الشخص صانع أم مصنوع؟
هل من العلم “والعلم ما كانت أحكامه موضوعية” أن نصدر حكماً على الفرد استناداً على أصله وفصله ومنبته الطبقي وانتمائه القروي أو المديني ودرجة تعليمه والذهنية الموروثة؟.
أم إن الفرد يكوّن شخصيته بدرجة ما بوعيه بذاته وخياراته الحرة، وقدرته على التحرر من الذهنية الموروثة؟.
وسؤالنا هذا نابع من قول الفلسفة: لا علم إلا بالكليات. وهنا نواجه المشكلة التي نشأت من التمييز بين العلم الطبيعي والعلوم الإنسانية. فليس لأحد أن يناقش في صحة الحكم الموضوعي بأن الحديد يتمدد بالحرارة، وإن المعادن جميعها تتمدد بالحرارة. والاستثناء لا يغير من القاعدة، ولكن هل الحكم أن جميع سكان المدن مقتصدون؟ وأن ردود فعل جميع القرويين عنيفة في التعبير عن الاختلاف؟.
هذه الأسئلة وغيرها وضعت علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية في مأزق شديد، فهل يمكن الثقة بأحكام عامة لهذه العلوم التي يستحسن بعضهم تسميتها بالمباحث لافتقارها إلى دقة أحكام علوم الطبيعة.
دعونا نطرح السؤال الآتي: هِبْ أن شخصاً قروياً ورث الوعي بالثأر بكل أشكاله من الثأر قتلاً إلى الثأر انتقاماً كلامياً. فهل الحكم الذي يقول: إن كل قروي شخص ثأري حكم صحيح أم خاطئ؟ هل هو حكم ينسحب على جميع القرويين. الجواب حكم صحيح نسبياً وخاطئ نسبياً.
أو هل نحكم على شخص شيعي أو علوي أو درزي عاش في ثقافة تتوارث صفة التقية بوصفها جزءاً من وعيه الديني بأنه ذو تقية بالضرورة؟ وهل الحكم بأن جميع المنتمين إلى المذاهب الباطنية ذوو تقية؟.
هل تصبح الصفات المتوارثة بنية غير شعورية سرعان ما تظهر بتوافر أسبابها وكان الظن بأنها لم تعد من بنية الشخص؟.
أن يكون الشخص قد وجد في بنية وعاش فيها يعني بأنه ثمرة هذه البنية بقيمه وأخلاقه وردود أفعاله وثقافته ووعيه الجمالي. ولا يمكن أن يتحرر هذا الكائن من بعض عناصر البنية التي خلقته أو منها كلها إلا إذا كوّن وعياً جديداً بعالمه. إلا إذا وصل حداً من الوعي النقدي لعالمه.
ولهذا فإن كثيراً من الناس يتساءلون بدهشة كيف لأناس درسوا في أوروبا وأمريكا وقضوا سنوات طوال ولم يصبهم أي تغير في وعيهم المحلي، وعادوا كما ذهبوا؟.
سألني أحدهم: كيف نفسر بأن شخصاً يدافع عن الحداثة ويعلن المواجهة العلنية للدين غادر بلدته منذ أكثر من خمسين عاماً وعاش متنقلاً بين باريس وبيروت، وحين بنى بيتاً جديداً في قريته، بنى إلى جانبه قبراً فاخراً ليصبح مزاراً؟.
إن فكرة المزار التي عاشها طفلاً صارت جزءاً من وعيه بوجوده بعد الموت، أراد أن يظل موجوداً بعد الموت بوصفه مزاراً.
إن التحرر من البنية الطابعة أمر في غاية الصعوبة ولهذا يتطلب التحرر من البنية الطابعة عقلاً يعمل بحرية وبمنطق عملي وقدرة على حب الجديد والتلاؤم معه وهذا أمر ممكن.
ولهذا عندما نقول عن شخص ما بأن لديه عقابيل من وعيه القديم بالعالم ومن ثقافته الموروثة من المجتمع الضيق الذي عاش فيه، ومن طبقته التي ينتسب إليها فهذا يعني بأنه تحرر من هذا كله ولم يبق منه إلا القليل.
أما إذا أبقى على الكثير منه في وعيه وثقافته وذهنيته ولم يغادره وهو يعيش في عالم جديد مختلف فهو ماهية لم تتغير شأنها شأن الأشياء. والسلوك النظري والعملي هو المعيار للحكم على الظاهرتين.
وليس التخفي الشكلي وراء المظاهر الخادعة بمفيد لأن الممارسة العملية هي معيار الحقيقة.