نظام الأسد يحتمي بالأقليات ولا يحميها
يُدرك نظام الأسد أنّ إضعاف حاضنته الصلبة وتجويعها وإحكام السيطرة عليها ليبدو قوياً جداً أمامها، هو ما يُظهره قوياً أمام الجميع ومُمسكاً بأهم الحلقات التي مازالت تُبقيه جاثماً على صدور السوريين.
لذلك وكما كانت هذه الحاضنة (الطائفة) الرافعة التي ساهمت بوثوبه ثمّ استئثاره بالسلطة وشكّلت الضمانة الرئيسية لبنية واستمرار واستقرار حكم عائلة الأسد لنصف قرن مضى.
كان حكم العائلة حُكماً طائفياً غير متدين (ينبع من عدم تدين الطائفة نفسها) وما يجعل الطائفة متماسكة ومتمسّكة فيه هي مظلوميتها التاريخية التي تعتقد أنها تَعرّضت لها (وفي تلك المظلومية أقوال كثيرة لا تتماشى مع تلك السردية) لكن ما يَهمّ هو اعتقاد تلك الطائفة بتلك المظلومية.
وكانت سياسة الأسد الأب تتجلّى بتحويل الطائفة إلى جيش عسكري وأمني كامل يحمي سلطته ويتحلّق حوله، مهما كانت السياسات التي ينتهجها أو الشعارات التي يرفعها.
ولتحقيق ذلك لم يضع الأسد الأب في حسبانه أي خطط تنمية أو إنعاش حقيقية للريف العلوي بحيث يتحقق استقلال اقتصادي للأفراد تجعلهم في غنى عن الاندماج الكامل في السلطة وتحقيق بعض الاستقلالية عنها (أسوةً بغيرهم من السوريين).
كانت الدولة هي رَبّ العمل الوحيد ومصدر الرزق الأوحد…وكانت كل ّالأبواب مُشرعةً لدخول الشباب منهم إلى أقسام الأمن كلها والجيش بمختلف صنوفه وأشكاله، بحيث يكون العمود الفقري للقوى الأمنية والعسكرية منهم وبالطبع الرؤوس ستكون منهم، ولا مانع أو من الضروري أن يتم تطعيمها ببعض الأغصان غير المؤثرة من بقية السوريين.
ولا مشروع لحافظ الأسد غير الاحتفاظ بالسلطة وتوريثها ولا يوجد مشروع آخر غيرها، فكان الاهتمام كله مُنصبّاً عليها وبحيث تكون طوع بنانه والعصا التي يهش بها على خصومه لتخويفهم او لضربهم إن استدعى الأمر ذلك وثار عليه من لم يتمكّن من تخويفه.
وكانت سياسة العائلة الأسدية أن يبقى السواد الأعظم من الطائفة محرومين اقتصادياً وخائفين من أقرانهم السوريين (غير العلويين) مع زرع اليقين فيهم أنّ بقية السوريين تتحيّن الفرص للانقضاض عليهم وتخليصهم ما اكتسبوه من سلطة في لحظة تاريخية نادرة من الممكن ألا تتكرر، لذلك أمعن في استباق كل ذلك باكراً لخلق العداوة بينهم وبين السوريين وتجلّى ذلك في أواخر سبعينيات القرن الماضي بتوظيفه واستغلاله لحادثة مدرسة المدفعية في حلب وما تلاها من عنف طائفي مارسته السلطة بحق تنظيم الإخوان المسلمين وكان الهدف النيل من الطائفة السنية وترويعها بسجون تدمر ومآسيه والتصفيات أو المجازر التي وقعت فيه، إضافةً لأحداث حلب وحماة وجسر الشغور، وكان ختامها في حماة في شهر شباط 1982، حيث تم افتعال الأسباب الواهية لارتكاب مجزرة وحشية مروعة راح ضحيتها قرابة خمسين ألف سوري مدني من لون طائفي واحد خلال أيام، وكانت تلك الواقعة هي الأساس في ما يَتمّ تخويف الطائفة العلوية بها بأنّ السنة سيثأرون لضحاياهم ولن يحميكم منهم إلا بقاء عائلة الأسد في السلطة إلى أمد طويل.
عمل الأسد الأب على الاحتماء بأفراد الطائفة في دمشق بحيث بنى لهم أحياءً عشوائية وأحزمة بؤس تُطوّق العاصمة.
كان خيار الأسد الأب للبقاء في السلطة خيار القوة والعنف والتنكيل بالخصوم في الهجوم الاستباقي عليهم وتحطيم كل بُنية ممكن أن تُشكّل خطراّ عليه مُستقبلاً، وكان يحرص على إبقاء 5% (تزيد أو تنقص قليلاً) من الشعب السوري في المعتقلات ودونما أسباب لتوقيفهم وذلك للاستمرار بالترهيب الدائم للعائلات وعموم المجتمع وبالطبع كانت عقوبة الإنسان العلوي أضعاف العقوبة فيما إذا بدر منه تَذمّر أو انتقاد أو معارضة لحكم آل الأسد.
لم يسلك الأسد الأب (ووريثه من بعده) مسلكاً في حكم سوريا تعتمد على التنمية وأبسط درجات الحوكمة وتحقيق استقرار اقتصادي ومجتمعي نسبي والسماح ببعض أشكال المشاركة السياسية (غير المؤثرة على سلطته كما يفعل بعض الملوك العرب).
وخيار القوة الذي تم اعتماده للبقاء في السلطة يعتمد في جوهره على البنية البشرية (الخزان البشري) للطائفة العلوية التي ترفده بالشباب والحياة.
وتحققت نبوءة أو مخاوف الأسد الأب في عهد ابنه الذي لم يمضِ العقد الأول من حكمه حتى انفجر المجتمع السوري (بكل طوائفه) بوجهه مطالباً بالإصلاح، ومن ثَمّ بالتغيير وإسقاط النظام.
وباندلاع الانتفاضة السورية لم يعانِ الأسد كثيراً بإحداث شَقّ عمودي للمجتمع السوري وقَدّم الثورة السورية لطائفته بأنها ثورة الأغلبية ضِدكم وما عليكم إلا تجاهل ما يُردّده السوريون من شعارات ومطالب فأنتم المستهدفون أولاً وأخيراً.
وبدأت ملامح صراع أهلي طائفي يطفو على سطح الثورة السورية سعى الأسد له باكراً عبر استفزاز مشاعر ومقدّسات السوريين من السنّة في عنف لفظي ومادي طالباً رد فعل مقابل أتى عفوياً ومنه من كان من صُنع النظام نفسه.
وانخرطت الطائفة العلوية كاملةً بجند الأسد للذود عنه وفي ظنها أنها تدافع عن نفسها وقدّمت خيرة أبناءها على مذبح العائلة الأسدية لاستمرار بقائها في السلطة، وبلغت أعداد قتلاهم بعشرات الآلاف (إن لم يكن أكثر).
ونجح الأسد بترويج مقولة أنه يحمي الأقليات من إرهاب الأغلبية (وتلك بضاعة رائجة يشتريها الغرب، ويدفن رأسه في الرمال مُتعامياً عن الحقيقة التي يعرفها تماماً).
وساهمت الثورة السورية بتوريط الطائفة العلوية أكثر في صدام مع المجتمع السوري حيث كانت سيف الأسد الذي يضرب به.
ولم يكن يُقدّم لها الكثير بل ساهم بإفقارها خلال سنيّ الحرب وصولاً إلى تجويعها فيما بعد.
حيث اعتبر ما قدموه من ضحايا أمر عادي أسوةً بغيرهم من السوريين في (محاربة الإرهاب) وأنهم بالذات يدافعون عن أنفسهم قبل أن يُدافعوا عن العائلة الحاكمة.
ساهمت انتفاضة السويداء الأخيرة في إسقاط كل أوراق التوت التي يحمي بها النظام عوراته وخاصة شعار حماية الأقليات، ونقلت الثورة السورية نقلةً نوعيةً وذلك بتأكيد البُعد المدني والسلمي (وهو جوهر الثورة السورية منذ انطلاقتها) للثورة في صراع شعب سوري (متعدد الأديان والمذاهب والقوميات) في مواجهة نظام مستبد جائر.
وبسبب انسداد الأفق أمام نظام الأسد من أي بارقة أمل تُحقق له اختراق جدران العزل السياسي المفروض عليه والحصار الاقتصادي على نظامه لإجباره على الولوج للحل السلمي الذي يُتيح حلحلة كل العقد السورية التي تَسبّبت بها عائلة الأسد طيلة النصف قرن الماضية وخاصة العقد الأخير، وعدم امتلاكه حلولاً اجتماعية واقتصادية لحاضنته الصلبة التي بدأت تتململ من الحالة الراهنة والمستقبل المظلم الماثل أمامها، وبسبب عجز النظام عن استخدام الحل الأمني في جبل العرب ومراقبة الحاضنة لهذا العجز والاستنتاج بأنّه طالما يوجد فيتو (من أي جهة كانت) على استخدام العنف ضد الأقليات فلن يستطيع استخدام أي عُنف في جبال الساحل فيما لو طالبت بما تُطالب به السويداء الآن.
ولأن النظام لا يجيد إلا إدارة الصراعات الأهلية والحلول الأمنية والعسكرية فلم يبقَ أمامه إلا استخدام الورقة الطائفية للحشد خلفه والتضحية بكل المطالب الأخرى، فالأمن مُقدّم على الطعام والشراب بالضرورة، وهذا ما سعى إليه نظام الأسد عبر استهداف أصلب الحواصن الصلبة عنده أي طلاب الضباط الذين أعمى الأسد بصيرتهم وأبصارهم وباتوا جاهزين للالتحاق في ميليشياته للاستمرار بحربهم على الشعب السوري.
وأعتقد أنه تم ارتكاب خطأ فادح في كل العرض الركيك وغير الاحترافي الذي أخرجته مخابراته، حيث كانت الرسالة المنوي توجيهها بقتل أفراد من الحاضرين وليس كل هذا العدد الكبير.
وبسبب مغادرة الوزير وصحبه من المسؤولين لمكان الاحتفال قبل دقائق من العملية وعدم إقناع الحاضنة بالرواية التي قدّمها عن استهداف المعارضة السورية المسلحة لهذا الحصن المنيع أمنياً ولرجحان كفة التفجير المتعمد من السلطة الأمنية لمكان الاحتفال والتسبب بهذا العدد من القتلى، فإنّ الكثيرين من أبناء الطائفة لم تنطلِ عليهم تلك الرواية وقد عبروا عن ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومن لم يقتنع أنّ نظام الأسد قتلهم فهو بالتأكيد تَعمّد عدم حمايتهم على الأقل، وبذلك قد ينقلب السحر على الساحر هذه المرة ولن تُفيد النظام المجرم السرعة في اتهام المعارضة المسلحة في الشمال السوري في نفس البيان الذي أعلن فيه عن العملية ولن يفيده معاقبة المعتدي (كما يدعي) بقصف جنوني أوقع العشرات من الشهداء والإصابات في صفوف المدنيين الأبرياء في أرياف إدلب وحلب، وقد تكون تلك الحادثة نقطة تَحوّل تُزلزل أسس كل السياسة التي اتبعها آل الأسد تجاه طائفتهم، وتكون بداية صحوة لهم.