fbpx

سلطان الأطرش.. دروس وعِبَر

0 371

يحدث أن يحصل خلاف في الرأي بين أهالي السويداء، أكانوا رجال فكر أو سياسة أو دين حول موضوع ما، (سياسي، تاريخي، اجتماعي، فكري.. الخ) سواء كان هذا الموضوع من الماضي أم من الحاضر أو يتعلق بالمستقبل، وقد يختلف الفلاحون حتى في أمور زراعتهم، وتتفاوت درجات الاختلاف وقد تصل إلى درجة التناقض في الآراء، إلّا إذا كان الموضوع يخصّ شخصية المرحوم القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش، فالكل متّفق وبالإجماع، الذي يكاد يكون مطلقاً، على أهمية وسمات ووطنية ونضالية هذه الشخصية، تلك الشخصية القائدة التي زهدت بكل المناصب والمراكز والإدارات، وقدّمت للوطن وللشعب، وكانت قدوة ومثالاً يُحتذى في الصبر على المكاره والمحن، وعلى شظف العيش وقسوة الحياة وتحمّل الجوع من أجل الوطن، وكانت مثالاً للتسامح واللين إلّا إذا كان الموضوع يمسّ الوطن، عندها تكون مثالاً للصلابة والقسوة والشجاعة والإقدام، فلم يتراجع سلطان الأطرش يوماً إلّا كحنكة حربية أو تفادياً لخسارة في معركة، تحمّل كل ما تحمَّلَه من أجل تحقيق هدفه النبيل في تحقيق حرية وتحرر سورية كاملة، ووحدة الشعب السوري بكل انتماءاته القومية أو الدينية والطائفية.

هذا الاتفاق على هذه الشخصية بكل ما تتميّز به لا شكّ جدير بالبحث الجادّ في أسبابه وعوامله، التي سأفرد لها باباً آخر في غير هذا المقال، وأردتُ هنا، فقط، إلقاء الضوء على هذه الشخصية الوطنية العاشقة لسورية، الجبلية المنبت، العروبية الهوى، المفطورة على الحرية، المُتشبِّعة بالقيم السامية، تلك الشخصية الجامعة المُجمِّعَة. وما دفعني لذلك هو أن الكثير من الكتّاب والباحثين ورجال الفكر والسياسة تناولوا شخصية سلطان الطرش كقائد عسكري فقط، ولم يفوا الجانب الخاص من شخصيته الاهتمام الكافي، وأرى أنه من الجدير بنا أن نلقي الضوء على جوانب من شخصيته التي قلَّما نجد لها مثيلاً في واقعنا العربي، تلك الشخصية التي جمعت بين التفكير العقلاني، والقيم الأخلاقية السامية، والنظرة الإنسانية، والبُعد في النظرة السياسية. فقد ربط بين الاحتلال وانعدام الحرية، حرية الفرد والمجتمع، بكل أشكالها، وغلَّب النظرة العقلانية المنطقية على العاطفة والمنفعة في اتخاذه لقراراته ومواقفه في كل ما يتعلّق بالوطن ومقاومة الاستعمار، متناسياً المصلحة الذاتية الخاصة.

لم يدرس سلطان الأطرش في الجامعات والأكاديميات العسكرية أو الفلسفية أو غيرها، إلّا أنه بفطرته السليمة وتربيته الوطنية الحقّة، رفض كل أشكال الظلم والاستبداد، السياسي منه والاجتماعي والاقتصادي، إذ نشأ في بيئة أسرية تمرَّست في مناهضة الاستعمار والاستبداد، وقد دفع والده ثمن مواقفه هذه، إذ نال شرف الشهادة على يد السفاح التركي العثماني بحكم الإعدام. من هنا لم يكن غريباً على سلطان الأطرش أن يرفض الاستبداد والظلم التركيين، وأن يرفض سياسة التتريك والتجهيل، وأن يقاوم النظرة الدونية للعرب، لذا أعلن المقاومة وحارب من أجل حرية وكرامة الإنسان. وقد أدرك غاية الأتراك في إثارة الفتنة الطائفية وتأجيج الخلافات الداخلية بين فئات الشعب وطوائفه وعائلاته، فدعا إلى رصّ الصفوف وتوحيد الكلمة والهدف. لذا كان الجبل ملاذاً آمناً لكل الأحرار الذين أدركوا أن الجبل عرين المقاومة، وأنه بوعيه الوطني وحسِّه الأخلاقي والإنساني لا يميّز بين المناضلين سواء كانوا مسيحيين أم مسلمين أو غير ذلك، كما أدركوا أن الجبل عصيّ على الطغاة، مُغيث للملهوف حامٍ للدخيل منجدٌ للمظلوم ناصر للحق.

ومن أهم ما تميّز به سلطان الأطرش هو تواضعه وعدم تفاخره بنسبه العائلي، وزهده بالمكاسب المالية، ونأيه التام عن المناصب السياسية والإدارية، ودليل ذلك رفضه القاطع لأي منصب سياسي أو إداري بعد أن حقّق الاستقلال، ورغبته بأن يعيش فلاحاً ومواطناً عادياً.

إذاً، وطنيته الفطرية، تمسُّكه بالقيم الأخلاقية الإنسانية، شجاعته وإقدامه، نزاهته وترفّعه عن المكاسب الشخصية، تواضعه، كل ذلك جعل مبايعته كقائد للثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي مبايعة لا لُبس فيها، بل جاءت بإجماع عام من مجاهدي ومثقفي سورية، الذين بغالبيتهم، تأثّروا بثقافة الثورة الفرنسية، لذا كان الحديث عن شخصية سلطان الأطرش مرتبط بالحديث عن الثورة السورية الكبرى والعكس صحيح، تلك الثورة التي انطلقت من جبل العرب(السويداء)، وتناغمت مع رغبة أبناء المحافظات السورية الأخرى بالتحرر، وتكاملت مع حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار.

وما يميّز هذه الثورة(الثورة السورية الكبرى) أنها الثورة الوحيدة، على مستوى المشرق والمغرب العربيين، التي لم تموَّل خارجياً، بل كان تمويلها ذاتياً بكل ما يلزمها من عتاد وسلاح رغم الإمكانية المادية المحدودة جداً للثوار. وكما كان هدفها طرد الاستعمار وتحقيق الاستقلال، كانت تهدف إلى إقامة دولة مدنية بعيدة عن التعصب والتمييز الديني أو القومي، تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، بدليل قول قائدها سلطان الأطرش(الدين لله والوطن للجميع)، الذي اعتبره أهم مبادئها وشعاراتها. هذا الوعي المجتمعي الذي كان سائداً آنذاك جعل التلازم واضحاً وأكيداً بين كرامة الوطن وكرامة المواطن، لذا ارتفعت أصوات الثوار وأفعالهم، من جنوب سورية إلى شمالها، ومن ساحلها الغربي إلى حدود العراق شرقاً، مناهضة لقيام دويلات في سورية كما يريد الاستعمار، كدولة الدروز ودولة العلويين ودولة دمشق ودولة حلب وغيرها، لذلك حطّمت هذه الثورة، رغم ضعف إمكانياتها المادية والعسكرية، لكن بإرادة الشعب التوّاق للحرية، مقولة أن العين لا تقاوم المخرز، فهزّت عصبة الأمم المتحدة، مما حدا بأحرار فرنسا أن يصدروا بياناً مناهضاً للاحتلال الفرنسي لسورية داعماً الشعب العربي السوري في مطالبه بالاستقلال والتحرر.

وهكذا، فتاريخ سلطان الأطرش هو تاريخ فقراء الجبل وفلاحيه (مُرقّعي العُبي)، الذين حقّقوا الانتصارات المتتالية سواء في الجبل وضواحيه، أو في الغوطة والشوف، وليست معارك الكفر والمزرعة والمسيفرة ومعارك غوطة دمشق إلّا شاهداً على ذلك، هذا جعل التأييد الشعبي للثورة السورية كبيراً، بل عاماً. ولنا بشهادة القادة العسكريين الفرنسيين دليل على تلك الانتصارات وذلك التأييد العارم للثورة، حيث اعترفوا بهزيمتهم واندحار جيوشهم وفشل حملاتهم العسكرية على أيدي الثوار. ولم يفلح الإعلام الزائف بتغيير وتشويه الحقيقة، حقيقة أن الثورة السورية الكبرى ثورة وطنية تحرريّة تهدف إلى تحرير الشعب السوري بكل فئاته وطوائفه وأديانه وانتماءاته.

وفي ظل ما نحن فيه الآن من أزمات خانقة على كل الصعد، نقول: أليس لنا مخرجاً مما نحن فيه لو استرشدنا واقتدينا بمبادئ ومفاهيم وأخلاقيات الثورة السورية الكبرى، وسمات قائدها الفذّ سلطان باشا الأطرش؟ وهل تكون لنا هذه الثورة العظيمة مثلاً يُحتذى في رصّ الصفوف وتوحيد الهدف والتماسك الوطني والتعاون لبناء دولة المواطنة؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني