fbpx

ما الذي تبقى من ماركس

0 191

في الخامس من أيار 1818 ولد ماركس الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

بعد وفاة ماركس في الرابع عشر من آذار (1887) م نشأت الماركسية.

لقد ظهرت باسم ماركس أحزاب شيوعية واشتراكية في كل أنحاء العالم، وانتشرت في أوساط جميع شعوب الأرض باستثناء الشعوب البدائية.

باسم ماركس قامت ثورات وحركات تحرر، بعضها نجح، وبعضها الآخر فشل.

باسم ماركس ولدت دول ذات أيديولوجية ماركسية – شيوعية في الجزء الشرقي من القارة الأوروبية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي الذي كان ينافس الولايات المتحدة بالقوة والتأثير على العالم، والذي أنتج الصراع بين هاتين الدولتين الحرب الباردة التي انتهت بانتهاء وجود الدولة السوفييتية.

باسم الماركسية سالت دماء وفُتحت سجون وعُذب بشر. سجون امتلأت بالماركسيين، وسجون أخرى امتلأت بأعداء الماركسيين.

في هذه اللحظة من التاريخ، وقد انتهت الحرب الباردة، وضعفت الحركة الشيوعية في العالم كله. وما زالت بقايا الشيوعيين قابضة على الجمر. في هذا الشرط التاريخي من زوال النقاش حول البنية التحتية والبنية الفوقية والصراع الطبقي والتشكيلات الاجتماعية وأولوية المادة على الوعي وقوانين التطور التاريخي والمنطق الديالكتيكي وبناء الاشتراكية في هذا الوقت من التاريخ ألا يحق لنا أن نتساءل ما الذي تبقى من ماركس؟ تبقى ماركس بلا “ماركسية”

وضعت كلمة ماركسية بين قوسين تعبيراً عن موقف من هذه اللاحقة التي تشير إلى المذهب أو الأيديولوجيا: فالياء والتاء العربيتان عندما تدخلان على الصفة تحولان الصفة إلى مذهب، تماماً كما هي حال Ism في اللغات اللاتينية والسلافية. دعونا نتناول السؤال الأرأس حول ماركس ما الذي تبقى من ماركس:

ألا يحق لنا أن نتساءل ما الذي تبقى من ماركس؟ للإجابة على هذا السؤال يجب التمييز أولاً بين ماركس والماركسية.

ماركس فيلسوف ومفكر ديالكتيكي كان مهجوساً بمصير سعيد للعالم، وهو جزءٌ لا يتجزأ من مفكري تاريخ الحداثة الأوروبية. فيما الماركسية مذهب سياسي اقتصادي فكري فلسفي أيديولوجي. الماركسية اتجاه يبدأ من تأسيس أول حزب شيوعي إلى أحدث حزب شيوعي راهن. الماركسية تعني بليخانوف ولينين وتروتسكي وخالد بكداش وغيفارا، تعني غرامشي وبوالنتزاس ولوكاتش وألتويسر وفيشر والعالم ومهدي عامل وما شابه ذلك.

الماركسية تعني الماركسية الروسية والماركسية السوفييتية والماركسية الصينية والفيتنامية والفرنسية والإيطالية واليمانية الجنوبية وبقاياها.

لكن السؤال عن ماركس ليس هو السؤال عن الماركسية، السؤال: سؤال عن ماركس سؤال ينتمي إلى تاريخ الفلسفة وتاريخ الفكر.

أشير بدايةً أن الفيلسوف – أي فيلسوف بمعنى الكلمة – لا يبلى أبداً، وإن لفّه النسيان في لحظة تاريخية ما، فإنه سرعان ما يعود للحياة عبر استحضار مفاهيمه أو بعض مفاهيمه للتأسيس عليها وإغنائها لفهم العالم المعيش، إن ماركس الفيلسوف، حاله حال (كانت وهيغل وفيورباخ وسارتر) وحال ابن رشد ابن طفيل، حاضر بوصفه منتج أفكار منتج مفاهيم. وإعطاء بعض المفاهيم المألوفة دلالات جديدة.

أي إن الذي تبقى من ماركس، ماركس المتنوع والمتعدد هو الفيلسوف ماركس وليس ماركس الذي يعيش في الماركسية.

الفيلسوف ماركس هو فيلسوف الحرية، أجل على عكس ما يعتقد به أعداء ماركس وما اعتقدت به التيارات الشمولية التي سادت لدى الدول الشيوعية، أجل ماركس هو فيلسوف الحرية بامتياز.

ماركس دافع عن الدولة المعقولة، والدولة المعقولة هي دولة الحرية، دولة تعيّن الحرية، الأصل إذاً في قيام الدولة المعقولة يقع خارج المسيحية خارج الدين، إنما هي ناتجة عن التاريخ الواقعي، الذي هو مسار وعي الحرية لذاتها. فمعيار الدولة المعقولة هو الحرية، ولهذا فدولة الحرية عند هيغل الفيلسوف في مرحلة الشباب هي انتصار عقل الحرية.

ماركس الفيلسوف يدافع عن مركزية الإنسان، بل هو المدافع القوي عن الإنسان المتمرد، ماركس فيلسوف التمرد يستعير أسطورة برومثيوس الذي حمى الإنسان عندما أراد زيوس إفناءه بالطوفان، هو الذي سرق قبساً من نور الشمس وخبأه في قصبة وأعطاه للإنسان، برميثوس هو الذي خدع زيوس ولهذا غضب زيوس على برميثوس، والفيلسوف هو الذي أخذ قبساً من نور الشمس من أجل الإنسان، ماركس فيلسوف الحرية يسعى لتحرير الإنسان من سلطة المال ويرى في المال اعتداء على ماهية الإنسان، وما ماهية الإنسان إلا الإنسان كما هو قبل أن يحوله المال إلى ما ليس هو، ماهية الإنسان هو الإنسان في الواقع، قبيح وجميل، مستقيم وحقير، ذكي وغبي، وفيّ وخائن، محب ومبغض، فاضل ورذيل، سيد وعبد، في حقل المال لم يعد بالإمكان تحديد صفات الإنسان كما هو في الواقع، بل في علاقته بالمال الذي يقلب الأمور رأساً على عقب، وبالتالي المال هو التشوه الكلي للإنسان الواقعي، في المال يغترب الإنسان عن ماهيته، وفي استمرار في الدفاع – دفاع ماركس عن ماهية الإنسان – يرى ماركس أن ماهية الإنسان هي الحرية، الحرية من كل ما يستعبد الإنسان، اللاهوت، الدولة، المال، وبالتالي إن الفلسفة المدافعة عن فلسفة الإنسان هي فلسفة الحرية، وما الحرية سوى أن يتحول الإنسان إلى سيد هذا العالم، إلى تطابق الإنسان مع ماهيته، تطابق الإنسان مع ماهيته يعني تحرر الإنسان من الأصنام، كل الأصنام التي تستبد به.

لا شك أن هذا الذي تبقى من ماركس من حيث هو فيلسوف الحرية هو الذي يجعل من ماركس دائم الحضور، أما ماركس الطوباوي، فهو الآخر، ماركس الذي يحلم بالمجتمع الذي يحقق الحرية.

ولعمري، إن ما من فيلسوف إنساني إلا ويجنح نحو الطوباوية، لأن الطوباوية هي رفض للواقع المعيش، وفهم مجتمع السعادة المطلقة على هذه الأرض، أجل، شيوعية ماركس هي أوتوبيا جميلة، شيوعية مجتمع يعيش فيه البشر متساوين، لا سلطة عليهم إلا سلطة أنفسهم.

المجتمع الشيوعي الطوباوي، مجتمع لكل حسب حاجته، مجتمع زوال الفرق بين المدينة والقرية، زوال الفرق بين العمل اليدوي والعمل العقلي، مجتمع الشخصية المزدهرة التي تجد الوقت الكافي للإبداع، مجتمع زوال الاغتراب بكل أشكاله العملية والدينية، وإذا كانت البشرية تسير نحو زوال الفرق بين المدينة والقرية، واقتراب أسس العمل اليدوي عن العمل الفكري مع استمرار التمايز فإن طوباوية ماركس هي حلم إنساني، جنة أرضية رآها صديقه إنجلز منجزاً علمياً وما هي بالعلم.

وعلى أية حال لابد من أن نكون دائماً حالمين بالمجتمع الأمثل حتى ولو كانت الطريق إليه طويلة.

ما تبقى من ماركس كثير جداً وحسبنا أن الحياة ما زالت جاعلة من الحالمين علةً للتغيير فيها.

يطرح الأيديولوجيون الأوفياء للماركسية، وهم صادقون، فكرة تجديد الماركسية بما يتلاءم مع شروط مرحلتنا المعيشة، أي مع ما يتلاءم مع مرحلة العولمة.

ولكن كيف يمكن تجديد مذهب ما من المذاهب الأيديولوجية ظهر في مرحلة محددة من التاريخ؟

كيف يمكن، ولماذا يجب أن نجدد أيديولوجيا حكمت نصف أوربا وانهارت دون أن تترك وراءها ما يدعو إلى الحنين إليها عند أجيال عاشتها، ونُسيت عن الأجيال الجديدة.

نسمع بين الحين والآخر دعوة لتجديد (الماركسية)، والتجديد في وعي أصحاب هذه الدعوة، يعني أننا أمام مذهب قُدّ مرة واحدة وإلى الأبد، وأننا قادرون، انطلاقاً من هذا المذهب، أن نصلح فيه ونصحح ونجدد انطلاقاً من إن الماركسية مذهب لا يصيبه البلى، وإنما يتعرض لبعض العطب القابل للإصلاح.

تنطوي هذه النزعة على ذهنية دينية، فإذا ما قارنا بين هذه الدعوة (لتجديد الماركسية)، والإصلاح الديني، سنجد قرابة ما بين الوعيين.

تقوم وجهة نظري التي أدافع عنها في هذه العجالة من القول على ما هو آتٍ:

إن الأيديولوجيا بوصفها وعياً دوغمائياً بالحياة تقع في تناقض مع مناهج البحث في العلوم الإنسانية والطبيعة، كما تقع في تناقض مع الفلسفة.

إذا كنا نعترف فعلاً بتقدم المعرفة الإنسانية وتقدم مناهج التفكير والبحث، وتطور الوعي الفلسفي، فإنه فمن الصعب أن نمنح أي مذهب أو منهج أو فلسفة صفة الصحة المطلقة ونحن نعيش تغير الأحوال، وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك، فما بالكم بالموقف من الأيديولوجيا، والأيديولوجيا لا تنتمي إلى العلم ومناهج البحث والفلسفة، فأن يدعو نفر من الأيديولوجيين لأن نغني المذهب كي يستقيم وضعه ونضمن استمراره لهو ضرب من الوعي الديني الصرف.

وعندي إن مناهج التفكير والعلوم طرق تعكس في حقيقتها مستوى معرفتنا بالواقع، بل إن المنهج ليس سوى معرفة تحولت إلى طريقة في التفكير.

ولأن المنهج هو معرفة تحولت إلى طريقة في التفكير، ولأن المعرفة متطورة دائماً ومتغيرة، وانتقال من المعروف إلى اللامعروف، فإن المنهج نفسه يغتني إلى الحد الذي قد يطيح بأساسياته، وقد يكون قطيعة مع منهج كان لفترة ما هو المنهج المتبع في فهم الظاهرة.

لقد مرت البشرية، وبخاصة منذ الربع الأخير من القرن العشرين، بانقلاب تاريخي كبير، فلقد انهارت منظومات اجتماعية كاملة ومنظومات معرفية حملتنا على إعادة التفكير بكل المسلمات التي نشأنا عليها وكبرنا.

بناءً ذلك فلم تعد تلك المصطلحات التي سادت ردحاً طويلاً من الزمن قابلة للحياة كدكتاتورية البروليتاريا والشيوعية العلمية، والحتمية التاريخية، والدولة الرأسمالية الاحتكارية واضمحلال الدولة، حتى فضل القيمة أحد أهم مفاهيم الاقتصاد السياسي عند ماركس لم يعد صالحاً لتفسير تراكم رأس المال.

لا شك عندي بأن أهداف البشر في تحقيق الإنصاف والعدالة، وتجاوز آثار التفاوت الطبقي، وتحرر الإنسان من الاستغلال، أهداف عظيمة واقعية أسس لها أكثر الحكماء والفلاسفة من كونفيشيوس إلى ماركس، ولا تحتاج إلى أيديولوجيا تنطوي على الحقيقة المطلقة، وتلبس إهاباً دينياً. وليس هنا أي سبب منطقي وواقعي يدعو بعض المصابين بالحنين إلى إبقاء أفكار لم تتحقق في التاريخ؟ بل إنها حين راحت تتحقق عبر الدولة أنتجت تخلفاً واستبداداً بذلت المجتمعات التي عاشت في ظل هذه الدولة جهداً كبيراً للتحرر منها، لماذا ندافع عن الفشل التاريخي.

المثلب الأساسي للوعي الماركسي الأيديولوجي في العالم ليس فقط نزعته الطوباوية، بل غياب فكرة الحرية في الخطاب الماركسي وغيابها في النظام الشيوعي الذي ساد فترة طويلة من الزمن، فقد نظر إلى الحرية، وما يرتبط بها من حالة الكرامة الإنسانية دائماً على إنها حرية اجتماعية في ظل رأسمالية الدولة المالكة وحدها لوسائل الإنتاج.

ندرك الآن، بتجربتنا، ماذا يعني غياب الحرية لدى الفرد، إن فكرة ازدهار (الشخصية الإنسانية) عند ماركس لم يكن لها أي حضور في الممارسة والوعي.

وهنا فإنا نميز بين وعي أيديولوجي، الذي هو الماركسية التي شحذت الإرادة الحزبية في كفاحها من أجل الأوتوبيا الشيوعية، وماركس بوصفه فيلسوفاً قابلاً للقراءة والتأويل والدحض.

وماركس قد انطوى على وعي أيديولوجي في حديثه عن الشيوعية، وهذا جانب لا قيمة معرفية أو فلسفية له، وهذا يعني بأن نتعامل مع ماركس بوصفه فيلسوفاً ينتمي إلى عصر، وتكمن أهميته بأنه صوة على طريق الوعي الفلسفي بالعالم.

إذاً لا تكمن القضية في تجديد الماركسية، أو في إصلاحها، بل في تجاوزها بوصفها أيديولوجيا، والتعامل مع الديالكتيك كالتعامل مع أي منهج فلسفي كالبنيوية والفنومينولوجيا.

أما أهداف البشر كالحق والعدالة والإنصاف والحرية فهي أهداف عملية، وتحتاج إلى كفاح عملي بدون مذهب صارم، لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه.

وقولنا هذا يجعل المعرفة الفلسفة – النظرية أساساً لوعي العالم، وللإمكانيات التي ينطوي عليها العالم، إذاك فإننا نحتاج إلى ماركس كما نحتاج إلى ابن خلدون، ونحتاج إلى ابن خلدون كما نحتاج إلى ليفي شتراوس، ونحتاج إلى ليفي شتراوس كما نحتاج إلى ميشيل فوكو وهكذا.

إن تحرير ماركس من الماركسية، يعني إعادة الطبيعة البشرية لماركس، الذي تحول بفضل الماركسية إلى قديس منزه عن الخطل.

لقد مات ماركس الأيديولوجي الطوباوي بموت الأيديولوجيا التي أخذت من ماركس اسمها، ومات ماركس الاقتصادوي، ولَم يبق إلا ماركس الفيلسوف القابل للحوار معه كما هو الحوار مع فيورباخ ونيتشه وسارتر.

إنه، أي ماركس ليس سوى علامة من علامات مسار الوعي الفلسفي بالعالم، قابل للعيش إن أردنا فلسفياً، ومتجاوزاً بفكرة نستلهمها من فلسفته لنبتعد عنه.

إن الفيلسوف والشاعر يمنحان دائماً للأجيال اللاحقة أجنحة للطيران، للطيران فقط.

لا أحد يعرف ما تريده أجيال الفلاسفة اللاحقين من ماركس، فلم يخطر على بال نيتشه أن تنشأ نظرات فلسفية، وبخاصة في فرنسا، من التأمل في نصوصه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني