fbpx

فرنسا.. دروس ما بعد العاصفة!

0 159

جاء مقتل الفتى الفرنسي المراهق ذي الأصول الجزائرية نائل المرزوقي على يد ضابط شرطة مرور في ضاحية نانتير الباريسية وعلى مسافة صفرية وثّقتها الكاميرات ليكون مقتله بمثابة اشعال النار بالهشيم وكشف للمستور وذلك بخصوص نظرة الفرنسيين عموماً والشرطة الفرنسية خصوصاً تجاه سكان الضواحي والذين (يشكّلون قرابة خمسة ملايين من المجنسين والذين تعود أصول أغلبهم لدول المغرب العربي وغربي إفريقيا).

لقد شكّلت الضّواحي على الدوام جزراً شبه معزولة عن المحيط العام علماً أن أجداد قاطنيها ساهموا بإنجاز الكثير خدمة لفرنسا فالرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران يذكر في إحدى خطاباته قائلاً: “إن المهاجرين لم يأتوا بمفردهم بل تم جلبهم بالشاحنات والقوارب لأن فرنسا حينها كانت بحاجة للعمالة في المناجم وصناعة السيارات والأشغال العامة وجميع الصناعات الملوثة التي يرفضها الفرنسيون”.

إثر الحادثة الصادمة بدأ عصف تسونامي اجتاح جُل المدن الفرنسية بالمظاهرات الصاخبة والاحتجاجات والشغب العنيف حيث كان المشهد اقرب للتمرد المفتوح والذي رافقه أعمال تخريب واسعة ونهب للممتلكات العمومية والخاصة وكأن لسان حال المنتفضين يقول للمعنيين بالأمر: لم يعد لدينا سوى هذا الجنون لكي نُوصِل أصواتنا إليكم!! حتى أن إحدى الكاتبات لمقالات الرأي في الغارديان البريطانية كتبت: إن “فرنسا تجاهلت عنف الشرطة العنصري منذ عقود والآن تدفع الثمن”!! وقالت هيومن رايتس ووتش إن “نظام التّحقق من الهُوية مفتوح للانتهاكات من قبل الشرطة الفرنسية وتنطوي هذه الانتهاكات أحياناً على الإساءة الجسدية واللفظية!!”.

إن العاصفة التي اجتاحت فرنسا إثر مقتل الطفل نائل كانت عواقبها باهظة الثمن معنوياً ومادياً حيث أعادت للأذهان من جديد ملامح الأزمة المجتمعية المستفحلة في فرنسا منذ فترة طويلة بسبب فشل الحكومات المتعاقبة والنخب الفرنسية المتنوعة في معالجة مشكلة الهُوية بكل تجلياتها الثقافية والعرقية والدينية!! وبالتالي من هنا تتبدى قصور رؤية القائمين على شؤون الهجرة والاندماج بسبب عدم الالتفات لهذا التّنوع الذي هو مصدر إثراء للوحة الديموغرافية لفرنسا الجديدة.

إن فرنسا اليوم بحاجة لإعادة النظر بالكثير من قوانينها والعمل على تحديثها وتجديد آليات الإدماج والاندماج بعيداً عن الأسلوب التقليدي والعمل على إجراء جردة حساب واسعة بخصوص التعاطي مع الفرنسيين من جنسيات أخرى، انطلاقاً من تعزيز روح المواطنة وتعميق الشعور بالانتماء إلى فرنسا الوطن، ما يتطلب تطوير المناهج المدرسية وتطعيم الحواضر السكنية بتوليفة ديموغرافية متعددة وإعادة تأهيل واسعة للمجنسين وإزالة ما يلحقهم من حيوف تجعلهم يشعرون بالتهميش وعدم الاهتمام الكافي بوجودهم وتخفيف حدة الفوارق الطبقية وتوفير فرص العمل لسكان الضواحي والتوقف من قبل علماء الاجتماع وعلماء النفس عند ظاهرة المشاركة الواسعة في هذه الاحتجاجات الهوجاء من قبل أطفال قاصرين اعتقل المئات منهم!!.

لقد باتت فرنسا على موعد مع الاحتجاجات المتكررة منذ بروز ظاهرة السُتر الصفراء في مطلع كانون الأول من عام 2018 تنديداً بارتفاع أسعار الوقود وكذلك ارتفاع تكاليف المعيشة عموماً ورفع شعار إسقاط الإصلاحات الضريبية الجديدة، التي رأت بها استنزافاً للطبقتين العاملة والمتوسطة ودعماً لحيتان رأس المال ومن ثم جاء طرح مشروع تعديل قانون التقاعد الذي رفضه الفرنسيون حيث لاقى أوسع التظاهرات للمطالبة بإلغائه خصوصاً أن التبعات الاقتصادية لجائحة كوفيد 19 وما تركته حرب بوتين على أوكرانيا قد زادت الطين بلة، فاليسار الفرنسي يحمّل الرئيس ماكرون تبعات النهج المحابي لقوى رأس المال على حساب غالبية الفرنسيين بينما اليمين الفاشي والتقليدي يطالبه بتشديد قبضته الأمنية في مواجهة العنف.

إن استعادة النظام والسلم المجتمعي وعدم تكرار ما حدث يتطلب البحث في أس المشكلة والعمل على معالجة الأسباب بروح موضوعية وعملية وليس بتكذيب دعاوي المحتجين وعدم الانصات لما تقوله الدوائر الخارجية بخصوص تصاعد خطاب الكراهية وتنامي العنصرية في المجتمع الفرنسي وكذلك في الأجهزة الأمنية للدولة حيث فرنسا بقيمها الجمهورية أسست لحقوق الإنسان وليس من المعقول أن لا تتعامل الحكومة الفرنسية الحالية مع الحقائق الماثلة على الأرض ومن نُذر الشؤم أن تتنامى القوى العنصرية على أرض الثورة الفرنسية والتي ألهمت العالم وغيّرت التاريخ حيث نجد هذه القوى الفاشية اليوم تستقطب نحو ثلث الشعب الفرنسي كونها تتغذى على مجريات هذه الأحداث المؤسفة سعياً منها للوصول إلى الحكم وهذا سيحدث إن بقي ماكرون على نهجه وقد تصل هذه القوى للإليزيه خلال الفترة القريبة القادمة فتكون فرنسا قد ضُرِبَت في عقر دارها!!.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني