fbpx

ضد الخاتمة

0 223

لست أدري ما إذا كان الناس كلهم يسعدون بالانتباه، ولست أعرف إنساناً يعيش حياته بانتباه دائم، لكني أعرف أن هنا بشراً يعيشون في عادة دائمة. في الحياة اعتياد يحصل أن يكون هناك انتباه نادر.

أن تنتبه يعني أنك تنقل ذاتك إلى إعمال الفكر، العقل، فتتحرر من عادات التفكير وعادات السلوك. العادة طبيعية ثانية يعني أنك كائن آلي، فكيف يمكن أن نجدد الحياة بآلية اكتسبت بحكم العادة؟ أن تفكر يعني أن تتحرر من عادات التفكير، الخاتمة عادة تفكير أو ليس من التناقض أن اكتب ضد “الخاتمة”. في صفحات أخيرة من الكتاب ألم أجعل من “ضد الخاتمة” خاتمة؟ حين وضعت النقطة في آخر السطر الأخير تذكرت الخاتمة. لقد استبدت بي عادة الكتابة. لكني سرعان ما انتبهت: لماذا علي أن أختم الكتاب بخاتمة؟ تحوّل سؤالي إلى فكرة قابلة للتأمل، تأمل بهذه العادة: فعدت إلى كتبي فوجدتني أضع لكتاب” العرب بين الأيديولوجيات والتاريخ” خاتمة. ثم وضعت في الكتاب اللاحق “دفاعاً عن الأمة والمستقبل” عوضاً عن الخاتمة، ولم أضع لكتاب “أسرى الوهم” خاتمة أصلاً في “العرب وعودة الفلسفة” وضعت النهاية آخر القول، ثم عدت إلى الخاتمة في كتاب “الأنا” في هذا التردد الدائم بين “خاتمة “و “لا خاتمة” وعوضاً عن الخاتمة” و”آخر القول” كنت لا شعورياً أتأفف من الخاتمة.

حين انتبهت إلى الخاتمة وجدتني قد نقلتُ تأففي إلى قطيعة مع الخاتمة، إنها لزوم ما لا يلزم.

لماذا “الخاتمة”؟ لماذا كانت الخاتمة؟ لأن الكائن اعتاد على النهاية. الخاتمة – النهاية، إنها عادة – زبدة الكلام، بعد صفحات عديدة من القول المفيد يقرر الكاتب أن لكلامه الكثير زبدة؟ ولكن أين تكمن زبدة الكلام، في أي الصفحات وفي أي الفصول؟ أم هناك فكرة ما في كل فصل جديرة بالانتباه؟ ولكن من ذا الذي يقرر أن زبدة الكلام هي هذه، الخاتمة، حتى ولو أن الكاتب نفسه، ومن ذا الذي أعطى المؤلف الحق لأن يقول للقارئ: هذه زبدة الكلام – النهاية – الخاتمة – أليس في سلوك كهذا ممارسة استبدادية على القارئ؟.

الجواب نعم: لا يحق للمؤلف أن يقول للقارئ هذه زبدة كلامي، هبْ أن القارئ وجد الفكرة الأرأس في الصفحات الأولى من الكتاب، فلماذا لا تكون الصفحات الأولى هي الخاتمة إذا كان الأمر أمرَ زبدة الكتاب.

لا يمكن عزل الفكرة عن عرضها، عرض الفكرة هو الفكرة وقد صارت جملاً مفيدة، فإذا نظر إلى الفكرة ولادة ونضج ونهاية تكون قد عوملت معاملة الكائن البيولوجي. يستطيع الباحث- الباحث – شخص مجتهد يبحث فيما ليس مبدعه هو – أن يخلص إلى نتيجة. وعندها تكون الخاتمة التأويل النهائي للبحث.

حين كتبت “آخر القول” كتبت موضوعاً جديداً، لا علاقة مباشرة بعرض المكتوب في الفلسفة العربية. كتبت عن “جدوى الفلسفة” كانت جدوى الفلسفة مقدمة لكتاب “الأنا”. في خاتمة “الأنا” رأيت: “أن الوجود الأخلاقي للأنا – كما عرضنا – متحقق في الواقع والتاريخ. كما أن لهذا الوجود ارتباطاً شديداً بمفهومين لم يستنفدا التحليل: الحرية والقوة”.

هل كانت الخاتمة تَذَكُر؟ لا، فأنا لم أنس. كانت الخاتمة استطرداً، لم يجد له مكاناً في المتن. تحايلت على الخاتمة وجعلتها استطراداً، قولاً جديداً في علاقة الحرية بالقوة. الآن أكملت الغرض الذي وضعته لنفسي: فيما يختم جون ر. سيرل كتابه العقل بالزبدة في الفصل الأول، حاولت أن أعطي تفسيراً للعقل ينظر إلى الظواهر العقلية بوصفها جزءاً من العالم الطبيعي. وتصوراً للعقل بجميع نواحيه – الوعي، القصدية، الإرادة الحرة، السببية.

العقلانية، الإدراك الفعل القصدي.. إلخ، طبيعي بهذا المعنى لم يضف سيرل جديداً في الخاتمة. ولم يساعدنا على الفهم، ذكرّنا فقط بما قاله.

الخاتمة تذكير، تذكير بما قد ينُسى، لماذا يفترض الكاتب أن القارئ قد ينسى؟ هل يخاف المؤلف من “سوء الفهم”؟ افتراض “سوء الفهم” افتراض قراءة لا ترضي المؤلف ولهذا تأتي الخاتمة تذكيراً بالمقصد – قصد المؤلف. الفلسفة ضد الخاتمة- النتيجة، ليس للفلسفة نتائج نهائية. يستطيع عالم الاجتماع كـ “أميل دوركهايم” أن يختم كتابه “في تقسيم العمل الاجتماعي” بنتائج تجيب عن السؤال: هل أن تقسيم العمل – في الوقت نفسه الذي هو في قانون من قوانين الطبيعة – يمكن أن يكون أيضاً قاعدة أخلاقية للسلوك البشري؟ وإذا كانت له هذه الصفة، فلأي أسباب التي يتصف بها.

وإذا كانت الفلسفة تمُدح بسبب مشروعها الذي لا ينفد أو تُذم بسبب أنها لم تصل بعدُ إلى أجوبة عن أسئلتها، فإنها لا تنفرد بمثل هذا الامتياز أو العودة، فمن ذا الذي يستطيع أن يقول إن مشروع العلم قد اسُتنفد، أو أنه قد وصل إلى النتائج النهائية. لكن الفلسفة – وهي عصية عن أن تكون بحثاً جزئياً. أو وصفة لحل مشكلة خاصة – لا يمكنها أن تقول قولاً أخيراً أو شبه أخير كما هو حال السوسيولوجيا العملية، فباستطاعة فريق عمل سوسيولوجي أن يصل إلى أقرب الأسباب وأكثرها صحة لفهم ظاهرة الطلاق وتفسيرها في مجتمع من المجتمعات، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يقول من الفلاسفة قولاً فصلاً في العقل! ولأن الفلسفة هي هكذا فإنها تأنف الخواتيم وإن حصل وذهبت إليها بحكم العادة فإن خواتيمها لا تشبه خواتيم العلوم الأخرى. أو هكذا يجب أن تكون.

لكن للكتاب نهاية فهناك الجملة الأخيرة من الكتاب والتي تتطلب النقطة الأخيرة. النقطة الأخيرة آخر الجملة – الجملة الأخيرة تعلن أن هناك حداً للقول، تشير إلى أن النص قد اكتمل. لكنه لم يكتمل إلا لأن طاقة الفيلسوف قد استنفدت بهذا الشأن الفلسفي وبشكل مؤقت، لأن رحلة الفيلسوف رحلة عودة دائماً وانزياح وتأصيل وتعميق، يستطيع العالم أن يقول مطمئناً إن اكتشافه السابق كان في حدود تطور أدوات تقنية معينة، أما وأن هناك أدوات أكثر دقة فقد بينت أن ما كان صحيحاً قد غدا خاطئاً. لا يستطيع الفيلسوف أن يقول قولاً كهذا، لأنه هو ذاته أداة ذاته. ولهذا لا أحد باستطاعته أن يعلن أنه اكتشف الفيلسوف الحقيقي في نصه الحقيقي. فالذين يسهرون جراء نص الفيلسوف لهم الحق في إعلان اكتشاف وليس في ادعاء التقاط الحقيقة كما فعل إرنست فيشر “في لينين الحقيقي” أو “ماركس الحقيقي”. إذ يمكن لمفهوم قد مرّ عليه الفيلسوف دون إضاءة أن يصير مؤسساً لفلسفة جديدة.

الفلسفة ضد الخاتمة لأن الفيلسوف ضد الخاتمة والنقطة الأخيرة بداية جديدة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني