fbpx

قراءة في رواية “الحلاج”

0 245
  • الكاتب: عباس أرناؤوط
  • ط. 1، ورقية، 2012
  • الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

نحن أمام رواية تاريخية ومعاصرة بامتياز الرواية مكتوبة بطريقة السرد الشعري. مليئة بالحكمة والفلسفة والوجد، واعادة قراءة الدين ليكون نصيرا للخير وضد الظلم وقرينا للعدل، وعمقاً شعورياً في النفس.

الحسين بن منصور الحلاج، أبوه يعمل حلّاجاً للقطن وهذا لقبة، ولد في منتصف القرن الثالث للهجرة، في زمن الخلافة العباسية حيث بدأت تدخل في مرحلة التحلل، وبداية هيمنة الجند الأتراك على الخلفاء وتحولهم إلى ألعوبة؛ ابن يقتل أباه ليأخذ الخلافة، وأخ يقتل أخاه، طفل يتوسد خلافة تقودها أمهات جواري وأمراء جند خصيان، أصبح الناس ضحية تكاتف الجند والخلفاء والجباة، أرهق الناس من المظالم والضرائب وصارت الحياة صعبة على الفقير، الترف عند الخلفاء وبطانتهم يصل إلى درجة الكفر.

في هذا الجو ولد الحلاج في إحدى قرى الأهواز، ترعرع في قرية تستر(نسبة لكونها تنسج رداء أو ستر الكعبة)، تتلمذ فيها على يدي أبو عبد الله التستري، العالم الديني الذي أعطاه يوما عنبا وقال له كُلْها عندما لا يراك أحد، وعندما عاد في اليوم الثاني يحمل العنب سأله لم لم تأكله، قال لم أستطع كان الله يراني، كبر الحلاج وفي داخله حضور لله والخير والحق، تعرّف على الظلم في كل ما يحيط به، كان الدين عند الحلاج حضور الله في كل أمر، وكان العدل جوهر الإسلام، في رأيه، وصل – في شبابه – صوته بطلب العدل إلى صاحب الشرطة، عاقبه بجلده وصلبه ليومين، لعله يتعظ، انتقل من تستر لبغداد وهناك عاصر ثورة الزنج التي قام بها علي بن محمد، ثورة مظلومين عبيد وُجدوا في الدنيا ضحايا يُسرقون من بلادهم مثل صيد الطرائد، يقهرون ويباعون في سوق النخاسة، ويتحولون إلى بهائم بشرية تخدم في البيوت والمزارع وكل الاعمال الدنيا، يعيشون حياة اقل من انسانية، وقد يكون مصير بعضهم الخصي، ونساؤهم إماء وجواري وعبيد، علي بن محمد صاحب الزنج انتصر لهؤلاء المظلومين وللإسلام دين حرية وعدالة وإنسانية، كان الحلاج مطلعاً على الحالة وينتصر لها على البعد، انتشرت حركة الزنج وشكلت شبه دولة، استنفر الخليفة العباسي جنده حاربوا الزنج كثيراً، ولم ينجحوا في إخمادها الّا عندما تحالف الحاكم والإقطاع، انتهجوا كل الوسائل؛ التكفير والدهاء وشق الصف والاشاعة، وهكذا استطاعوا أن يقضوا على تمرد “عبيدهم”، استقدموا جنوداً بالأجرة يخدمون كمقاتلين (مرتزقة) وأطلقت يدهم بالمال والنساء وكل ما تطاله أيديهم كغنائم، وهكذا انهزم الزنج وانتصر الظلم مجدداً، تُهدم البيوت ويُقتل الرجال ويُصلبون وتُعلّق رؤوسهم على أبواب المدينة وأولهم علي بن محمد قائدهم، هكذا تذهب دعوة للعدل لتكون ملهمة في التاريخ، ويعود الحاكم (الخليفة) وبطانته سيرته الأولى، تكاتف بين الخليفة وجنده المرتزقة وجباته على الشعب الذي لا يعرف كيف يؤمّن قوته حتى يؤمّن ضريبة للحاكم وعصبته ليصرفها على ملذاته من جواري وعبيد وغلمان، في وضع لا يوجد فيه قيم ضابطة ولا يردع الظالمين شيء، في هذا المناخ يتحرك صاحبنا الحلاج متعمقاً في ذاته وفي الوجود، ويقترب أكثر من خالق الكون، متحسساً بشفافية علاقة العبد بخالقه، يذهب لمكة حاجّاً ومعتكفاً، يصوم سنة، ويعيش على الكفاف، يدخل في شرنقة نفسه يسمع صوت الله فيه، يستحضر نفسه سابحاً في ملكوته، كان خيالاً ونسمة وحضوراً روحانياً، بعد سنه قرر المغادرة، عاد لبغداد التي نعرف، تبلور داخل نفسه دين يقترن بالعلاقة العميقة مع الله، في النفس حضور الله وحبه والشوق له وامتلاء كيانه به، عدل مقيم في علاقة البشر مع بعضهم، انتقل الحلاج بعد ذلك الى تستر حيث بدأ بنشر دعوته بصدق العلاقة مع الله والعدل بين العباد، كذلك طلب من الحكام بحق الناس، ترصده أهل الدين وكهنته، أنكره المتصوفة؛ أنت تأتي ببدعة الخوض في أمور الدنيا، العدل والحكم هذه من أمر الحاكم ولا شأن لنا بها، نحن أرباب الله، أصحاب حضرته، ولا علاقة لنا بشؤون العباد، خلع خرقة الصوفية ولبس إزار المتسولين، حاربه أهل السنة (الظاهرية الذين يأخذون بظاهر النص ويرفضون التأويل في القرآن وغيرهم من أصحاب الأئمة الاربعة؛ الشافعي والمالكي وابن حنبل والحنفي)، أما أصحاب الخليفة اتّهموه بالدعوة إلى الحلولية والتجسيم (حلول الله في الإنسان)، اعتبروه مشروع ثورة ضد استغلال الخلافة والجند وجباة الضرائب للناس، من خلال مطالبته لهم بالعدل وعدم قصر الدين لخدمتهم ويخرجون الدين عن روحه العادلة الخيّرة، ورفع المظالم مثل دفع الذمي الذي أسلم للزكاة كمسلم، وليس الجزية كذمي “المسيحي واليهودي”، لأنهم لم يتأكدوا من إسلامه!، وتحديد الضريبة ومقدارها، وليس عليه إلا التنفيذ، استطاع الحلاج أن يطيل أمد صراعه مع الظلم والدعوة لإقامة العدل وتنوير الدين أمداً، كسب كثيراً من الناس لدعوته، كما وصل أنصاره ليكونوا من بعض خاصة الخلفاء، وبعض أمراء الجند وكثير من رجال الدين الذين فهموه وتفهموه، لكنه لن يستطيع أن يهرب من قدره حتى النهاية، فقد توافق الخلفاء والجند والجباة أزلام الخلافة مع رجال الدين، بأنه يهدد مصلحة كل الأطراف؛ مشروعية ظلم الحاكم وجنده وجباته وتشريع فقهاء السلطان من بعض رجال الدين لذلك، كل ذلك يضمن حق الحاكم وزبانيته ورجالات الدين حصتهم من مظالم الناس، كان تفاوتاً يستدعي ثورة، فبعد ثورة الزنج جاءت حركة القرامطة، التي كانت في أهم وجوهها دعوة إلى مساواة الخلق أمام الله والناس، وإلى توزيع الثروة بشكل عادل، دعوة القرامطة التي امتدت، حاربوها حتى تمّ استئصالها ايضا، تغير خلفاء كثيرون، بعضهم قتل، وبعضهم بُدّل ووزراء تغيروا، أما الموقف من الحلاج فبقي ثابتا، ادّعوا عليه زورا في دينه وفي اخلاقه، اتّهموه بالدعوة إلى التجسيد والحلولية وادعاء الربوبية، ولا دليل عندهم الّا أنهم يريدون التخلص من صاحب ثورة فكرية دينية ووجدانية، تعيد الإسلام ليكون نصيراً للإنسان وحقه بالعدالة والعيش الكريم، وتمت المحكمة بتهم زور، وحوكم بالإعدام في ليل بهيم، نُفّذ الحكم صلباً وتقطيعاً للأوصال ثم قتلاً ثم حرقاً وذر رماده في نهر دجلة عبرة لكل من يريد منع ظلم الحاكم أو قراءة الدين ليكون لمصلحة الناس وخيرهم وأن يكون نصيراً للحرية والعدالة، تنتهي الرواية ونحن أمام مشهد نعيشه اليوم حكام مازالوا يعتبرون الشعب عبيداً والبلاد مزرعة، ومازالت كل العقائد (دين وغيره) تستخدم من قبلهم بتبرير فقهاء السلطان ومثقفي الاستبداد، يقومون بذات الدور؛ تبرير الظلم والقمع والقهر وتقاسم الغنيمة مع الحاكم، على حساب حرية وكرامة وحياة الناس، مازالت ظروف الثورات قائمة ومازال تنوير الحلاج حاضر وسيفه للعدل قائم ومازلنا في خندق الثورة منذ ألف عام وأكثر، حتى النصر.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني