الديمقراطية” على الاستسلام لدمشق، وبدأت بسحب قواتها من سوريا، ولم يبقَ الآن إلا ألف مستشار عسكري فقط.

وتَسرّبت رسالة تضم 8 شروط أو مطالب أمريكية لرفع العقوبات، وافقت عليها القيادة السورية واشترطت مناقشة تعديل بعضها. كما أقدمت لندن على خطوة هامة عندما رفعت العقوبات عن المؤسسات الأمنية والعسكرية والإعلامية، وذلك بهدف تقوية الجيش والأمن السوري لضمان الاستقرار والسلم الأهلي، والتغلب على مؤامرات نظام ولاية الفقيه لزعزعة الاستقرار عبر الفلول.

ما تريده أوروبا وأمريكا

ما تريده أوروبا هو رفع العقوبات لتأمين مناخ ملائم لنهوض اقتصادي يُتيح عدم تصدير لاجئين جُدد إليها، والعمل على استقبال من يرغب من اللاجئين فيها للعودة إلى سوريا. وترغب في استقرار سوري يؤدي للقضاء الكامل على صناعة وتهريب الكبتاغون، ومنع عودة النفوذ الإيراني لسوريا. إضافةً لمطلب أوروبي هام ولن تتنازل عنه، وتم التصريح به علناً في الأيام الأولى للتحرير، وهو: طرد القواعد العسكرية الروسية من سوريا، التي تُشكّل مخلباً في خاصرة القارة العجوز من الجنوب.

أما ما تريده واشنطن في الواقع فهو ليس ما تُعلنه دائماً. فهي تريد:

  • ضمان أمن إسرائيل مع العهد الجديد، سواء بإعادة اتفاقية الهدنة أو معاهدة سلام إن توفرت ظروف لذلك.
  • سلطة سورية قوية تستطيع السيطرة على كامل البلاد وتكون مسؤولة عن ذلك لمنع عودة “الهلال الشيعي” للمنطقة بمكوناته السنية والشيعية.
  • نظاماً سورياً علمانياً، ولا مانع من أن تبرز فيه هويته الإسلامية داخل الحدود السورية.
  • وجوداً على المدى المتوسط لشرعنة قاعدة التنف.
  • انخراط سوريا في التحالف الدولي للحرب على الإرهاب.
  • وسماح السلطات السورية للقوات الأمريكية باستمرار عملياتها في سوريا لاصطياد أهداف بشرية تراها واشنطن خطرة على أمنها القومي.

لن تُفرّط واشنطن بالورقة السورية بسهولة قبل تحقيق كل أهدافها، وهي ليست في عجلة من أمرها. بل ربما تستخدمها في مساوماتها وصفقاتها مع الحلفاء العرب والأتراك، وربما مع الروس والإسرائيليين أيضاً.

سنرى تخفيفاً تدريجياً للعقوبات بشكل رسمي، وبغض النظر عن إنجاح القيادة السورية، التي بدأت باكراً بالتناغم مع البوصلة الدولية لتكون عقدة الوصل الاستراتيجية بين الحلفاء في تركيا والخليج، والشوكة في خاصرة “الهلال الشيعي”.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني