fbpx

هل نستطيع بناء سوريا جديدة بوعي سياسي حقيقي؟

0 26

بعد التحرر من النظام البائد، يقف السوريون على أعتاب مرحلة جديدة، حيث لم تعد الأسئلة المطروحة تدور حول الماضي فقط، بل باتت تتعلق بمستقبل لا يزال ضبابياً. فهل امتلك السوريون، بعد أكثر من عقدٍ من الثورة والنضال، القدرة على تشكيل مشروع وطني متكامل؟ وهل أصبح لديهم وعي سياسي يُترجم إلى أفعال منظمة؟

في ظل هذه التحوّلات، لم يعد الواقع يسمح بالمزيد من التجريب، بل بات يفرض حسم الخيارات الكبرى. فلم يعد الحديث عن الوعي السياسي مجرد ترف فكري، بل تحّول إلى ضرورة وجودية تحدد مصير سوريا الجديدة. وعليه، يبقى السؤال المطروح: هل نحن أمام حالة من النضج السياسي القادر على بناء مشروع وطني حقيقي، أم أن التشرذم والانقسامات باتت قدَراً لا يمكن الخلاص منه؟

الوعي السياسي السوري بين التجربة والواقع

من المؤكد أن السوريين لم يكونوا يوماً بعيدين عن السياسة، لكنها كانت محكومة بسقف محدد لم يسمح بتطورها بشكل طبيعي. فقد جعلت عقود الاستبداد الحديثَ في الشأن السياسي محفوفاً بالمخاطر، حتى انفجرت الثورة، وحوّلت الشوارع إلى ساحات للنقاش، وبدأ السوريون باستعادة دورهم السياسي.

إلا أن هذا الانتقال من الوعي إلى الفعل لم يكن سلساً، بل هي عملية تحتاج إلى تنظيم وإدارة وفق طرق واضحة. إلا أنّ ماحدث هو أن الطموح المشروع بالتغيير اصطدم بغياب الخبرة، وبقوى داخلية وخارجية استغلت الفوضى لفرض أجنداتها.

ومع تعدد الفصائل والكيانات السياسية، ظهر واقع جديد لم يكن فقط انعكاساً لاختلاف الرؤى، بل أيضاً نتيجة لغياب أدوات العمل الجماعي.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن السوريين باتوا أكثر إدراكاً لأهمية التنظيم، حتى وإن لم يتمكنوا بعد من بلورة كيان يعبّر عن تطلعاتهم. فالتجربة القاسية جعلتهم أكثر وعياً بحقيقة أن السياسة ليست مجرد موقف ضد السلطة، بل هي عملية تتطلب بناء مؤسسات تمتلك الشرعية والقدرة على الفعل.

المجتمع المدني: بين الاستقلالية والارتهان

عندما انهارت مؤسسات الدولة في المناطق المحررة، برز المجتمع المدني كبديلٍ ضروريٍ، حيث لعب دوراً حيوياً في تقديم المساعدات، وتوثيق الانتهاكات، ونشر الوعي الحقوقي. غير أنه، في المقابل، وجد نفسه في مواجهة معادلات صعبة، فمن جهة، حاول الحفاظ على استقلاليته، ومن جهة أخرى، اضطر للتعامل مع الجهات المانحة التي فرضت عليه أجنداتها.

وهنا يطرح السؤال نفسه: هل فقد المجتمع المدني روحه الثورية؟ وهل أصبح مجرد وسيط لتنفيذ مشاريع خارجية بدلاً من أن يكون قوة محركة للتغيير؟ في الواقع، لقد فقدت العديد من المنظمات بوصلتها، وتحوّلت إلى مؤسسات بيروقراطية تسعى إلى الاستمرار أكثر من سعيها إلى التأثير، وهو ما يفسر غيابها عن صناعة القرار السياسي، رغم أنها كانت في طليعة المشهد خلال السنوات الأولى من الثورة.

إلى أين تتجه الجهود الجماعية السورية؟

على الرغم من المحاولات المتعددة خلال السنوات الماضية لإنشاء كيانات سياسية واجتماعية جامعة، لا تزال التساؤلات قائمة حول مدى نجاح هذه الجهود في تحقيق غاياتها. فهل تمكّن السوريون فعلاً من تجاوز خلافاتهم والتوحد ضمن مشروع مشترك، أم أن التحديات لا تزال تعترض طريقهم؟

إن الواقع يشير إلى أن هناك صعوبات حقيقية أمام أي محاولة لتشكيل كيان موحد، لكنها ليست بالضرورة دليل فشل، وإنما تعكس طبيعة المرحلة وتعقيداتها. فالاختلافات السياسية، والتدخلات الخارجية، وانعدام الثقة بين المكونات المختلفة، كلها تحديات جوهرية أمام أي مشروع جامع.

مع ذلك، فإن هذه العقبات لا تعني استحالة الوصول إلى نموذج ناجح، بل تفرض ضرورة مراجعة الأساليب والاستراتيجيات المتبعة. فبدلاً من إعادة إنتاج المبادرات السابقة، يحتاج السوريون اليوم إلى تفكير جديد يقوم على بناء تفاهمات حقيقية، وإيجاد آليات مرنة تستوعب التنوع دون أن تتحول إلى ساحة صراع دائم.

مستقبل سوريا بين الواقع والطموح

إذا كان الوعي السياسي السوري قد مرّ بمراحل مختلفة، فإن التحدي اليوم ليس فقط في استيعاب العقبات السابقة، بل في القدرة على تحويلها إلى استراتيجيات واقعية. فالتجربة أثبتت ان تجاوز الانقسامات ليس مجرد خطاب، بل هو عملية تحتاج إلى إرادة سياسية واضحة، وخلق بيئة تسمح بتفاعل مختلف الأطراف ضمن إطار وطني لا يخضع للإقصاء أو التخوين.

إن إعادة بناء سوريا تتطلب جهداً مشتركاً على مستويات عدة، بدءاً من فتح قنوات حوار وطني حقيقية بين مختلف القوى والتيارات، ومروراً بتمكين الفئات المهمّشة، لا سيما الشباب والنساء الذين لعبوا دوراً محورياً في الثورة، لكنهم ما زالوا خارج دوائر صنع القرار، وانتهاءً بإعادة بناء مؤسسات قوية وشفافة تقوم على الكفاءة لا على الولاءات.

إلى أين نتجه الآن؟

لم يعد ممكناً الحديث عن إعادة بناء سوريا دون الاعتراف بأن جميع الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية يجب أن تكون نابعة من إرادة السوريين أنفسهم، ولم يعد مقبولاً أن تبقى المشاريع الوطنية رهينة لمعادلات القوى الإقليمية والدولية. فمستقبل سوريا لن تصنعه الاتفاقات الخارجية، بل يصنعه السوريون حين يدركون أن الحلول ليست بيد الآخرين، وإنما في قدرتهم على تجاوز خلافاتهم وإعادة رسم أولوياتهم.

وهذا يتطلب إرادة حقيقية للخروج من عقلية الإقصاء والانغلاق نحو عقلية الشراكة، كما يتطلب القدرة على رؤية الآخر كحليف محتمل لا كخصم دائم، فضلاً عن إدراك أن بناء سوريا الجديدة لا يكون فقط بإسقاط النظام القديم، بل بتأسيس دولة تحترم التعددية، وتحمي الحقوق، وتعيد للسوريين ثقتهم بأنفسهم وبوطنهم.

في النهاية، لا أحد يمتلك إجابة جاهزة حول ما سيحدث، ولكن المؤكد أن التاريخ لا ينتظر المترددين، ومن لا يستطيع استثمار اللحظة المناسبة قد يجد نفسه لاحقاً مجرد متفرّج على مصيره وهو يُرسم بيد غيره. فهل نحن مستعدون أخيراً لامتلاك زمام المبادرة، أم أننا سنواصل إضاعة الفرص؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني