fbpx

في الخلافة والخلائف.. اللعب خارج التاريخ!

0 133

اقتباس: (ليست الثورة السورية ثورة المواطنين السوريين ضد نظام دكتاتوري مستبد، بل هي ثورة المسلمين السنة ضد النظام الدولي المتصهين الذي قام على أنقاض دولة الخلافة الإسلامية في إستانبول، والذي يمثل النظام السوري مجرد أداة من أدواته وركن من أركانه).

هذا هو جوهر فهم غالبية الحركيين الإسلاميين، وبطبيعة الحال الجهاديين في مقدمهم لمجمل حالة الصراع في سورية، وتكثف هذه السطور المقتبسة جوهر المشكلة العميقة مع هذا النمط من الذهنية الذي وجد مناخاً ومساحة يتحرك بها، في الثورة باعتبارها في بعض أوجهها حالة انفلات، وهدم لبنى وأنماط وقيم دولةٍ لم تعد صالحة ولا ملبية، بل ولا أخلاقية، فيسقط هذا الخطاب مرة واحدة عن السوريين سوريتهم، ويفتح زاوية معركتهم من مواجهة نظام استبدادي أقلوي رهن بلادهم للأجنبي كي يحتمي به، ويأخذهم مرة واحدة إلى مواجهة كل النظام العالمي المتصهين!!. ثم يوجههم ضمناً باتجاه هدف جديد هو استعادة الخلافة الإسلامية في إستانبول…! باعتبار أن الزمن توقف هناك، ولن يتحرك إلا بالعودة إلى لحظة توقفه..!

إن تجاوزنا هذا المثال المقتبس ودلالته، سنجد أن هذا النوع من الخطاب أو – حصيرة الفرش – لم تعد حالة خاصة، ولم يعد يقال مواربة أو سراً. بل أصبح السمة الرئيسة وعتبة التطلع التي لا يُعرَف كيف وأين ستنتهي، حتى لدى غالبية الإسلامويين ممن يختبؤون ” تقيةً ” وراء تعابير الدولة المدنية والديمقراطية وحقوق الإنسان. فالدوغمائية المضللة وازدواجية الخطاب، ستارة تغطي الانفصال عن الزمان والمكان، وتستر إضاعة البوصلة الوطنية لدى الغالبية منهم. كل هذا يبنى على استدرار العواطف واستثمار الغضب العام وتوجيهه ليكون غضباً مدمراً غير عاقل، هذا عدا عن الخلط ” المزمن” في أمرين جوهريين:

الأول: خلط بين الدولة والسلطة!! في استعارة تتطابق هذه المرة مع ما يقوم به أعتى أنظمة الاستبداد وأكثرها تغييباً للمفاهيم العلمية كالنظام السوري الذي يستمر في توصيفه نفسه باسم (الدولة) ما يفقده الحد الأدنى من فهم أولويات مفاهيم الاجتماع السياسي ومكوناته.

والثاني: الخلط في أسباب فشل مشاريع الدولة الوطنية!! وحصرها رغماً عن كل شيء بدعوى علمانيتها “الكافرة” التي حكماً وأكيداً أنتجت استبدادها؟!!.. في إيهام للعامة بأن العدل لا يمكن أن يتحقق إلا بنموذج يبنى على مفهوم الأمة الدينية الأولي البدائي سياسياً كما يفهمه هؤلاء في التراث الإسلامي. هذا بالإضافة إلى خلط ذو جرعة انتهازية بين مفهومي الثورة بمعناها المعاصر والجهاد بمعناه الكلاسيكي، بل ومعاني أخرى تشتق حسب الحاجة، وبالتالي هو لويّ لرقبة المفهومين وإلصاقهما معاً عنوة، لإنتاج مفهوم ملتبس بينهما يقبل كل التأويلات، مستفيدين جوهرياً ومباشرةً من حالة الغضب الشعبي العارم والرغبة بالانتقام وتوجيهها لإنتاج رد فعل من جنس فعل نظام الشبيحة لدى شرائح واسعة جراء الممارسات المتعمدة لأنظمة المحور الإيراني العميلة المتوحشة والطائفية التي شقت العراق مع سبق الإصرار والترصد، وعملت بشكل ممنهج ومنظم في سورية على العنف بشكله الطائفي العاري ليكون الاستقطاب والتقنفذ الطائفي ملاذها ودرعها الذي يدفع بأشواكه المسمومة ليذود عنها انسجاماً مع بنية نواتها الصلبة – على الأقل – كمنظومة عنف طائفية مافيوزية صرفة!.

ربما تكون هذه هي أهم الحصائر التي يفرش عليها الخطاب السياسي الذي يقدمه الحركيون الإسلاميون، ومن لف لفهم من حركات سياسية إسلامية ادعت فهمها للواقع والزمان الذي نعيش فيه، حركيون في مجملهم يحلمون بالسلطة ولا شيء سوى السلطة، باعتبارها أضحت حق حصري وتعويضي لهم!! تحت ادعاء أنهم الأكثر مظلومية من أنظمة القمع. ويجب إن أمسكوا بها ألا تقع من أيديهم بحال، ظناً منهم أن عصا السلطة إن سقطت بأيديهم ستكفي ليحذفوا من التاريخ ما يعجزون عن فهمه في سيرورته ومخرجاته وحقائقه، والعودة به وتثبيته عند أنماط أولية بدائية للدولة ووظائفها لا يعرفون بل لا يرغبون بمعرفة غيرها، ولا تعني أغلبهم إلا بمقدار تطابقها مع فهمهم الأيديولوجي، هكذا بلا قالب واضح، وبلا مفهوم محدد، سوى أن اسم الكيان الذي يبتغون (الخلافة…!) وكأن هذا العنوان يجدي في التهرب من مواجهة التحديات التي تفرض بناء دولة حديثة خارج المفاهيم السطحية التقليدية التي لم يعرفوا طعماً لغيرها، مع تجاوز غير منطقي بأن مفاهيمهم لا علاقة لها بالدولة الحديثة ووظائفها كما يتطلب الواقع، ولا مجال لتطبيقها في بناء مشروع دولة معاصرة قادرة – أقله – على التعايش مع النظام الدولي الحالي الذي فرض مجموعة من القيود والقوانين لا بد من التعاطي معها باعتبارها حقائق لا يمكن تجاهلها. إلا إن خاضت هذه الخلافة أو الدولة العتيدة منذ نشأتها إلى ما شاء الله حرباً هدفها هزيمة وإخضاع العالم الكافر…!!

لقد تكاثرت كالفطر في خضم أحداث السنوات الأخيرة مجموعات متشنجة عصابية استفادت تداخل الذاتي مع الموضوعي في بنية الحركات السياسية الإسلامية ونبتت على هوامش الربيع العربي وقبله بسنوات وإن بشكل رئيس بدءاً من احتلال العراق إذ استكملت الشروط والظروف الموضوعية الحاضنة لها، مضافاً إلى ذلك شيء من تآمر أجهزة ودول بعينها، فدفع موج هذا الربيع ضمن زبده ومفرزات غثائه– بشكل خاص تلك الثورات التي تحولت إلى مواجهات عسكرية – بالحركات الإسلامية الراديكالية السنية للواجهة لأسباب عديدة لا تقف عند الاستفزازات الطائفية المكشوفة والمتعمدة من قبل (الحلف الإيراني) بمكوناته وعملائه وعصاباته المختلفة وما فتحه من جروح لا سبيل لمعالجتها إلا بقرقعة السلاح. ولا تُختصر بضعف وهامشية وانعدام الكفاءة التطبيقية لمجموعات التحزب المعارضة وللنخب الحداثاوية (اشتقاق للتصغير)، ولا حتى بغياب الفكر السياسي المعاصر ومفاهيمه وتجاربه عن هذه المجتمعات ككل، فلهذا أسباب كثيرة ناتجة عن العمق والتشعب والتشقق في أزمات هذه المجتمعات وبنيتها، إلا أن هذه الأسباب أياً كانت لم تعفِ الحركيين الإسلاميين من استحقاق الإجابة أيضاً على الأسئلة الرئيسة التي تطرح نفسها فوراً، والتي اعتادوا في مواجهتها الفذلكة والمواربات واتهام من يسألها بعداوة الإسلام كدين عدا عن الكفر والإلحاد والزندقة.. وخلافه!!.. للهروب أو لتأجيل الإجابة على هذه الأسئلة الهامة والجدية التي لا يمكن القفز فوقها، وأبسطها كيف سيزاوجون مفاهيمهم مع النظام الدولي الذي ترفض اتفاقياته ومعاهداته –مثلاً- إخضاع أي دولة لمعايير الحكم والإدارة التي عرفوها فيما كان يعرف بدار الإسلام؟ وأن هذا النظام الدولي سيخيرهم حتماً بين الاستسلام لهذه القوانين والاتفاقات الدولية، أو العزلة الدولية على الأقل إن لم نقل الدمار للمجتمعات التي يتحكمون بها..! وهل يمتلكون الآليات السياسية المناسبة لحكم الدولة الحديثة؟ وهل يتوفرون على مشاريع قابلة للحياة تستفيد من التعاون مع العالم وتخص المجالات الحيوية في بلدانهم لتلبية حاجات الشعوب التي يتحدثون باسمها؟ بل هل يعون التحديات التي ستواجههم بتطبيق الشريعة في بلدانهم؟

لقد كانت هناك باستمرار أيقونات ذهبية أثيرة على قلوبهم – تصلح لكل شيء ولا تصلح لشيء – استخدمت من جميع حركات الإسلام السياسي تحضر في الأوقات أو المناسبات ” الدعائية ” الموسمية أو الدائمة على شاكلة عبارة أبو الأعلى المودودي ” الإسلام هو الحل” وكذلك “تطبيق الشريعة الإسلامية” إحياء للفطرة السليمة!!. أما عند الحاجة “للتحريض” وشيطنة الآخر فحديث (الفرقة الناجية من النار) بغض النظر عن سنده جاهز للاستخدام دوماً، وكذلك استخدام في وقته وفي غير وقته للآية الكريمة (لن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملّتهم).. بينما يأتي ما بين مساري الدعاية والتحريض لدى هذه الجماعات والحركات مسار ثالث يحمّل البسطاء أولاً الوزر وأسباب البلاء، في استدرار للعواطف وجلد للذات، والإيهام بآمال ووعود لا تتحقق إلا بحضور مكثف للغيبي في الحياة كشرط غير معروفة حدوده كي يسهل عليهم خالقهم عيشهم وحاجاتهم، والفشل والنجاح هنا طبعاً ليسا مرتبطان بالأسباب والمنظومات والتخطيط والإدارة واستثمار الموارد، بل يرتبطان ” بالضالين ” الذين هم عادةً من سواد البسطاء، الذين لم يعودوا بما يكفي إلى الله! ولم يتعلموا صحيح الإسلام بعد.. ولم يتعلموا كذلك الأخلاق الحميدة كما يجب…؟! ومثل هذه الوصفات تغطي لو أرادوا كل أنواع الفشل فلا يمكن قياس أسبابه أو تحديد عتبة له…!

تستمر هذه الحركات في هذا اللغو الذي تعتبره مطهراً لها، ومانحاً للشرعية، والأحقية، والأولوية التي تهرب بها وتعفيها من جوهر المعضلة وهي الخوض في المفاهيم السياسية الأساسية التي تؤهل أي طرف لتقديم نفسه باعتباره بديلاً حقيقياً لأنظمة حولت المشاريع الوطنية بعد مرحلة الاستعمار إلى رمضاء تكوي مواطنيها.

الدولة

لقد أخذ موضوع نشوء الدول وتكوينها حيزاً كبيراً في علم الاجتماع السياسي، وظهرت في مسيرة التاريخ نظريات عدة حاولت أن تجعل لنشوء الدول تفسيراً من خلال نسق محدد ومسببات تم تبنيها في أزمنة مختلفة. أولها (نظرية القوة) حيث اعتمد بعض الأقوياء على فرض السيطرة على الضعفاء وميلهم للخوف من الحروب والدمار واختيارهم الاستقرار مهما كانت نتائجه على حياتهم. وثانيها (النظرية الإلهية) التي تعتقد أن الدول تنشأ بمشيئة الله وليس البشر وبالتالي هو من يختار حكامها فتمتد سلطتهم لتمثل إرادته التي لا راد لها. أما الثالثة فقد فسرت نشوء الدول باعتبار (حاجة طبيعية بشرية) لأن الإنسان مخلوق اجتماعي يحتاج للأخرين ليتفاعل معهم ما أدى بشكل تسلسل طبيعي غير موجه إلى إنتاج الدول دون قصد في هذا، فيما ذهبت الرابعة إلى مفهوم (العقد الاجتماعي) الذي يعبر عن إرادة واعية وحرة لتجمع بشري معين في تشكيل دولتهم ومن ثم التعاقد مع السلطة التي تدير شؤونهم.

ومع تطور الاجتماع السياسي وانتشار الثقافة السياسية والمعرفة الحقوقية في المجتمعات المعاصرة فقد دفع بالنظريات الثلاث الأولى إلى الخلف حتى مستوى الاندثار وتصدرت النظرية الرابعة كقاعدة لنشوء الدول التي اقتضت أن تشكل الدولة وتدار بشكلها العصري ضمن هذا التعاقد وعلى أساسه، وهذا يعني بالضرورة وجود نظرية أو فلسفة سياسية تتكون بشكل رئيس من مجموعة نظريات على رأسها نظرية الدولة التي (تقدم أو تتبنى نموذجاً في آلية تشكيل الدولة وشرعية ومبررات وجودها، ونموذج العقد الاجتماعي وآلية إنتاج السلطة فيها، ونموذج ومعايير توزيعها)، وثانيها النظرية الاقتصادية التي ( تقدم أو تتبنى مفاهيم ونماذج في إدارة الموارد والثروات وتوجيهها والهدف المأمول من ذلك ) وثالثها نظرية في القانون والإدارة التي (تقدم نموذجاً تنظيمياً وأدوات تنفيذية أو تتبنى فلسفة قانونية ومدرسة في التنظيم والإدارة اللتان تعملان على تحقيق ما سبق ).. بالإضافة إلى مجموعة من مكونات وأدوات الدولة العصرية التي تحتاجها لتحيا اليوم.

هنا تنشأ وتتجلى المشكلة في العلاقة بين مفاهيم ومستلزمات الدولة المعاصرة وأدواتها والفكر (أو للدقة) والفقه السياسي الإسلامي في أغلب إن لم يكن في جميع حالاته، فكل هذا وغيره من مستلزمات أساسية لنشوء وإدارة الدول، لا نجده إلا لماماً في الفقه الاسلامي الذي تناول العقائد والعبادات تناولاً مفصلاً واسعاً. ولكنه في فقه المعاملات لا سيما في المجال السياسي والاقتصادي والإداري فقد كان أقصر خطى وأقل حظا لسببين:

الأول: خلاصته أن الفقهاء خلطوا بين فرع العقائد والعبادات الذي يعتمد على النصوص المنقولة، وفرع المعاملات الذي يفتح مجال المصالح المرسلة، واستصحاب النافع، والاستحسان وغيرها من قواعد فقهية. وهذا الخلط جعلهم يضيقون مجالات الفتوى والقضاء.” فنجد الشافعي مثلاً يقول: ” لا سياسة إلا ما وافقت الشرع” فجعل وغيره من الفقهاء الشريعة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق المعرفة والتنفيذ لها.

الثاني: النظم الاستبدادية التي حكمت مجتمعات المسلمين وضيقت الاجتهاد في مجال الأمور التي تؤثر على شرعية الحكم. لذلك “مثلاً ” لقي الإمام مالك عنتا شديدًا لأنه أفتى بأن ليس على مكره يمين، وهذه الفتوى تبطل بيعة قائمة أصلا على الإكراه. وكذلك خشية من البطش أوصى الماوردي ألا ينشر كتابه ” الأحكام السلطانية” إلا بعد موته.

وترك تقاصر الفكر أو الفقه السياسي في هذه المجالات المجال واسعا للمستبدين الذي تسلطوا على المسلمين باسم الإسلام ومارسوا عليهم ممارسات أذاقتهم عذاب جهنم في الدنيا قبل الآخرة.

وقبل الفقه، وفي العموم فالنصوص الدينية الإسلامية (القرآن والسنة) لم يحددا مفهومًا للدولة ولم يتناولاها أصلاً. فنجد أن نموذج الدولة الجنيني التي أقامها النبي في المدينة كانت بآلية الالتفاف حول المشروع الذي قدمه فكانت دولة “نبوية شورية” أو بالتعبير المعاصر “ثيوقراطية شورية” وثيوقراطيتها أتت من أن رأسها الذي يمارس السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ” نبي ” يوحى إليه، أما العنصر الشوري فيها فيظهر في أن النبي نفسه الزم نفسه بالشورى في كل الأمور التي سكت عنها الوحي.

ولهذا فدولة النبي في المدينة كانت نسيج خاص تتفرد به وحدها لأن ما جاء بعدها لم يكن على رأسه نبي يوحى إليه، إلا أنها لم تراكم ما زاد عما يمكن أن تراكمه (القرية الدولة)، يضاف إلى هذا أن النبي لم يحدد من سيخلفه على دولة المدينة، بل لم يكن أحد يعلم أو حتى يملك تصوراً عن استمرارها من عدمه وعما ستؤول إليه الأمور أو حتى عمن سيخلف النبي لذلك اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وهموا باختيار أحدهم- سعد بن عبادة- خليفة. ولكن الاجتماع حضره “صدفة” بعض المهاجرين وجادلوا الأنصار في الأمر إلى أن وضع عمر بن الخطاب الحاضرين أمام الأمر الواقع بالإقدام على بيعة أبي بكر الصديق فتتالت بيعة الآخرين، ولما كان الإجراء كله غير مدبر فقد وصف عمر بن الخطاب بيعة أبي بكر بأنها “فتنة وقى الله شرها”، ولكن بني هاشم لم يقدموا في البداية على بيعة أبي بكر ولم يعلن علي بن أبي طالب البيعة إلا بعد مرور ستة شهور، بعد أن وصف ما احتج به أبو بكر وعمر أمام الأنصار بالأحقية القرشية بأنه كمن احتج بالشجرة وترك الثمرة- أي أن منطق الأحقية القرشية يتراجع أمام الأحقية الهاشمية.

من جهتهم الشيعة كجماعة إسلامية تؤمن أن النبي عين علياً بن أبي طالب خليفة له في غدير خم، بقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه، وقال لعلي: أنت من بمثابة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. فإن النصوص التي اعتمد عليها الشيعة في تعيين النبي خليفة بعده لم تكن قطعية الورود وقطعية الدلالة. وإلا لما اجتمع كبار الأنصار يريدون بيعة سعد ولما خالف ذلك التعيين كبار المهاجرين. والراجح إذن هو أن النبي ترك أمر الخلافة شورى بين المسلمين.

أما الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين فقد كان رأسها شخص تركزت فيه كل السلطات، ولكنه لم ينل منصبه نتيجة التغلب بالقوة، ولا نتيجة التوارث بالنسب، وكان رأس هذه الدولة يعلم حدوده ويعلم قيمة وأهمية رأي الآخرين معه على حد تعبير أبي بكر الصديق: ” وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أصبت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني”.

صحيح أن الخليفة من ثم أمير المؤمنين في عهد الراشدين كان رأس السلطة التنفيذية والقضائية والفتوى والجيش، ولكن الخلافة نفسها كآلية إنتاج للسلطة لم تكن على نمط واحد.

فأبو بكر الصديق أجرى مشاورات في أواخر أيامه واختار عمراً ليخلفه. وعمر في ساعة احتضاره ترك الأمر شورى بين ستة من الصحابة. وعثمان لم يمهله قتلته ليقرر بشأن الخلافة. ولما قتل بايع أهل المدينة علياً وامتنع أهل الشام عن بيعة علي بن أبي طالب مؤيدين أميرهم معاوية بن أبي سفيان الذي جعل قضيته المطالبة بدم عثمان هكذا انفتح الباب واسعا للتوجهات المتعددة والصراع السياسي المفتوح الذي سمي في التاريخ الفتنة الكبرى.

وبعد مقتل علي آل أمر الخلافة بحكم الأمر الواقع لمعاوية لأنه كان منافسه الأول، ومزاحمه على القيادة. وبايع شيعة علي الحسن بن علي أميراً للمؤمنين، ولكن الحسن نفسه بايع في فترة لاحقة معاوية.

وبعد أن استقر الأمر لمعاوية مال إلى استخلاف ابنه يزيد، فأتت على هواه نصيحة المغيرة بن شعبة الذي قال له: ” قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد منك فاعقد له، فان حدث بك حادث كان كهفا للناس وخلفا منك، ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة”. ولما كان مبدأ الاستخلاف الوراثي هذا جديداً على المجتمع العربي فإن معاوية استوفد الناس من أنحاء البلاد وأكرههم على البيعة ليزيد، على حد تعبير يزيد ابن المقفع الذي حضر مجلس معاوية مع الوفود وقام فقال: أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية وإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد (ومن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه)!! فقال له معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء..

وعلى هذا تم تداول أمر الخلافة (إمارة المؤمنين) مرتكزًا إلى القوة والوراثة الرحمية على نحو ما كان عليه الأمر قديمًا في دولتي الروم والفرس. وعلى هذا النمط سار الأمر في عهد بنى أمية وعهد بني العباس وما تلاهما من عهود. ومنذ ذلك الحين صارت الدولة التي تحكم المسلمين وكيانهم السياسي ما يطلق عليه اليوم دولة أوتوقراطية استبدادية.

لقد كان واضحا أن واقع الدول المذكورة يناقض تعاليم الإسلام في جوهره، هذا التناقض دفع عدد من علماء المسلمين أن يحاولوا استجلاء الأمر ويوضحوا موقف الإسلام من الإمامة والخلافة والدولة. ولكن هذا لم يكتمل لأن النظرية يجب أن تتحول من رؤية إلى سياسات وقوانين وإجراءات، ومن ثم تجرب وتعدل ويزاد عليها أو ينقص منها.. وكل هذا يحتاج لمجتمع يتبناها ويطبقها لسنوات للاستقرار عليها، وهذا ما لم يحصل قط. ولكن مع هذا برزت كنتائج لجهد القلة صياغة نظريات عديدة أهمها نظريتان:

نظرية سنية جسدها الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية” والأخرى النظرية الاثنا عشرية الإمامية وأهم من صاغها المجلسي في كتابه ” قوت القلوب”.

في النظرية السنية تجتمع السلطات كلها في يد الخليفة، وهو شخص ذو مؤهلات سبعة هي: التقوى، والعلم، وقوة الرأي، والشجاعة، والعدالة، والنسب القرشي، ومن يختاره هم أهل الحل والعقد، كما اختير أبو بكر وعثمان وعلي، أو يستخلفه الخليفة السابق استخلاف يرتضيه المسلمون كما استخلف عمر.

هذا الرأي وإن لم يرفض نظرياً، لم يطبق عمليا ولم يجرب، بل بقي هو وأمثاله محبوسا في النطاق النظري بينما استبد بالواقع تعاقب الخلفاء وراثة بين الأخوة أو بين الآباء والأبناء مع إكراه الكافة على الطاعة بالقوة، واستسلم جمهور الفقهاء لهذا الواقع خشية الفتنة.!! التي لم تغب فعلياً وإن انحصرت بين الورثة، الذين كثيراً ما لجؤوا لحسمه بالعنف، فقتل الأخ أخاه كما فعل المأمون بالأمين، وقتل الابن أباه كما فعل المنتصر بالمتوكل، وقتلت الأم ابنها كما فعلت الخيزران بالهادي. بل بلغ الأمر درجة إهدار حقوق الآخرين في سبيل السلطة والحكم، فالسلطان محمد الفاتح 1451- 1481م وهو من أهم سلاطين العثمانيين، أصدر قانونا يتيح لمن يتولى العرش أن يقتل أخوته الذكور، وبالفعل قتل محمد الثالث 19 أميرا هم اخوته الذكور. وسالت الدماء أنهارا لحسم خلافات الإمامة أو الحكم، حيث قال فيها الشهرستاني: “أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة”.

أما النظرية الشيعية فخلاصتها أن الإمامة ركن من أركان الدين، وأن الله أمر بطاعة الإمام كما أمر بطاعة النبي، ولا يمكن أن يأمر الله بطاعة غير معصوم لأن طاعة غير المعصوم تفتح باب الذنب. والإمام علي بعد النبي على ولايته. وبعد علي تتسلسل الإمامة في عقبه، وهم الحسن ثم الحسين وهكذا حتى الإمام الاثني عشر محمد الحجة الذي غاب منذ إثني عشر قرنا، وسوف يعود ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.

هذا الرأي مهما كان مؤهلاته النقلية لم يؤثر على واقع الحال فالإمام علي نفسه بايع أبا بكر، ثم بايع عمر، ثم بايع عثمان قبل أن تعقد له البيعة، أما الحسن فقد بويع بعد مقتل والده، ولكنه بعد حين تنازل وبايع معاوية. والحسين خرج على يزيد بن معاوية فبطش به، أما الإمام الرابع علي بن الحسين الملقب بزين العابدين فقد سالم النظام الأموي، واتبع الأئمة الآخرون خطته هذه حتى أن الفاطميين من نسل فاطمة بنت رسول الله الذين خرجوا على السلطة القائمة بعد مقتل الحسين خرجوا دون أن يؤيد خروجهم وثورتهم إلا الرجال المعدودين في سلسلة الإمامة الاثني عشرية.

وإن سلمنا بصحة هذه النظرية فإن أهمية الإمام المعصوم أن يكون موجودا بين ظهراني “الأمة” ومعترفًا به ليرشد ويطاع. ثم وقد اختلف الناس على الأئمة أثناء وجودهم فكيف بغياب آخرهم أغلب عمر الإسلام ومجتمعات المسلمين مما ينسف النظرية بكاملها.

والحقيقة.. لا النصوص الإسلامية القطعية، ولا التجربة التاريخية، ولا نظريات الفرق الإسلامية تمدنا بصورة ملزمة لمفهوم الدولة في الإسلام. وحتى الالتزام بمبادئ الإسلام الأساسية كالشورى والعدالة. تبقى مبادئ عامة ولا تف بأي غرض.!

نظام الحكم

لقد ترك نظام الحكم في الإسلام، ربما لحكمة الأديان، وميلها للعموميات للاجتهاد البشري، لتجنب الانزلاق والبت فيما هو متغير وخاضع لتطور وتذبذب التجربة الإنسانية، فلم يرد في القرآن الكريم أي شيء عن آلية تشكيل الدولة، أو إنتاج السلطة، أو ما ينظم العلاقات بين عناصرها، كما أحجم النبي عن حسم كثير من الأسئلة المتعلقة بالسلطة السياسية حتى في اللحظات الأخيرة التي سبقت وفاته، وبقي كل ما أنجز لاحقاً حول تعريف السلطة، وتحديد مكوناتها، وتنظيم توليتها، وتشكيل علاقاتها على ضآلته بالتراث الإسلامي في باب الاجتهاد البشري، ولقد كان اجتهاداً اعتمد أساساً في مقارباته على نماذج ونواميس الحكم القائمة آنذاك داخل القرى والمدن والممالك والإمبراطوريات، فوضع في أغلب ما وضع في مقاربات وقوالب أخلاقية وشرعية تقديرية، يمكن التملص منها أو تأويلها حسب حاجة الحكام وزمانهم، ولم ترق في أي حال لأن تكون ضوابط شرعية سياسية وإدارية فتتحول فيما بعد إلى إجراءات ومفاهيم منهجية، ولهذا خلف الاجتهاد وراءه ركاماً فقهياً مختلف عليه. ويغلب عليه بشكل خاص الاستنسابية المرتبطة بالشروط المحيطة في كل زمان، بدءاً مما قامت عليه دولة الخلافة الأولى في علاقتها بشكل خاص مع الآخر (غير المسلم)، إذ اعتبرت آنذاك أن أساس علاقة المسلمين بغير المسلمين أو بالرافضين دخول الإسلام هي ” الحرب ” دون غيرها، وعلى هذا تم تقسيم العالم إلى دارين، دار إسلام، ودار حرب، إلا أن هذه الثنائية لم تشمل كمفهوم وكعلاقة كل التاريخ الإسلامي الذي تعاطى من مر فيه كحكام مع الظروف والأشكال السائدة في أزمنتهم، وحسب اجتهادهم وفهمهم لها. وقبل كل شيء تعاملوا معها حسب ميزان القوى السائد، هذا مع أنهم بعلاقتهم مع بني جلدتهم من المسلمين استمروا في أغلب حالاتهم على ثبات جوهر نموذج واحد للحكم لديهم على العموم، فقد بدأوا منذ بني أمية بنظام سياسي وراثي ملكي وانتهوا بعد أربعة عشر قرناً إلى بني عثمان بنظام وراثي ملكي أيضاً.! حتى وإن كان شكل إدارة الحكم في تفاصيله قد تطور وتغير مع الوقت والظرف، بحكم الحجم والمساحة المغطاة بشرياً (الديموغرافيا) والانتقال من القرية الدولة، إلى المدينة الدولة، إلى الإمبراطورية الدولة، التي درات عليها الأيام ككل الإمبراطوريات فوصلت في أكثر من مرة إلى حالة الإمبراطورية المتفككة…! هذا مع ملاحظة نؤكدها من جديد رافقت كل الحالات على اختلاف أطوارها، مفادها أن كل النظم والأساليب الإدارية التي اتبعها الحكام المسلمون منذ وفاة النبي كانت اجتهادات أملتها طبيعة الخبرة المتاحة والظروف المحيطة وما رآه الحاكم في زمانه من المصلحة العامة، ولم تكن استجابة لنص ديني. بقدر ما كانت هذه النظم في نشوئها وتطورها واستمرارها مرتبطة بما يدور حولها من ظروف دولية واختلاط بالأمم الأخرى واحتكاك بثقافتهم، ولهذا وإن كان نشوء مفهومي (دار الإسلام ودار الحرب) قد جاءا نتيجة تطور الأحداث التاريخية الموضوعية داخل قرية صغيرة “يثرب” وما يحيط بها من صراعات، إلا أن هذا المفهوم لم يتشكل نتيجة نصوص دينية مباشرة وقطعية بل كان نتيجة مزج بين مبادئ الإسلام والحصيلة التاريخية لتراث المنطقة الديني، والصراعات السياسية والاقتصادية المرافقة له آنذاك، في صناعة بشرية خضعت لمبدأ التجربة والخطأ، وأثرت بشكل غير منتظم في قرى ومدن وممالك لاحقة عاشت في ظروف موضوعية أخرى. لا علاقة لظرفها بزمننا الحالي ما يجعل المفاهيم برمتها تقع في صدامات وتناقضات مع مكونات هذا العصر ونواظمه بطريقة غير عقلانية. فالأصل في مفهوم دار الإسلام هي حالة الحرب مع غير المسلمين كما سبقت الإشارة، وديمومة ما يسمى بجهاد الطلب حتى يفرض الإسلام على كل الشعوب الأخرى، وبهذا فهو حالة مستمرة لا تتوقف مادام هناك موانع أو مقاومة أو رفض للدعوة الإسلامية!!، فيما الأصل الذي بنيّ عليه النظام الدولي اليوم فهو الخضوع إلى حالة السلم بل وضرورة إظهار وتبيان العمل على إرسائه ضمن ما تفرضه مواثيق الأمم المتحدة، وبهذا فإن أي دولة تسعى لإعادة تأسيسها وفق مفهومي دار الإسلام ودار الحرب ستعتبر خارج نطاق النظام الدولي وتمرداً عليه، وتتعرض لاصطفاف دول العالم ضدها، وتصبح كيانا معزولاً. هذا قبل أن نصل إلى القبول الإجباري لضوابط الحرب والسلام كما وردت في المواثيق والمعاهدات الدولية..!

السيادة والنمطية

مفهوم السيادة في دار الإسلام يقوم على ما يعرف بالبيضة والعصمة، بمعنى أن سلطة الدولة وأمير المؤمنين تمتد حيث يشكل المسلمون (بياض السكان) أو أغلبية سكانية في أي منطقة من العالم، وهذا ما يشكل ضمان عصمة أنفسهم ودمائهم وأموالهم، وهو مفهوم يرتبط بالتوزع الديموغرافي (التوزع والكثافات السكانية) حرفياً ولا يعترف بالحدود الجغرافية أو السياسية، بينما تقوم السيادة في النظام الدولي المعاصر على أساس “الإقليم” أي الأرض والأجواء والمياه الإقليمية ما يرتبط حكماً بالرقعة الجغرافية للدولة التي تسجل حدودها هيئة الأمم المتحدة. وهذا ما أرسي واستقر منذ ما يزيد عن أربعمائة عام كمفهوم سياسي أساسي يقوم على مبدأ سيادة الدول بدأ بصلح ” وستفاليا” 1648م، وهو مبدأ قاد إلى نشوء ممالك ودول ذات نزعة قومية (وطنية) انتهت ببروز فكرة الدولة الأمة / أو الدولة القومية. وقد تطور الأمر إلى أن استقر على وضعه الحالي بعد تشكيل الأمم المتحدة عشية الحرب العالمية الثانية على قواعد رئيسة أهمها اعتبار الدولة /الأمة هي الوحدة الأساسية التي تشكل البنية الهيكلية للنظام الدولي. وعليه فلا بد من توحيد نمطية الدولة لتصبح متماثلة ضمن هذه الهيكلة، إذ لا يتم الاعتراف دوليا بأي كيان سياسي وقبول عضويته في النظام الدولي ما لم يلتزم بالمعايير النمطية. وكذلك حصر مسؤولية السلم والأمن الدوليين بمجلس الأمن طبقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو أهم أجهزة الأمم المتحدة وله سلطة قانونية على حكومات الدول الأعضاء، لذلك تعتبر قراراته ملزمة للدول الأعضاء. هذا عدا عن دول (حق الفيتو).

لقد كان ومازال تحدي النمطية من أكبر التحديات في تطبيقات أهل الإسلام السياسي وأهل الدعوة للخلافة بشكل خاص إذ أن النموذج النمطي للدولة الحديثة يتشكل من رقعة جغرافية (إقليم) تسمى وطناً، ويسمى أهلها شعباً أو قومية، ويعتبرون بدورهم مواطنين لهم وثائق تثبت شخصية الفرد منهم، ولا يستطيعون التنقل خارج أوطانهم إلا بجواز سفر وموافقة الدول المزمع المرور فيها، وعلى أرض الوطن تقوم السلطات وتقوم علاقات تسوس الشعب في إطار مؤسسي يسمى الدولة، والدولة تتكفل بحماية الوطن والشعب والحفاظ عل سيادته، وتنتج الدولة مؤسسات للقيام بالأدوار المناط بها، مثل الحكومة والجيش والشرطة والقضاء والسلك الدبلوماسي، وتتكفل الحكومة بتوفير الخدمات الأمنية والمعيشية والاقتصادية والتوجيهية، وتوفر للمواطنين التعليم والتدريب والوظائف والخدمات الصحية، وتنشئ القرى والمدن وتربطها بنظم اتصالات سلكية ولاسلكية وبشبكة مواصلات برية وبحرية وجوية، ولهذا تنشئ وزارات لتقديم الخدمات، وللدولة رئيس يمثلها في المجتمع الدولي وعاصمة وسفارات خارجية وعلم وطني وعملة وبنك مركزي…. الخ

هذه النمطية من جهة أخرى حملت الدولة المعاصرة مسؤولية الحفاظ على الثروة القومية، وتطويرها وتنميتها، ورعاية الأنشطة الاقتصادية من زراعة وصناعة وخدمات من أجل أن يصل عائد هذه الأنشطة إلى أعلى المستويات لتسويقها داخليا وخارجيا، مما ألزمها بتطوير المرافق والخدمات والبنى التحتية والفوقية، وتنظيم تحصيل الضرائب والرسوم وزيادة مصادر الخزينة العامة، وأضاف إلى مسؤولياتها فتح الأسواق الخارجية للمنتوجات المحلية، وضبط الميزان التجاري والحفاظ على قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأخرى وضبط معدلات التضخم، وأصبح لزاما عليها لمواكبة مقتضيات الدولة الحديثة أن تنضوي في ركب حركة الاقتصاد العالمية حتى يمكنها إدخال التكنولوجيا والنظم الحديثة في أنشطتها الاقتصادية والتجارية ولتطوير أنماط المعيشة، واستخدام الطرق التجارية الدولية التي تتحكم فيها أساساً الدول العظمى برًا وبحرًا وجوًا..!!.. وكل هذا يعني التطابق أو التشابه بأقل تقدير في نمطية الدولة كي تستطيع أن تحيا كجزء متداخل من النسيج الدولي للأمم والدول، وحتى إن بدت الأمم مستقلة وذات سيادة كاملة في قراراتها وعلى أراضيها، إلا أنها مقيدة بأنظمة معرفية وقانونية واقتصادية ومالية وأنماط من المعيشة واستهلاك وشبكات تواصل ونظم معلومات ومعاهدات دولية، ولا تستطيع أي دولة نمطية تحت أي شكل من أشكال الإيديولوجية أن تتحرر من هذه القيود، ولهذا فمشروع أسلمة الدولة النمطية لا يتطلب سن تشريعات إسلامية فحسب، بل إعادة إنتاج نظام معرفي يشمل كل ما سبق ذكره على أسس المفاهيم الإسلامية، وإعادة تشكيل أنماط المعيشة والعلاقات الاجتماعية بما يتوافق مع قيم الإسلام، وابتكار آليات للسوق وأدوات مالية توافق مبادئ الإسلام، كل ذلك يحتاج إلى إعادة إنتاج التاريخ البشري وفقاً لقيم ومبادئ ومقتضيات الإسلام لينتج نسخاً جديدة من القانون الدولي واتفاقيات ومعاهدات الأمم المتحدة!! فكيف سيتم هذا اليوم؟ بل وحتى تحدي تطبيق ما يعرف بالشريعة الإسلامية لن يقف عند خضوع الدولة لمقتضيات القوانين والمعاهدات الدولية الملزمة فحسب، بل ستستمر الضغوط حول ما يطلق عليه الغرب قضايا حقوق الإنسان التي أصبحت ناموساً عالمياً، وهي حزمة من المعاهدات والاتفاقات الدولية بمجموعها تسمى “الشرعة الدولية لحقوق الإنسان” وتتضمن الحقوق السياسية، والمدنية، والحقوق الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، وحقوق الطفل، والمرأة… الخ. هذا في حين أن جميع أدبيات الإسلام لا تتحدث في دار الإسلام مطلقاً عن مفاهيم مثل الوطن والمواطنة أصلاً، وذلك انسجاما مع مفهومها، ومع مبدأ السيادة الديموغرافي (البيضة والعصمة)، وعليه فقد عرفت هذه الأدبيات الخاضعين لسلطة دار الإسلام وحددت حقوقهم وواجباتهم وفق الانتماء الديني وصنفت حقوق وواجبات المسلم أو الذمي أو المستأمن إزاء دار الإسلام أو نظام الحاكم، بينما ليس من دولة معاصرة إلا إذا قامت على مفهومي الوطن والمواطنة والانتماء القومي (الوطني) أو الجغرافي بغض النظر عن موقف الفرد من الدين أو انتمائه الديني. هذا عدا عما يفرضه القانون الدولي لوجوب الالتزام بمفهومي الوطن والمواطنة ومعاملة رعايا الدول كمواطنين متساوين بالحقوق والواجبات دون أي اعتبار للدين والمذهب، أو الطائفة، أو العرق، أو الجهة.

مع هذا المشكلة اليوم في الحديث عن تطبيق الشريعة بعد كل ما ورد، مازالت تكمن أساساً في الإسلاميين أنفسهم، لأنهم لم يقدموا مشروعاً عملياً لتطبيق الشريعة الإسلامية على أرض الواقع. فرفعوا شعار “الإسلام هو الحل” ولا بد من تطبيق الشريعة الإسلامية، وما زالوا يهربون للمواربات والتعويمات والتأتأة كي لا ينكشف الغطاء عن الأزمة الحقيقية وراء الحديث عن تطبيق الشريعة، إذ بمجرد الانتقال إلى الواقع سينكشف حجم الخلاف حول تحديد مفهوم الشريعة أساساً وكيفية تطبيقها، بدءاً من مفهوم الشريعة ذاته! وهل هي فهم بشري ثابت؟ أم فهم متغير لأحكام الدين؟ وما هو الثابت فيها وما المتغير؟ ما هو المقدس وغير المقدس؟ هذا عدا عن استعادة الخلافات بين مذهب أهل الفقه، ومذهب أهل السنة، وبين فقه المذاهب الأربعة والمذهب الجعفري، وبين المجددين والتقليديين وبين الفهم المعاصر للدين والفهم السلفي بإصداراته المختلفة…الخ.

أخيراً يجب القول لمن مازالوا يؤمنون أن دينهم لا يكتمل إلا وفي رقبتهم بيعة (لخليفة) إن استمرار منصب “الخليفة” ذاته في فترات عديدة من تاريخ شعوب المنطقة وإن استخدم كرمز لوحدة وتمييز الكيان الإسلامي فقد كان أساساً لإضفاء مسحة دينية على السلطة المستبدة والمتعسفة، وتحويل الولاء إلى واجب شرعي مما ساهم جذرياً في تفريغ هذا المنصب وهذه الرمزية مع الوقت من محتواهما.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني